أموال حقيقية من عوالم افتراضية
أموال حقيقية من عوالم افتراضية(*) ألعاب حاسوبية من صنع الخيال متاحة (على الخط)(1)، تُمكِّن أربابَ الأعمال في العالَم النامي < هيكس.R>
يبدو الأمرُ وكأنه سؤال رَقْميّ لخيميائي(2) alchemist: كيف تحوِّلُ ذهبا افتراضيّا إلى ذهب حقيقي؟ سؤال وَجَدَ له مئاتُ الآلاف من «مزارعي الذهب»(3) في البلدان النامية جوابا يعود عليهم بالربح الجزيل؛ فأصبحوا أربابَ أعمال يكسبون عيشهم عن طريق أرباح يجنونها من ألعاب حاسوبية مباشرة على الخط. وبقيامهم بأدوار خيالية في هذه الألعاب، كقتل وحوش أو التنقيب عن الرِّكاز(4) أو الانخراط في أعمال أخرى، يحصِّلون منها «ذهبا افتراضيّا»، ومن ثَمَّ يعمدون إلى بيعه للاعبين آخرين، ربما من دول غنيَّة، مقابل مبالغَ نقدية حقيقية. ومع ما في هذا من خرق لقواعد القبول والمعايير المتعارَفة، فإن المتعاطين بهذه المبالغ الوهمية – بائعينَ ومشترين – يستعملون الذهبَ لتقرير مصير شخص في هذه الألعاب الخيالية.
وهكذا يستطيع «مزارع ذهب» في الصين، يمارس هذه الألعابَ ويبيع العملةَ الافتراضية، كسبَ أجر يعادل، بل يتجاوز أحيانا، ما يتقاضاه من تجميع قِطَع الدُّمى في مصنع مقابلَ عملِ 12 ساعة يوميّا. فاستتبع ذلك بزوغ هذه الظاهرة في السنوات العشر الماضية باعتبارها أسلوبا بارعا (مع كونه مثيرا للجدل) يتيح للدول الفقيرة كسبَ المال من تقانتَي المعلومات والاتصالات، وللعمّال الفقراء بناءَ مهارات رقمية قد تُنقَل فيما بعدُ إلى فعاليات أخرى من التقانة المعلوماتية لا تَمتُّ إلى الألعاب بصِلَة.
وفي غضون بضع سنوات فقط غدت «زراعة الذهب» عملا ضخما. وتشير أفضلُ التقديرات إلى أن آسيا، ولاسيما الصين حيث يقيم معظمُ مزارعي الذهب، تَستخدِم أكثر من 400000 لاعب يقضون أيامَهم في جمع «الذهب». وقد يبلغ مجملُ قيمة التجارة بالذهب الافتراضي بليون دولار على الأقل، علما بأن ما لا يقلُّ عن 10 ملايين لاعب في شتى أنحاء العالَم يقومون بشراء «الذهب» أو الخِدمات من مزارعين يساعدونهم على الاستمرار بممارسة اللعبة.
وفي حين كانت زراعة الذهب في الماضي أمرا شبه محجوب عمَّن لا يمارسون الألعابَ الحاسوبية، فقد باتت اليوم محطَّ اهتمام خبراء الاقتصاد وعلم الاجتماع، باعتباره صلةَ وصل يتقاطع عندها الغنيُّ مع الفقير، والحقيقيُّ مع الافتراضي. وقد أظهرَ الأكاديميون ووسائلُ الإعلام الجماهيرية في السنوات القليلة الماضية افتتانا بدينامية الألعاب التي تمثِّل عوالِمَ صغيرة تتحرَّك بسرعة كبيرة – إذ تتغيَّر سيرورةُ اللاعبين، أفرادا ومجموعات، صعودا وهبوطا في غضون أيام أو أسابيع، وليس على مدى عقود أو قرون تمثِّل فسحةَ عُمر إنسان أو مجتمع بكامله. وأراني شخصيّا أصبحتُ مغرما بزراعة الذهب بعد أن قابلت -ُ عَرَضا – تجَّارَ ذهب افتراضيِّين في أثناء ممارستي ألعابا حاسوبية خيالية على الإنترنت. وانتهت بي صلةُ هذه التجربة بمجال خبرتي في التنمية الدولية إلى منحى جديد من البحث، هو استكشاف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية لتجارة الذهب هذه.
