تطور رؤية الألوان لدى الرئيسيات
تطور رؤية الألوان لدى الرئيسيات(*) يُظهر تحليل الأصبغة البصرية لدى الرئيسيات أن رؤيتنا للألوان قد تطورت < H.G.جاكوبس > ـ < J.ناثانز >
يبدو العالم لأعيننا مرتبا بروعة لامتناهية من الألوان التي تتدرج من اللون البرتقالي الزاهي، لون زهرة الـ (ماري گولد marigold ــ القطيفة ــ المخملية)، إلى اللون الرمادي المعدني (لون شاسيه السيارات)، ومن الأزرق الزاهي لسماء منتصف الشتاء إلى الأخضر الزمردي. والجدير بالملاحظة أنه بالنسبة إلى معظم البشر، يتم تمييز أي لون من خلال المزج بين ثلاث موجات ضوئية فقط ذوات أطوال موجية ثابتة بشدات معينة. وتنتج هذه الخاصية في رؤية الألوان عند البشر والتي تدعى ثلاثية الألوان trichromacy من كون شبكية العين – وهي طبقة الخلايا العصبية في العين التي تتلقى الضوء وترسل المعلومات البصرية إلى الدماغ – تستخدم ثلاثة أنواع من الأصبغة pigments الماصة للضوء لرؤية الألوان. إن إحدى النتائج لخاصية ثلاثية الألوان أن شاشات التلفاز والحاسوب يمكنها أن تمزج ثلاثة پيكسلات(1) pixels (نقاط إضاءة الشاشات) – وهي الحمراء والخضراء والزرقاء لإنتاج ما نراه من طيف كامل للألوان.
على الرغم من أن خاصية ثلاثية الألوان شائعة بين الرئيسيات إلا أن هذه الخاصية ليست عامة في المملكة الحيوانية. إذ إن الثدييات غير الرئيسيات كافة هي ثنائية الألوان dichromats وتعتمد رؤية الألوان لديها على نوعين فقط من الأصبغة البصرية visual pigments، كما أن بعض الثدييات الليلية لديها صباغ واحد فقط. أما بالنسبة إلى بعض الطيور والأسماك والزواحف؛ فلديها أربعة أصبغة بصرية وتستطيع تمييز الأشعة فوق البنفسجية غير المرئية بالنسبة إلى البشر. لذا يبدو أن ثلاثية الألوان لدى الثدييات الرئيسية أمر غير اعتيادي. كيف حدث هذا التطور؟ وبناء على تراكم الدراسات على مدى عقود؛ فإن الأبحاث الحديثة في علم الوراثة والبيولوجيا الجزيئية والفيزيولوجيا العصبية لرؤية الألوان عند الرئيسيات قد وصلت إلى إجابات غير متوقعة ونتائج مذهلة عن قدرة دماغ الرئيسيات على التكيف.
الأصبغة وماضيها(**)
قبل 50 عاما، جرى لأول مرة قياس الحساسية الطيفية للأصبغة البصرية الثلاثة المسؤولة عن رؤية الألوان عند البشر، وهي الآن معروفة بدقة متناهية. حيث إن كل صباغ يمتص الضوء من منطقة محددة من الطيف ويتميز من غيره بطول الموجة التي يمتصها بشكل أعظمي. إذ إن صباغ الموجات القصيرة Sيمتص الضوء بشكل أعظمي عند طول الموجة 430 نانومتر (النانومتر يساوي جزءا من بليون من المتر) تقريبا، أما صباغ الموجات المتوسطة M فيمتص الضوء بشكل أعظمي عند طول الموجة 530 نانومتر تقريبا، في حين يمتص صباغ الموجات الطويلة L الضوء بشكل أعظمي عند طول الموجة 560 نانومتر. (وفي السياق نفسه، فإن أطوال الموجات 470 و520 و580 نانومتر تتوافق مع الألوان التي يميزها الإنسان العادي كألوان زرقاء، خضراء، صفراء على التوالي).
تتوضع هذه الأصبغة، التي يتكون كل منها من پروتين يشكل معقدا مع مركب ممتص للضوء من مشتقات ڤيتامين A، في الغشاء السيتوبلازمي للخلايا المخروطية: وهذه هي خلايا عصبية مستقبلة للضوء في شبكيّة العين وسميت كذلك بسبب شكلها المستدق. فعندما يمتص صباغ ما الضوء, فإنه يتسبب في سلسلة من الأحداث الجزيئية التي تؤدي إلى تنبيه الخلية المخروطية. وهذا التنبيه بدوره يُفعِّل الخلايا العصبية الأخرى في الشبكية التي تنقل في نهاية المطاف الإشارة على طول العصب البصري إلى الدماغ.
ومع أن أطياف امتصاص أصبغة المخاريط معروفة منذ فترة طويلة، إلا أن هذه الأصبغـــــــة لــم تكــن معروفــــــة حتى عام 1980 حين تمكن (<ناثانز> ــ أحد كاتبي هذا البحث) من تحـــديـــد جينـات (مورثات) genes الأصبغة البشريةhuman pigments ومن تحديد تسلسل الأحماض الأمينية التي تُشــكل پروتــين كــل صباغ (من تــسلسل الدنا DNA فــي هـــــذه الجينــــات). وقـــــد أظهر تسلســل الجينات أن الصباغين الضوئيين M وL متطابقان تقريبا. كما أظهرت التجارب اللاحقة أن الاختلاف في الحساسية الطيفية بينهما ناجم عن استبدال ثلاثة أحماض أمينية فقط من أصل الأحماض الأمينية الثلاثمئة والأربعة والستين التي يصاغ منها كل من الصباغين.
كما أظهرت التجارب أن جيني الصباغين M و L يتوضع أحدهما بجوار الآخر في الكروموسوم chromosome X وهو أحد الكروموسومين الجنسيين (يوجد لدى الذكور كروموسوم واحــد X وآخــر Y ، أمــــا لــــدى الإناث فهناك كروموسومان من النوع X X). وهذا التوضع لم يكن مفاجئا؛ لأن أحد الشذوذات الشائعة في رؤية الألوان عند الإنسان – وهو مرض عمى الألوان للونين الأحمر والأخضر – معروف منذ زمن طويل أنه أكثر شيوعا لدى الذكور منه لدى الإناث، وأنه يُورَّث بنمط يشير إلى أن الجينات المسؤولة تتوضع على الكروموسوم X. وبالمقابل، فإن جين الصباغ S يتوضع على الكروموسوم7 ، ويظهر تتالي هذا الجين بأن الصباغ S الذي تكوده encoded ذو صلة بعيدة بالصبغينM و L.
وبحلول منتصف التسعينات وفرت الدراسات المقارنة لجينات هذه الأصبغة الثلاثة مع مثيلاتها في الحيوانات الأخرى معلومات مهمة حول تاريخ هذه الأصبغة. إذ تبين أن جميع الفقاريات تقريبا لديها جينات ذات تسلسل يشبه إلى حدٍ كبير ذلك الموجود في الصباغ S لدى البشر، مما يدل على أن نسخة من الصباغ ذي الموجات القصيرة هي العنصر القديم في رؤية الألوان. كما تنتشر مشابهات الصباغين الطويلي الموجة M و L على نطاق واسع في الفقاريات، وعلى الأرجح أنها قديمة للغاية. ولكن بين الثدييات وجدت الأصبغة المشابهة للصباغين L و M لدى مجموعة فرعية من أنواع الرئيسيات، وهذا يشير إلى أن هذه الميزة (أي وجود الأصبغة المشابهة للصباغين M و L) قد تطورت مؤخرا على الأرجح.
تمتلك معظم الثدييات غير الرئيسيات صباغا واحدا فقط طويل الموجة، وهو يشبه الأصبغة الطويلة الموجة L الموجودة لدى الثدييات الرئيسية. ويقع جين الصباغ الطويل الموجة هذا لدى الثدييات غير الرئيسية أيضا على الكروموسوم X . وقد أثارت هذه الميزات إمكانية أن تكون جينات صباغي الموجات الطويلة لدى الثدييات الرئيسية قد ظهرت أولا في الأنسال الأولى للثدييات الرئيسية كما يلي: تضاعف جين صباغ الموجات الطويلة لدى الثدييات على كروموسوم X واحد، ومن ثم أدى حدوث طفرات mutations في إحدى أو كلتا نسختي الجين السلفي المرتبطة بالكروموسوم X، إلى إنتاج صباغين متماثلين تماما لهما مجالان مختلفان من الحساسية الطيفية ـــ هما الصباغان M و L.
إن الآلية المعروفة لتضاعف الجين بهذا الشكل تحدث أثناء تشكُّل البويضات والنطاف (الحيوانات المنوية). فعندما يحدث الانقسام الخلوي للبويضات والنطاف، يحدث تبادل أجزاء من أزواج الكروموسومات بعملية تُسمى التأشيب (إعادة التركيب) recombination، ويؤدي أحيانا التبادل غير المنتظم (غير المتكافئ) للمادة الوراثية إلى إنتاج كروموسوم يمتلك نسخا إضافية لجين واحد أو أكثر. وفيما بعد، تقوم عملية الانتخاب (الاصطفاء) الطبيعيnatural selection بالمحافظة على الطفرات المفيدة التي ظهرت في تلك الجينات المتضاعفة. وبذلك وبنزعة البقاء للأصلح, فإن الطفرات المفيدة تستمر وتنتقل (وتعبر) إلى الأجيال المستقبلية وتنتشر بين الأفراد أو السلالات.