كيف تعمل المنظومة(**)
تقع صناعةُ زراعة الذهب أساسا على أطراف عالَم الألعاب الحاسوبية التي تُعرَف اختصارا باسم (5) MMORPGs (يقوم فيها عدد كبير من اللاعبين بأدوار على الخط) مثل اللعبة World of Warcraft واللعبة EverQuest II. ومن شأن هذه الألعاب لا أن تخلُقَ للاعبيها على الشاشة عالَما افتراضيّا – يضمُّ منازلَ ومشاهدَ طبيعية وشخصيات خيالية (كالأقزام والعفاريت) – فحسب، بَلْ لها أيضا نظام اقتصادي افتراضي.
وبإمكان الذهب الوهمي الذي يحصِّله اللاعبون أن يشتريَ الدروعَ والأسلحة، والغذاءَ والدواء، أو أن يتَّخذَ حصانا أكبر سرعة، أو مركبة فضائية أرقى تجهيزا، وذلك تبعا للبيئة التخيُّلية الخاصة باللعبة. ويستطيع اللاعبون، بقتلهم الخصوم (من الوحوش وغيرها) وتنقيبهم عن الرِّكاز وقطعهم الأخشاب وغير ذلك، أن ينمُّوا مخزونَهم الخاص من الذهب. وكما في العالَم الواقعي، فإن جمعَ الثروة قد يكون عمليَّة مملَّة طويلة ربما تستغرق أسابيع أو شهورا، ومن ثمَّ فقد عَمَدَ بعضُ اللاعبين الأثرياء فعلا في عالَم الواقع إلى خيار آخر كثيرا ما يتبعه الناسُ عند اضطرارهم إلى تنظيف منازلهم أو غسل سياراتهم، ويتمثَّل باستخدامهم مزارعي الذهب – بدلا من خَدَم المنازل – لأداء أعمالهم غير المستحبَّة.
أما وقد ادَّخرَ «المزارعون» العملةَ، فقد صاروا الآن مهيَّئين لبيع هذه الثروة الافتراضية مقابل مبالغ مالية حقيقية، على واحد من آلاف مواقع وِب التي تسوِّق البضائعَ الافتراضية لاستعمالها في الألعاب الحاسوبية. وتُبرَم الصفقةُ عادة عن طريق الخدمة PayPal أو غيرها من الخدمات التي تقوم بتحويل المدفوعات مباشرة إلى شركات زراعة الذهب. وقد يصل الأمرُ إلى شراء نقد أجنبي في عالَم افتراضي. ففي اللُّعبة World of Warcraft، الأكثر رواجا حاليّا، تُباع 1000 وحدة ذهبية مقابل نحو 10 دولارات، أي بما يعادل سعر صرف يساوي تقريبا ينا يابانيا واحدا في مقابل دولار.
وما أن يتمَّ تسديد المبلغ الحقيقي يلتقي الشاري والبائع في مكان محدَّد في عالَم الخيال، حيث يسلِّم المزارعُ العملةَ المفترَضةَ إلى الشاري. ومع أن «المزارعين» يكسبون معظم ثرواتهم عن طريق بيع الذهب، فإن بوسعهم أيضا الانخراط في عملية «رَوْز مستوى القدرة»(6)، فينتحلون شخصيةَ الزبون ذي المستوى المنخفض (الضعيف، القليل البراعة)، ويرتقون بها إلى مستويات عالية من الصحة والقوة والبراعة. فعلى سبيل المثال، يكلِّف الارتقاءُ من المستوى 1 إلى المستوى 50 في اللعبة Lord of the Rings Online نحو 150 دولارا. وفي بعض الأحيان لا يتقمَّص المزارعون شخصيةَ الزبون، بل يؤدُّون بدلا من ذلك دورَ المُرافق الذي يلازم اللاعبين في تجاوز مهامَّ تنطوي على صعوبة أو غَرَر، كَمَن يستأجر شيرپـيّا(7) لبلوغ ذُرا جبال الهيمالايا.
ما قبل تاريخ الزراعة الافتراضية(****)
إن إيرادات الاتِّجار بالذهب الافتراضي ربما تعادل نصفَ العوائد التي تجنيها شركاتُ الألعاب نفسُها من اشتراكات اللاعبين، التي تؤلِّف نفقاتِ اللاعب الأوَّلية. أما كيف توصَّلنا إلى هذه النقطة، فقد اكتشفتُ – في سياق دراساتي – أن صناعة زراعة الذهب قد تطوَّرت على نحو يشبه كثيرا تطوُّرَ المنظومات الاقتصادية في عالَم الواقع: بدءا من المقايضة وانتهاء بتكوين وِب معقَّدة للتجارة العالمية.