بالعودة إلى موضوع رؤية اللون لدى الثدييات الرئيسية، فقد تكون خاصية ثلاثية الألوان المعتمدة على الصباغين الضوئيين M و L الجديدين جنبا إلى جنب مع الصباغ S قد مُنحت ميزة اصطفائية مفضلة على خاصية ثنائية الألوان في بيئات معينة. وعلى سبيل المثال، فإن ألوان الفاكهة الناضجة تبدو مغايرة للون أوراق النبات الخضراء المحيطة بها، ولكن ثنائيات الألوان هي أقل قدرة على تمييز هذا التباين لأن حساسيتها لتمييز فروق الألوان في مناطق ألوان الطيف الأحمر والأصفر والأخضر ضعيفة. وعلى الأرجح, فإن تحسين القدرة على تمييز الفاكهة الصالحة للأكل يساعد على استمرار بقاء الأفراد الذين يحملون الطفرات المسؤولة عن الرؤية الثلاثية الألوان، ويؤدي إلى انتشار تلك الجينات الطافرة في مجتمعات الكائنات الحية.
تبدو الآليات التي ذُكرت أعلاه حول تضاعُف الجين المتبوع بطفرة مؤدية إلى اختلاف في تتالي الدنا كتفسير منطقي لتطور جينات الصباغين M وL عند الرئيسيات، لأنه تم تعرف هذه السلسلة من الأحداث في مجموعات أخرى من الجينات. لنأخذ، على سبيل المثال، الجينات التي تكود الخضاب (الهيموگلوبين)، وهو الپروتين الذي يحمل الأكسجين في الدم. يبدو أن جينات الخضاب الجنيني الذي يبدأ إنتاجه في الشهر الثاني من الحمل داخل الرحم وجينات الخضاب الكهلي، قد نشأت عن تضاعف جين سلفي مفرد، طرأت عليه لاحقا طفرة أنتجت أنماطا متغايرة variants من الخضاب متباينة في أُلفتها للأكسجين. وبشكل مماثل، فإن الگلوبولينات المناعية – وهي الپروتينات التي تتواسط استجابة الجهاز المناعي بالأجسام المضادة – تكون متنوعة جدا وتنتج من تضاعف جين سلفي مفرد.
طريقان للرؤية الثلاثية الألوان(***)
إلا أن القصة الحقيقية لتطور خاصية ثلاثية الألوان عند الرئيسيات صارت أكثر تعقيدا وتشويقا. إذ أتى الدليل الحاسم من اكتشاف آليتين جينيتين (وراثيتين) مختلفتين للرؤية الثلاثية الألوان عند الرئيسيات، الأولى عند رئيسيات العالم القديم (المجموعة التي تطورت في صحارى إفريقيا وآسيا وتشمل الگيبون gibbons والشمپانزي والغوريلا والإنسان)، والثانية عند رئيسيات العالم الجديد (الأنواع الموجودة في وسط وشمال أمريكا مثل المارموس marmosets والتامارين tamarins والقرد السنجاب).
يحمل الإنسان وغيره من رئيسيات العالم القديم جينات الصباغين M و Lعلى كل من الكروموسومين X الخاصين بها، ومن ثَمَّ يمتلك الإنسان وهذه الرئيسيات خاصية الرؤية الثلاثية الألوان. ولكن عند فحص رؤية الألوان عند رئيسيات العالم الجديد خلال العديد من العقود الماضية، لاحظ أحد كتاب هذا البحث (<جاكوبز>) أن خاصية الرؤية الثلاثية الألوان موجودة فقط لدى مجموعة فرعية من الإناث. كما أظهرت الفحوصات أن جميع ذكور رئيسيات العالم الجديد وثلث إناثه تقريبا تُبدي نقصا في حساسيتها لتمييز الألوان عند الأطوال الموجية المتوسطة والطويلة، وهذا مطابق تماما لخاصية ثنائية الألوان. وفي المحصلة، نخلص إلى أن خاصية ثلاثية الألوان ليست ظاهرة عامة عند جميع الرئيسيات.