كانت اللعبة(8) (MUD)، التي أطلقتها جامعةُ إيسيكس بإنكلترا سنة 1978، أولى ألعاب المجموعة MMORPG. وإذ تُعَدُّ هذه اللعبةُ عموما رائدةَ الألعاب الحاسوبية الحديثة جميعا، فقد أتاحت – بنموذجها الأصلي وتفرُّعاتها الأولى – لكثير من اللاعبين الاجتماعَ في عالَم على الإنترنت، وإن كان عالَما يوفِّر المعلومات عن الأشخاص واللاعبين والأشياء في سياق النصّ فقط. أما في نظام التطوُّر الاقتصادي، فإن لاعبي MUD هم في مرتبة المشتغلين بزراعة الكفاف(9) في المجتمع ما قبل الصناعي preindustrial society؛ حيث يُنتِج اللاعبون لأنفسهم فقط ويستهلكون ما ينتجون.
وكما هو الحال في مجتمع نموذجيّ لزراعة الكفاف، فقد بدأت المقايضة مقابل مفردات وهمية ذات قيمة. فلو أنني جئتُ مثلا بقلادة من الكهرمان زائدة، وكان في حوزتك سيف فائض، لكان بإمكاننا التبادل فيما بيننا. (بل يقال أيضا إن الذكور من اللاعبين كانوا يقدِّمون قِطَعا نادرة للاّعبات، على أمل – رُبّما لا يتحقق – باستجابة عاطفية أو ماديّة.) وتطوَّرت المقايضةُ حتى بدأت تشمل تبادُل قطع وهمية من الذهب، ثم إنها حقَّقت في مرحلة ما من ثمانينات القرن الماضي قفزة نوعية من عُملة اعتبارية إلى عملة حقيقية؛ فانبرى اللاعبون لتقديم نقد حقيقيّ مقابل أشياء غير ملموسة. ويُعبَّر عن ذلك، باستعمال المصطلحات الاقتصادية، بأن السِّلَع الافتراضية أصبحت ذاتَ قيمة مالية قانونية. وبالفعل غدا مصطلحُ «الاتِّجار بالأموال الحقيقية»(10) (RMT) يعني اليوم الاستعاضة عن النقد الحقيقي بأموال ومفردات وخدْمات افتراضية.
استمرَّ الاتِّجارُ بالأموال الحقيقية على مدى الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، حيث بات من الممكن تسمية لاعبي تلك الحقبة «بَســـاتِنــَة أســواق الذهب» gold-market gardeners، إذ إنهم توسَّعوا في مجال المقايضة، فراحوا يبيعون ذهبا افتراضيّا كنشاط إضافيّ لهم، بما يشبه عاملا في مصنع يقضي جزءا من وقت فراغه في فلاحة حديقة للخضراوات في الفِناء الخلفي لمنزله، ويبيع محصوله لكسب بعض المال الإضافي. وفي حين ما زال أولئك اللاعبون يركِّزون على الجوانب الترفيهية من اللعبة في المقام الأول، فإن الممارسين لها جزئيّا، مِمَّن يحصِّلون بعضَ المال عن طريق بيع أشياء إضافية، ما زالوا موجودين اليوم في مقاهي الإنترنت السَّيْبَرِيَّة cybercafes في الهند وإندونيسيا.
وفي عام 1997 وقعت حادثتان كان من شأنهما نقل هذا الركود الاقتصادي إلى المرحلة التالية من التطوُّر الصناعي الافتراضي: أُولاهما إطلاق اللُّعبة الحاسوبية Ultima Online، التي أصبحت بحقّ اللعبةَ الحاسوبيةَ المباشِرة المبتكَرة التي تحظى بإقبال جماهيريّ واسع؛ وثانيتهما انطلاق الموقع eBay، موفرا طريقة للتبادل رخيصَة التكلفة. وقد أدرك بساتنة أسواق الذهب شيئا فشيئا أنَّ في وسعهم إصابة أموال أجزى بكثير من مجرَّد مبالغ نثرية تُحْرَز بين الحين والآخر، ومن ثم أخذوا يتخصَّصون باستحواذ موادَّ ونقود افتراضية يمكنهم بيعُها، مركِّزين حصرا على لعبة تَخَصُّصِهم، بل ومتخلِّين في بعض الحالات عن أشغالهم الأخرى، تفرُّغا لتحصيل الذهب الافتراضي. وبذلك أصبح هؤلاء اللاعبون، الذين يغلب وجودُهم في البلدان الغربية بخاصة، هم روَّاد متعهِّدي الذهب الحقيقيِّين. وكانوا في ذلك مكافئين لحِرَفيٍّ حاذق، أو لنموذج إنتاج في صناعة الأكواخ. فكلَّما انطلقت لعبة جديدة على الخط، كانت العملةُ والأسلحة، أو سوى ذلك من الكيانات، متاحة للبيع على الموقع eBay في غضون بضعة أسابيع.
وشَهِدَ عام 1997 أيضا أزمةَ النقد الآسيوي، التي أرست أساسَ صناعة زراعة الذهب الحالية. وسعت الحكوماتُ الآسيويةُ إلى الخروج من الأزمة بالاستثمار على نطاق واسع في تقانتَي المعلومات والاتصالات. فأنشأ بعضُ العاطلين عن العمل محلاّت تجارية جديدة، كأكشاك البيع العمومية وغيرها، لتأجير حواسيب شخصية لممارسة الألعاب عليها. وأسهمَ ذلك في تنمية ثقافة راسخة للألعاب الحاسوبية في شرق آسيا.
العصر الذهبي لزراعة الذهب(******)
وبحلول عام 2001 كان بعضُ أربابِ الأعمال الأمريكيين في زراعة الذهب قد بدؤوا باجتذاب أصدقائهم أو حتى باستئجار أيد عاملة لكسب المال من هذه التجارة الجديدة. وتطلَّعَ نَفَر منهم – ولاسيما مَنْ لهم صلات أُسَرِيَّة خارجية – إلى بلدان تكون فيها التكاليف قليلة نسبيا، كأمريكا اللاتينية وآسيا. وفي الوقت نفسه، بدأ الكوريون الجنوبيون بتحويل مقاهي الإنترنت عندهم إلى مؤسسات لزراعة الذهب عن طريق اللعبة الخيالية المسمَّاة Lineage، التي تعود إلى القرون الوسطى، وهي أول لعبة من مجموعة الألعاب الحاسوبيةMMORPG لا تنتمي إلى دولة غربية. وما لبث التُّجارُ أن أخذوا يبيعون العملةَ الافتراضيةَ – وتُدعى أدينا adena – إلى لاعبين آخرين.
ومع تنامي شركاتِ زراعة الذهب في الولايات المتحدة وآسيا، فقد راحت تسير على خُطى الشركة Walmart وغيرها من الشركات، فعُنِيَت بخفض النفقات عن طريق استقدام يد عاملة خارجية لأداء أعمال التزويد الأساسية فيها. واتَّجهت بطبيعة الحال إلى شرق آسيا، بمنظومتها من اليد العاملة الرخيصة الماهرة القابلة لاكتساب الدُّرْبة سريعا، وببنيتها التحتية الواسعة والمتنامية. وبرزت الصين بنوع خاص كأكثر البلدان جاذبية، بالنظر إلى حجم ومهارة القوة العاملة فيها، مما جعلها محَطَّ الأنظار لزراعة الذهب. وفي عام 2004 أصابَ مزارعو الذهب نجاحا كبيرا وأرباحا مجزية مع انطلاق اللعبة الحاسوبية World of Warcraft، التي أضحت أكثر ألعاب المجموعة MMORPGنجاحا وأوسعها انتشارا على الإطلاق. وبحلول عام 2010 قُدِّرَ عددُ المكتتبين الذين تقمَّصوا دورَ إحدى الشخصيات وانخرطوا في مغامرات عالَم الخيال المسمّى عالَم أزيروث Azeroth بـ11 مليونا.
وتَنْزِع أكبرُ مَزَارِع الذهب اليوم إلى صفة التخصُّص أكثر فأكثر، تماما كما هو حال الزراعة والصناعة في أيِّ مجتمع صناعيِّ متطوِّر. فكثيرا ما يتَّخذ عدةُ لاعبين لدى شركةِ زراعة الذهب أدوارا مختلفة ضمن إطار لعبة معيَّنة: فقد يتولى الصيّادون مهمةَ اقتفاء الوحوش وقتْلها، وربما يقوم العاملون في المصارف بخَزْن الأصول ونَقْلها من مكان إلى آخر، في حين يروِّج «الأدلاّء» خدماتِ زراعة الذهب للاّعبين الآخرين. ويلاحَظ، إضافة إلى ذلك، أن تجَّارا مستقلِّين بدؤوا يستغلون خدمات مزارعي الذهب للإثراء من دون أن يمارسوا في الواقع لعبة واحدة بأنفسهم؛ فهم يبيعون ويشترون شخصيات أو أدوات خيالية كما لو كانت صكوكا ومستندات مالية في سوق وول ستريت (سوق المال في نيويورك). من ذلك مثلا أن يشتري تاجر حسابا يعود إلى شخصية ما، ثم يسخِّر خدماتِ أحد مزارعي الذهب لاستثماره ورفعه إلى مستوى أعلى، ويبيعه بعد ذلك إلى لاعب آخر مقابل ربح مادّي.