لتفسير هذه الظاهرة الغريبة درس بعض الباحثين عدد وترتيب جينات الصباغ في الخلية المخروطية لدى قردة العالم الجديد. وقد ظهر أن لدى معظمها جين واحد لصباغ الموجات القصيرة (يقع على كروموسوم غير جنسي)، كما أن لديها جينا واحدا لصباغ الموجات الطويلة، يقع على الكروموسوم X. وبتعبير آخر، فإن الصفة الوراثية الطبيعية للأصبغة البصرية عندها شبيهة بمقابلاتها عند الثدييات ذات خاصية الرؤية الثنائية الألوان، إذن كيف يمكن لأي منها أن يصبح ثلاثي الألوان؟
الإجابة هي أن جُميعة جينات(4) gene pool رئيسيات العالم الجديد تتضمن متغيرات عدة أو ألائِل(5) alleles لجين الصباغ المرتبط بالكروموسوم X ـ نسخ مختلفة بتتالٍ مُعَدَّلٍ قليلا في تسلسل الدنا. تحدث التباينات في الألائل في كثير من الجينات، ولكن الاختلافات الصغيرة في تتالي الدنا بين الألائل نادرا ما تترجم إلى اختلافات وظيفية. إلا أن الألائل المتباينة للأصبغة المرتبطة بالكروموسوم X في رئيسيات العالم الجديد، أدت إلى ظهور أصبغة ذات حساسية طيفية مختلفة. فعلى سبيل المثال، تمتلك الأنواع النموذجية من رئيسيات العالم الجديد مثل قرود السنجاب ثلاثة ألائل لجين صباغ المخروط المرتبط بالكروموسوم X في تجميعة جيناتها: إحداها مكودة لپروتين مشابه للصباغ M عند البشر، والثانية مكودة لپروتين مشابه للصباغ L عند البشر أيضا، والثالثة مكودة لصباغ تقع خاصية امتصاصه للضوء في الوسط بين الصباغين الأول والثاني.
بامتلاكها كروموسومين اثنين X فإن أنثى القرد السنجاب – الأنثى فقط – يمكن لها أن ترث أليلين مختلفين أحدهما عن الآخر بطول الموجة الضوئية (واحدة على كل كروموسوم ــ X)، وبذلك فهي تكتسب خاصية ثلاثية الألوان. إلا أن ثلث الإناث تقريبا سترث أليل الصباغ نفسه على الكروموسومين X، وتكون في النهاية ذات خاصية ثنائية الألوان، مثل الذكور القليلي الحظ. يمكن للمرء أن يفكر في نظام ثلاثية الألوان لدى رئيسيات العالم الجديد على أنه نسخة الإنسان المسكين أو بعبارة أدق نسخة الإناث المسكينات من خاصية الرؤية الثلاثية الألوان الموجودة بشكل شامل لدى رئيسيات العالم القديم (انظر المؤطر أعلاه).
إن التباين في رؤية الألوان بين رئيسيات العالم الجديد والقديم يفتح نافذة على تطور رؤية اللون في كلتا المجموعتين. فقد بدأت أنساب رئيسيات كل من العالمين القديم والجديد بالتباعد (بالانفصال) عن بعضها بعضا قبل نحو 150 مليون سنة، مع الانفصال التدريجي لقارتي إفريقيا وأمريكا الجنوبية عن بعضهما، ليكون انعزال صفاتها الوراثية قد اكتمل قبل نحو 40 مليون سنة. قد يتوقع المرء أن آليتي خاصية ثلاثية الألوان لسلالات العالمين القديم والجديد قد تطورتا بشكل مستقل، بعد انفصال سلالات العالم القديم عن سلالات العالم الجديد. ومن الممكن أن كلتا المجموعتين قد بدأتا بنمط ثنائي الألوان، بمتممة ذات صباغين أحدهما ذو موجة طويلة والآخر ذو موجة قصيرة. قد يكون جين صباغ الموجة الطويلة عند رئيسيات العالم القديم خضع للتضاعف ومن ثم لاختلاف أو لتغير في تتاليه كما ذكرنا سابقا. أما في رئيسيات العالم الجديد فقد يكون جين صباغ الموجة الطويلة تعرض لتغير طفيف في تسلسله، مع طفرات ناجحة أنتجت ألائل متنوعة لأصبغة للموجات الضوئية الطويلة ومن ثم بقيت سائدة لدى البشر.
إن مقارنة سلاسل الأحماض الأمينية للأصبغة البصرية المتوضعة على الكروموسوم X توحي بسيناريو آخر. في كل من رئيسيات العالم القديم والجديد تشترك جميع الأصبغة M في مجموعة من ثلاثة أحماض أمينية تُعطي أعلى حساسية طيفية عند 530 نانومتر، في حين تشترك جميع الأصبغةL في مجموعة أخرى تُعطي أعلى حساسية طيفية عند 560 نانومتر. وقد مكنتنا دراسة أطياف الامتصاص لأصبغة أخرى ذات موجات طويلة من التوصل إلى أن التغيرات الحاصلة في العديد من الأحماض الأمينية قد تزيح الحساسية العظمى لهذه الطائفة من الأصبغة إلى أطوال موجية أقصر أو أطول. إذن، يبدو من المستبعد أن تتقاطع رئيسيات العالمين القديم والجديد فيما بينها وبشكل استقلالي بخاصية الاعتماد على مجموعات متطابقة من الأحماض الأمينية لإزاحة حساسية أصبغة الأطوال الموجية الطويلة.