في أواسط العَقد الأول من القرن الحالي، أخذت تتشكل أزمة في زراعة الذهب، إلى جانب الإسكان الشامل والفقاعة المالية. فقد كانت الشركُ (11) (IGE)الكبرى (للألعاب الترفيهية على الإنترنت)، التي تعمل وسيطا بين مزارعي الذهب في الصين واللاعبين في الغرب، تحقِّق أرباحا شهرية تقع ما بين 10 و 20مليون دولار، وتوفر لكبار موظفيها رواتب بملايين الدولارات. وقد تمكن مزارع ذهب صينيّ من جمع مبلغ 1.3 مليون دولار في غضون سنتين فقط. كذلك بيعت بعضُ النثريات إفراديّا مقابل مبلغ وَصَلَ إلى 20000 دولار لكل قطعة. ولكنَّ العملةَ الافتراضية شهدت ما بين عامي 2005 و 2009 هبوطا في قيمتها بلغت نسبتُه 85 في المئة مقابل الدولار الأمريكي. وأظهرت أبحاثُ مركزِ معلوميات التطوير(12) التابع لجامعة مانشستر، الذي أتولى إدارته، أن فقاعة الذهب ما لبثت أن فُقعت مع دخول عدد كبير من التُّجار إلى السوق. ومع أن ظاهرة زراعة الذهب ما زالت رائجة، فإن الجهاتِ المشتغلةَ فيها انبرت في السنوات القريبة الماضية تبحث عن مَواطن أرخص فأرخص لأداء أعمال شركاتها، مشجِّعة بذلك على إطلاق مشروعات جديدة في ڤيتنام.
بادرة ردِّ فعل(*******)
غدت تجارةُ زراعة الذهب أمرا مثيرا للنزاع، لأن جمعَ النقد الافتراضي وبيعَه مقابل أموال حقيقية ينطوي على انتهاك لقواعد التعامل المقبولة والمتعارَفة. ولهذا السبب تسعى الشركاتُ التي تسوِّق ألعابا حاسوبية إلى وَضْع حدّ لزراعة الذهب، وذلك باتِّخاذ تدابير من قبيل حظر اللعب على الأفراد أو اللجوء إلى إقامة دعاوٍ قضائية.
وبصرف النظر عن الجوانب القانونية للموضوع، يَنْظُر بعضُ اللاعبين إلى زراعة الذهب على أنها لعبة حاسوبية جائرة لا مِراء في جَوْرِها، لأنها تَختزِل عمليةَ جمع الثروة (التي تستغرق في العادة زمنا طويلا) والارتقاء تدريجيّا إلى مستويات أعلى من اللعبة. كذلك يمكن أن تُحْدِثَ اللعبةُ تشتيتا لذهن اللاعب، كما تفعل رسالة سپامية (إعلانية غير مرغوبة) تَرِد على البريد الإلكتروني. فمن الصعب أن تتصوَّر نفسَك فارسا من القرون الوسطى تدافع عن مملكتك، في الوقت الذي ينهال عليك فيه وابل من النصائح تبرز أمامك على شاشة الحاسوب، تحيلك إلى عناوين على الإنترنت تغريك بشراء ذهب.
وفي السنوات الأولى اعتادت شركاتُ الألعاب الحاسوبية ومعظم اللاعبين على التعامل مع زراعة الذهب باعتباره عاملَ إثارة ثانويّا لا أكثر. ولكن هذا الموقف تغيَّر مع تنامي هذه الممارسة وتحوُّلها إلى مؤسسة مزدهرة. وقد ردَّت الشركاتُ بإدخال مزعجات من المستوى الأدنى مثل: حوادث عشوائية تتسبَّب في مهاجمة وقتل الـ«bots» (الشخصيات التي تؤدِّي مهامَّ آلية متكرِّرة، كالتنقيب عن ركاز المعادن، من دون تحكُّم مباشِر من اللاعب)؛ وتخفيض قيمة مفردات وفعاليات يستعملها مزارعو الذهب، أو إزالتها نهائيّا (وهذا يُسمى «nerfing»)، وحجب الحسابات الافتراضية للمزارعين؛ وأخيرا إدخال كود جديد على برمجيات اللعبة من شأنه – مثلا – تأخير تبادل الأموال بين شخوص(13)، متيحين للشركة فسحة زمنية لتقصِّي إجرائية ما (وهذا يسمى «patching»).
وفي مقابل هذه الإجراءات المزعجة، لم يَعْدَمْ مزارعو الذهب وسائلَ للتحايل عليها والالتفاف حولها. فاتَّخذت الشركاتُ، في معرض الرَّد، تدابيرَ أكثر شمولا وإحكاما، كمنع عناوين بروتوكولات إنترنت(14) صينية معيَّنة من النفاذ إلى مخدِّمات أمريكا الشَّمالية أو المخدِّمات الأوروپية. وفي عام 2007، استجاب الموقع eBay أخيرا للضغوط بحظر مبيعات الأشياء والنقد والحسابات الافتراضية كافة، وهو إجراء لم يؤدِّ إلاّ إلى نشوء مئات الوساطات والعمولات التي تقدِّم خدمات تجارة الذهب ورَوْز مستوى القدرة إلى الزبائن مباشرة.
وتسعى الشركاتُ أيضا إلى الحدِّ من ممارسة زراعة الذهب عن طريق المناورة القانونية؛ إذ يتعيَّن على كلِّ لاعب، قبل الاكتتاب على لعبة حاسوبية من المجموعة MMORPG، أن يوافق على عدم الخوض في تجارة الأموال الحقيقية. غير أن ثمة مسألة تبقى من دون حلّ، وتتمثَّل بتحديد المالك للمتعلّقات والنقود العائدة لأحد الشخوص. ومن ثم، هل لشركة ألعاب حاسوبية حقوق في كلِّ شيء ينتمي إلى عالَم افتراضي؟ أم أن الذهب أو السيف مِلْكٌ للاّعبين الذين يوجِدون أحد الشخوص وممتلكاتِه ويدفعون مالا لهذه الغاية؟ ولا بدَّ لشركات هذه الألعاب أن تستوثق من أنها ستكون هي الطرف الرابح إذا ما أزمعت على أن ترفع دعاوى قضائية على شركات زراعة الذهب. وقد ربحَ اللاعبون الصينيُّون فعلا أحكاما قضائية ألزمت شركاتِ الألعاب المحلِّيةَ بإعادة السلع التي فُقِدت بسبب مَواطن قصور في منظومة هذه الألعاب. وقد أثبتت تلك القضايا أن للاَّعبين حقوقا في ملكية السلع المجردة على الإنترنت.
وأخيرا، لجأت الشركاتُ إلى إجراء تعديلات في تصاميم الألعاب ومحتواها بغرض إقصاء مزارعي الذهب. واقتضى ذلك إدخال تغييرات كان لها أحيانا أثر عميق في اللعبة. ففي عام 2007، عمدت الشركة Jagex إلى تعديل لعبتها المسمّاة رون سكيپ RuneScape على نحو يجعل بيعَ الذهب الافتراضي أكثر صعوبة. ولكنَّ هذا الحلَّ قد جلب في حدِّ ذاته بعض المشكلات؛ فقد استتبعَ ورودَ شكاوٍ كثيرة تُؤكِّد تدهورَ ممارسة اللعبة بسبب من الإجراءات المقيِّدة لها. وقد حَمَلَ هذا بعضَ الظرفاء على تمحُّل اسم جديد للُّعبة (يدلُّ على تدهورها) هو RuinedScape. ومع كل ذلك، ما زال الاتّجارُ بالذهب المتحصّل من هذه اللعبة مستمرّا حتى الآن، ولو على نطاق ضيِّق ومقيَّد. بل وقد ذهبت بعضُ الشركات إلى حدِّ تبني طرائق مزارعي الذهب أنفسِهم، فأصبحت تتقاضى المدفوعات مقابل مبيعاتها من مفردات اللعبة كمصدر رئيسيّ لعوائدها، مجافية بذلك الأسلوبَ المعهود من إلزام اللاعبين بدفع أجور اشتراكاتهم.