وبدلا من ذلك، يبدو الأكثر منطقية أن تلك التغيرات في الألائل كتلك الموجودة في رئيسيات العالم الجديد حاليا كانت عبارة عن حالة بدائية ظهرت عند السلف المشترك لكلتا المجموعتين، وكان ظهورها هو الخطوة الأولى باتجاه خاصية ثلاثية الألوان لكلتيهما (انظر المؤطر في الأسفل). وقد تكون ألائل الأصبغة المختلفة ظهرت عبر سلسلة من الطفرات المتعاقبة في جين صباغ الموجات الطويلة قبل أن يحصل الانفصال بين سلالات رئيسيات العالم القديم والجديد ببضع الوقت. (نحن نعتقد أن صباغ الموجات المتوسطة كان جزءا من هذه المتممة البدائية، لأن سلسلة الأحماض الأمينية فيه تحوي مجموعة من التغيرات الثلاثة في السلسلة التي تُميز الصباغ L من الصباغ M ولأن امتصاصها للطيف يقع في الوسط بينهما). عندها وبعد أن انفصل كل من نوعي الرئيسيات حصل خلل نادر في الإناث من نسل سلالات رئيسيات العالم القديم اللواتي يحملن نوعين مختلفين من آلائل جين صباغ الموجات الطويلة. هذه الحوادث النادرة أدت إلى توضع الأليل M إلى جانب الأليل L على الكروموسوم X المفرد، مما سمح باتساع نطاق خاصية ثلاثية الألوان لتشمل الذكور كما هي عند جميع الإناث.
وقد منح هذا التجديد الجيني حامليه أفضلية في عملية الاصطفاء، حيث اختفى الكروموسوم X الذي يحمل جينا واحدا فقط لصباغ الموجات الطويلة من الجميعة الجينية لرئيسيات العالم القديم. واستمر النظام البدائي لألائل الأطوال الموجية الثلاثة الأطول في الرئيسيات المنعزلة عن بعضها جغرافيا ووراثيا.
دور العشوائية (في تطور رؤية الألوان)(***********)
إحدى الملاحظات المثيرة للدهشة التي تنطوي عليها نتائجنا في رئيسيات العالم القديم والجديد تتعلق بدور العشوائية في خاصية ثلاثية الألوان. ولا نشير هنا إلى الطفرات الجينية العشوائية التي أدت منذ البداية إلى إتمام الجينات المعطية لخاصية ثلاثية الألوان. وقد وجد علماء الأحياء أنه عادة حالما تتطور سمة مفيدة بهذه الطريقة المعتمدة على المصادفة تصبح عادة هذه السمة ثابتة hardwired بحيث إن العمليات الخلوية الخاضعة لبرمجة محددة سلفا تنسق بدقة تطور هذه السمة في الأفراد. ومع ذلك، يبدو أن للحوادث العشوائية في كل عضوية وحتى في كل خلية مخروطية نامية دورا كبيرا بل أساسيا من أجل رؤية اللون عند الرئيسيات.
لشرح كيف ساعدت العشوائية على إنتاج خاصية ثلاثية الألوان لابد من أن نراجع كيفية قيام الخلايا المخروطية بنقل المعلومات حول اللون إلى الدماغ. نجد أنه على الرغم من كون خاصية ثلاثية الألوان ضرورية للرؤية الثلاثية الألوان؛ فإنها ليست إلا شرطا أوليا. في حين أن الخطوة التالية تشمل المعالجة العصبية للإشارات المكونة من قبل المستقبلات الضوئية المختلفة. هذه الخطوة حاسمة؛ لأن الخلايا المخروطية المفردة لا يمكن لها أن تنقل معلومات محددة حول الطول الموجي. إن تنبيه كل مستقبل ضوئي يمكن أن يحرض بمجال متنوع من الأطوال الموجية، ولكن المخروط لا يمكنه أن ينقل الإشارة الخاصة بتحديد الأطوال الموجية التي قام بامتصاصها ضمن الحزمة. على سبيل المثال قد تظهر الخلية المخروطية الاستجابة ذاتها سواء تم تنبيهها بموجة 100فوتون(7) photons التي تمتصها بشكل جيد أو بموجة 1000 فوتون التي تمتصها بشكل ضعيف. وللتمييز ما بين الألوان لابد للجهاز البصري من أن يقوم بالمقارنة بين استجابات المخاريط المتجاورة التي تمتلك أنواعا مختلفة من الأصبغة.
لتحقيق هذه المقارنات على نحو أمثل يجب أن تحتوي كل خلية مخروطية على نوع واحد من الصباغ ولا بد للمخاريط التي تحتوي على أصبغة مختلفة أن تصطف إلى جانب بعضها بعضا بطريقة فسيفسائية. في الواقع، إن كل خلية مخروطية في شبكية الرئيسيات تحوي نمطا واحدا فقط من الأصبغة البصرية، كما لا بد لمختلف أنماط المخاريط من أن تصطف بالضرورة فسيفسائيا. ومع ذلك، فإن كل خلية مخروطية في الرؤية الثلاثية الألوان تحوي جينات للأصبغة الثلاثة جميعها. إلا أنه ليس واضحا تماما كيف تقرر الخلية المخروطية التعبير عن جين صباغ واحد.
تقوم الخلايا بتشغيل جيناتها أو التعبير عن هذه الجينات عن طريق عوامل انتساخ، وهي پروتينات خاصة مرتبطة بالدنا متوضعة قرب منطقة تنظيم تُدعى المحرض، وبالتالي تُطلق سلسلة من التفاعلات المؤدية إلى اصطناع الپروتين المكوّد بالجين المعين. يبدو أنه خلال التطور الجنيني تقوم عوامل الانتساخ بتنشيط جين الصباغ S في المستقبلات الضوئية للموجات القصيرة. كما أن بعض العمليات غير المعروفة تمنع التعبير الجيني (المورثي) لأصبغة الأطوال الموجية الطويلة L.
ولكن هناك آلية إضافية تتحكم في التعبير الجيني للأصبغة في مخاريط الموجات الطويلة عند رئيسيات العالم الجديد، وهذه الآلية تتضمن عمليات ذات طبيعة عشوائية. وفي إناث رئيسيات العالم الجديد التي تمتلك ألائل أصبغة مختلفة على كل من الكروموسومين X، فإن اختيار الأليل الذي سيُعبّر عنه من قِبل خـلية مخروطيــــة معينـة يعتمد على عمليــــة تشـبه بعشوائيتها رمي قطعة النقد تُـعــــرف بتعطيل أو إخماد الكروموسوم X X-inactivation. وبهذه العملية تقوم كل خلية عند الأنثى بالتعطيل العشوائي لفعالية أحد الكروموسومين X لديها في مرحلة مبكرة من النمو. إن تعطيل الكروموسوم Xيضمن أن أليلا صباغيا واحدا سوف يتم التعبير عنه (أي إن نمطا واحدا من الأصبغة سوف يظهر) في أي خلية مخروطية ذات الموجات الطويلة. ولأن العملية عشوائية ــ فإن نصف العدد الكلي للخلايا يقوم بالتعبير عن جينات مكودات في أحد الكروموسومين X، في حين يقوم النصف الآخر بالتعبير عن جينات مكودات في الكروموسوم X الثاني ـ كما يضمن أيضا تمازج مخاريط الموجات الطويلة عند إناث رئيسيات العالم الجديد في جميع أنحاء الشبكية ضمن فسيفساء تحقق الرؤية الثلاثية الألوان.
إن تعطيل الكروموسوم X يحدث في جميع الثدييات، ودوره الأساسي هو المحافظة على بقاء النوع ومن دونه فإن الخلايا الأنثوية سوف تستعمل كلا الكروموسومين X لإنتاج الپروتينات مما يؤدي إلى إنتاج كميات مختلفة من الپروتينات في كلا الجنسين وهذا يؤدي إلى إضعاف تطور أحد الجنسين أو كليهما. ولكن بما أن رئيسيات العالم القديم لديـهــــا كـــلا جينــــي الصبـــاغ Mو L على كل كروموسوم X، فإن عملية تعطيل كروموسوم X وحدها لا تُقلص التعبير الجيني لجين صباغ واحد فقط لكل خلية مخروطية في هذه الحيوانات. لذا لابد من وجود آلية أخرى تؤدي دورا هنا.
تُظهر دراسة قام بها <ناثانز> أن ما يُحدد كون أي من جيني الصباغ المرتبط بالكروموسوم X سيعبِّر عنه في خلية مخروطية عند رئيسيات العالم القديم هو تسلسل الدنا المجاور والمسمى منطقة التحكم الموضعي LCR. من المحتمل أن الاختيار يتم أثناء مرحلة النمو، عندما تتفاعل المنطقة LCR في كل خلية مخروطية مع واحد – وواحد فقط من مُحفزات جيني الصباغ المجاورة إما للصباغ M أو L وليس لكليهما – يحدث تشغيل ذلك الجين. لم يتم بعد توصيف واضح لتفاصيل هذا التفاعل بدقة, ولكن الدلائل الحالية تُرجح أن هذا الاختيار قد يكون عشوائيا.