مشهد من العالَم النامي(********)
يعتمد بعضُ اللاعبين، وكذلك بعضُ الشركات، أحيانا أساليبَ عدائية لمحاربة مزارعي الذهب. وتُظهِر الإحصاءاتُ أن نحو ربع عدد اللاعبين يجاهرون بعَدائهم. فقد شَنَّ أفرادُ هذه الفئة حملات غيرَ منظَّمة على شخصيات افتراضية ظَنُّوا (ربما خطأ) أنها تخضع لسيطرة مزارعي الذهب. ونضرب مثلا أن فتيات قزمات في إحدى الألعاب كثيرا ما يتعرَّضن للاغتصاب أو التحرُّش، اعتقادا بأنهنَّ أدوات لمزارعي الذهب.
ويبدو أن قسطا من هذه العداوة تؤجِّجه النزعةُ النمطيَّةُ العِرقية. ويؤيِّد ذلك ما يذكره المحلِّل <N.يي> [من مركز أبحاث پالو آلتو بكاليفورنيا] من وجود أوجه شَبَه بين ردِّ الفعل على زراعة الذهب والمعاملة التي لقيَها العمَّالُ الصينيُّون المهاجرون في إبّان حقبة التهافت على الذهب في ولاية كاليفورنيا منتصفَ القرن التاسعَ عشر وأواخره. ففي كلتا الحالتين كان للنعوت الازدرائية التي ربطت القادمين من شرق آسيا بالأمراض والأوبئة ما يسوِّغ الحاجةَ إلى «استئصال» الآسيويين: إما عن طريق التطهير العِرقي الفعلي للتراب الأمريكي منهم، وإما باستبعادهم نهائيّا عن مخدِّمات الألعاب الموجودة على أراضي الولايات المتحدة. كذلك يَستشهد الكاتبُ <J.J.بيل> بوصف أحد مزارعي الذهب لتجربته المريرة مع لاعبين أمريكيين: «كانت معاملتهم لي سيئة… كانوا يصرُّون على وصفي بالمُزارع وبالكلب الصيني وما شابه. ليست لديَّ مشكلات مع أيّ من اللاعبين سوى الأمريكيين، الذين لا يكفُّون عن معاملتي بعنصرية مريرة.»
وما انفكت زراعة الذهب مقترنة بوصمة، لأن ظروفَ العمل في مَزارع الذهب غالبا ما توسَم بـ«المكْدَحَة الافتراضية» virtual sweatshop. على أن هذه الصورة تبقى محلاّ للنقاش؛ إذ يتقاضى «مُزارع» الذهب عادة نحو 50 سنتا عن كل ساعة من ساعات العمل التي تتراوح ما بين 12و10 ساعة يوميّا طوال أيام الأسبوع. وقد تبدو هذه الظروفُ، من وجهة غربيَّة، استغلالية ومجحفة، ومع ذلك يعدُّها العاملون أنفسُهم عموما مقبولة، بل أفضل مما يمكن أن يتقاضَوْه من مزاولتهم أعمالا أخرى محلِّية. أما الغِذاء والسكن فبدائيّان، ولكنهما مجانيَّان. والبديل الوحيد لكثير منهم – كالوافدين الجُدد من الأرياف – هو البطالة. صحيح إن العمل قد يكون رتيبا ومملاّ أحيانا، غير أن معظم العاملين يعرِبون عن استمتاعهم بقضاء أوقاتهم أمام لوحة المفاتيح. هذا المزيج من العمل والتسلية، من الجِدِّ واللَّعب، أكسَبَهم اللقب «الكادحون اللاعبون» playborers.
ومن ثم، فإن زراعة الذهب تفتح للبلدان النامية سبيلا إلى جَنْي منافع من تقانة المعلومات؛ فيتيح مئاتِ آلاف الوظائف والأعمال، ويخفِّف من مشكلة الفقر المتفاقمة في المدن. وثمة أدلَّة غير موثَّقة تشير إلى أنه يسهم أيضا في الحدِّ من الجريمة عن طريق ضمِّ شبّان المدن العاطلين إلى صفوف العاملين. ولهذا السبب، ومع أن «مزارعي» الذهب يؤلِّفون – ظاهريّا – جزءا من الاقتصاد المستتر، فإن عددا من الحكومات المحلِّية في الصين توفِّر رؤوسَ أموال استثمارية لتشجيع إنشاء مَزارع الذهب في مناطقها.