إذا كان هذا التداخل بين المنطقة LCR والمحفز هو فعلا الذي يحدد التعبير الجيني للصباغ في الخلايا المخروطية، وإذا كان هذا عشــــوائيــــا فعلا؛ إذن يكون توزُّع المخاريط M و L في أي منطقة من الشبكية عند رئيسيات العالم القديم مهما كانت صغيرة عشوائيا أيضا. وأظهرت الدراسات التي تمت من قِبل<D.ويليامز> وزملائه [من جامعة روشيستر] أنه ضمن حدود الإمكانات التقنية للطرق الحالية لوضع خرائط توزع الخلايا المخروطية، فإن هذا التنبؤ يبقى قائماً.
الرسام العرَضي(*************)
تشير الدراسات التي تبحث في أساس رؤية الألوان عند الرئيسيات إلى وجود آلية معينة عالية المرونة (مطواعة) لرؤية الألوان ذات الموجات الطويلة في الشبكية والدماغ. وعلى الرغم من وجود دارات خاصة لمقارنة المعلومات البصرية الآتية من المخاريط S، بالإشارات الآتية من مخاريط الموجات الطويلة، فإن كلا من الدماغ والشبكية يبدو ارتجاليا (عفويا) في مقارنة الإشارات الآتية من المخاريط M بتلك الآتية من المخاريط L. وعلى وجه الخصوص يبدو أن الجهاز البصري يُميز بين هذه المخاريط بالتجربة فقط أي بمراقبة استجابة المخاريط للمنبهات البصرية.
وأكثر من ذلك، يبدو أن الطريق العصبي الرئيسي الذي ينقل الاستجابات من مخاريط الموجة الطويلة ليس مكرسا على وجه التحديد لرؤية الألوان فقط. وعلى الأرجح، فإن القدرة على استخلاص المعلومات عن اللون من قِبل المخاريطM و L قد تكون حدثا جيدا حصل مصادفة (عرضيا) من قِبل الجهاز العصبي القديم المسؤول عن الرؤية المكانية العالية الدقة والتي تطورت إلى إمكانية تمييز حدود الأشياء المرئية وبُعدها عن الناظر. يُشير <J.مولون >[من جامعة كامبريدج] إلى أن الرؤية المكانية العالية الدقة لدى الرئيسيات تتم بواسطة المخاريط ذات الموجات الطويلة، وتنطوي على المعالجة العصبية نفسها التي تتم من خلالها رؤية الألوان ذات الموجات الطويلة. وهذا يعتبر تشابها بين تنبيه مخروط واحد من النوع L أو M، مع متوسط الإثارة الناجمة عن تنبيه عدد كبير من المخاريط M وL المتجاورة. وحتى الآن لم يُكتشف أي دارات مستقلة خاصة برؤية اللون بواسطة الموجات الطويلة، وربما لا حاجة إلى وجود أي من هذه الدارات، وعلى هذا يمكن اعتبار الرؤية الثلاثية الألوان وكأنها جزء عفوي من منظومة الرؤية المكانية الموجودة مسبقا.
إن فرضية المرونة العصبية في رؤية الألوان تقودنا إلى تساؤل فضولي. ولنا أن نتصور أن الخطوة الأولى في تطور خاصية ثلاثية الألوان عند الرئيسيات تتمثل بظهور أليل ثان لصباغ الموجات الطويلة على الكروموسومX في إناث السلف لجميع الرئيسيات الحالية. هل يمكن لدماغ الرئيسيات السلف أن يرتجل استخدام الصباغ الجديد من دون تطوير دارة عصبية جديدة؟ وهل لاكتساب نوع ثالث من الأصبغة أن يكون كافيا بحد ذاته لإعطاء بُعْد جديد لرؤية الألوان؟
ويبدو لنا أنه من الممكن التحقق من هذه الفكرة إذا استطعنا إعادة إحداث تلك الخطوة الأولية في تطور ثلاثية الألوان عند الرئيسيات في الثدييات ذات النمط الثنائي الألوان مثل فأر التجارب. بدأنا هذه التجربة بالهندسة الجينية لكروموسوم X للفأر بحيث صار قادرا على تكويد صباغ L البشري بدلا من صباغ M الفأري، ومن ثم صار قادرا على إنتاج الأليل للنمط الذي نعتقد أنه قد حصل منذ ملايين السنين في الرئيسيات الثنائية الألوان. ومن ثم، برهنا أن السلالة الناتجة من هذه الفئران عبرت عن الجين البشري في خلاياها المخروطية وأن الصباغ L البشري قد نقل الإشارات الضوئية بكفاءة مماثلة لكفاءة الصباغ M الفأري. كما أن هذه الفئران التي عبرت عن الصباغ L البشري كانت كما هو متوقع حساسة لمجال أوسع من الأطوال الموجية لذلك المجال في الفئران العادية.
ولكن من أجل الوصول إلى هدفنا طرحنا السؤال الأساسي: هل يمكن لإناث الفئران التي تمتلك جيني صباغ مختلفين على الكروموسوم X استخدام الفسيفساء الشبكية للمخاريط M و L المولدة بعملية تعطيل الكروموسوم Xليس فقط للإحساس وإنما أيضا لجعل تمييز الألوان ضمن ذاك المجال الواسع من الأطوال الموجية؟ الجواب المختصر المفيد هو: نعم إنها تستطيع.
وفي التجارب المختبرية تمكنا من تدريب إناث الفئران التي تمتلك كلا الصباغين M وL على التمييز بين لوحات خضراء وصفراء وبرتقالية وحمراء، وهو الأمر غير الممكن عند الفئران العادية حيث تبدو جميع اللوحات متماثلة عندها. جنبا إلى جنب مع امتلاكها الصباغ L الجديد، يبدو أن هذه الفئران قد حصلت على بُعد إضافي للخبرة الحسية، مما يوحي أن دماغ الثدييات لديه إمكانية فطرية لاستخلاص المعلومات من أنماط مختلفة وجديدة من المدخلات البصرية.
ولهذه النتيجة انعكاسات على تطور الأجهزة الحسية بشكل عام لأنها تشير إلى أن تلك التغييرات على مستوى «النهايات الأمامية» للمنظومة – في جينات المستقبلات الحسية – يمكن لها أن توجِّه تطور المنظومة بكاملها. وفيما يتعلق بالخاصية الثلاثية الألوان عند الرئيسيات، فإن تجربة الفأر تُبين أيضاً أن الرئيسيات الأولية التي تمتلك صباغين لهما أطوال موجية مختلفة، استطاعت أن ترى عالماً من الألوان لم تستطع أن تراه الثدييات الأخرى في أي وقت مضى.
المؤلفان
مراجع للاستزادة
The Evolution and Physiology of Human Color Vision: Insights from Molecular Genetic Studies of Visual Pigments. J. Nathans in Neuron Vol. 24. No.2. pages 299-312; October 1999.
Genetically Engineered Mice with an Additional Class of Cone Photoreceptors: Implications for the Evolution of Color Vision. P. M. Smallwood et al. in Proceedings of the National Academy of Sciences USA, Vol. 100, No. 20. Pages 11706- 11711; September 30.2003.
Emergence of Novel Color Vision in Mice Engineered to Express a Human Cone Pigment. G. H. Jacobs. G. A. Williams. H.Cahill and J. Nathans in Science, Vol. 315. Pages 1723-1725; March 23. 2007.
Primate Color Vision: A Comparative Perspective. G. H. Jacobs in Visual Neuroscience, Vol. 25. Nos. 5-6. Pages 619-633; September 2008. (*) THE EVOLUTION OF PRIMATE COLOR VISION الرئيسيات أو الرئيسات rimate: رتبة عالية من الثدييات تشمل الإنسان والقرد. (**) Pigments and Their Past (***) Two Roads to Trichromacy (****) Two Kinds of Mammalian Color Vision (*****) Evolutionary Advantage (******) Two Designs for Primate Vision (*******) Old World Primates (********) New World Monkeys (*********) How Primate Trichromacy Evolved (**********) Randomness in the Retina (***********) The Role of Randomness (************) Super Color Vision? (*************) The Accidental Colorist (1) أو: عنصورة، وهذه نحت من عنصر – صورة. (التحرير) (2) Wassily Kandinsky – فاسيلي كانديسكي – رسام روسي الأصل ويعتبر أحد الرواد الأوائل للمبدأ اللاتصوري أو اللاتمثيلي، وبعبارة أخرى، مبدأ «التجريدية الصافية» ولوحاته معروفة باسمه. (التحرير) (3) الخط البياني الأفقي في الرسمين بالنانومتر لقياس طول الموجات الضوئية. (التحرير) (4) أو مجموعة الجينات. (5) جمع أليل allele: أحد جينين متغايرين يرمزان إلى الصفة (6) locus control region (7) وحدة الكم الضوئي. (التحرير) |