وهكذا يستمر سِحْرُ زراعة الذهب بإغراء كثير من العمَّال ذوي الدخل المنخفض بالإقبال على هذه اللعبة، أملا بالإثراء من ورائها – آيةُ ذلك اتِّساع عدد الممارسين لها على الصعيد العالمي بنسبة تتجاوز 50 في المئة سنويّا، مما وَلَّدَ وسطا متناميا لزيادة الطلب. فقد سَجَّلت مَزارعُ الذهب الصينيَّة زيادات ملحوظة في المبيعات والتشغيل، حتى في ظلِّ الأزمة المالية العالَمية الأخيرة.
ومن شأن زراعة الذهب كذلك أن تحدِّد معالِمَ الطريق في إيجاد فرص للبلدان النامية؛ فإن قضاء الأفراد جُلَّ أوقات عملهم وفراغهم على الإنترنت يفضي بالضرورة إلى تعاظُم الحاجة إلى توفير الخدمات الحاسوبية ذات الصلة مباشرة تحت عنوان «العمل السَّيْبَري» cyberwork. وستكشف الدراساتُ المستقبليةُ في هذا المضمار قدرةَ التجارة الدولية والإنترنت على دفع هذه الفعالية التجارية قُدُما إلى الأمام.
ولكنَّ على هذه البلدان أيضا أن تثير تساؤلات صعبة: هل يتعيَّن على الصين وسائر البلدان النامية تشجيع زراعة الذهب باعتباره وسيلة لتوسيع رقعة الصادرات وتشغيل الناس؟ وهل بإمكان مزارعي الذهب الانتقال إلى أعمال أعلى مهارة في مجال تقانة المعلومات؟ وهل تمثِّل زراعة الذهب نموذجا نمطيّا لأشكال جديدة من التنمية الاقتصادية؟ وما هي أنواع العمل السَّيْبَري المحتمل ظهورها من وراء الحُجُب؟ كثيرة هي مسائل البحث الموجَّهة إلى علماء الاجتماع، وجميعها ينبِّه إلى أن الاتصالات الواسعة النطاق جديرة بأن تعطي للدول الفقيرة دورا محوريّا في عالَم الاقتصاد الرقمي السريع التطوُّر. المؤلف
مراجع للاستزادة
Synthetic Worlds: The Business and Culture of Online Games. Edward Castronova. University of Chicago Press. 2005.
Play Money. Julian Dibbell. Basic Books, 2007.
Chinese Gold Farmers in MMORPGs. Ge Jin. YouTube. 2007. www.youtube.com/ watch?v=rEegohRPsqg
Current Analysis and Future Research Agenda on “Gold Farming”: Real-World Production in Developing Countries for the Virtual Economies of Online Games. Richard Heeks. Institute for Development Policy and Management, University of Manchester, 2008. www.sed.manchester.ac.uk/idpm/ research/publications/wp/di/di wp32.htm
Terra Nova. Virtual worlds blog. http://terranova.blogs.com (*) REAL MONEY FROM VIRTUAL WORLDS (**) How It Works (***) A Geography of Gold Farming (****) Prehistory of Virtual Agriculture (*****) Farmer-SPEAK (******) The Golden Age of Gold Farming (*******) An Emerging Backlash (********) A View from the Developing World (1) online fantasy games (2) لمشتغل بالكيمياء القديمة التي زُعِمَ أنها تحوِّل المعادنَ الخسيسةَ إلى ذهب. (3) gold farmers (4) ما تحتويه الأرض من المعادن في حالتها الطبيعية. (التحرير) (5) massively multiplayer online role-playing games، لُعب حاسوبية يأخذ فيها المشاركون أدوارَ شخصيات يتفاعل بعضُها مع بعض. وغالبا ما تكون مواضيعُ هذه اللُّعَب من النوع الخيالي أو الخيال العلمي، ولها قواعد يتعيَّن على جميع اللاعبين اتباعُها. (التحرير) (6) power-leveling؛ اختبار أو فحص مستوى القدرة. (7) Sherpa: أحد أفراد الشعب التيبيتي، ويتميَّز بحذقه في تسلُّق الجبال وإرشاد المتسلِّقين. (8) Multi-User Dungeon (التحرير) (9) subsistence farming، التي تفي فقط بمعيشة المزارعين. (10) real-money trading (11) Internet Gaming Entertainment (12) Development Informatics (13) caracters؛ أشخاص اللعبة. (14) IP address (عنوان بروتوكول إنترنت)؛ عدد اثناني بطول 32 بتّة، يُعرِّف حاسوبا مضيفا متَّصلا بشبكة الإنترنت، وذلك بهدف تحقيق الاتصال بطريقة تبادل الرُّزَم packet switching. (التحرير) |