المنشأ العنيف للقارات
المنشأ العنيف للقارات(*)
هل أدّت ضربات الكويكبات للأرض أثناء مراحل تشكّلها
المبكرة، إلى توليد الأجزاء القديمة جدا من القارات الحالية؟
.S> سيمپسون<
مفاهيم مفتاحية
زلزلت تصادمات الكويكبات الكرة الأرضية أثناء تاريخها المبكر أكثر بكثير ممّا كان يعتقد من قبل. تكشف أدلة جديدة عن حدوث تسع ضربات رئيسية بين 3.8 إلى 2.5 بليون سنة – وهي الفترة الزمنية التي تَمّ فيها تشكيل أول قارات كوكب الأرض. وتشير فرضية جديدة جريئة إلى أنّ هذه الصخور الفضائية المؤذية لم تكن هدّامة تماما؛ فقد تكون قد آذنت بنشوء القارات. محررو ساينتفيك أمريكان |
غطت الصَّهارة (الماگما) magma المتحرّكة والمتوهجة مع الغازات الحارة الكرة الأرضية في أعقاب تشكلها قبل نحو 4.6 بليون سنة. في نهاية المطاف، تبرّدت مناطق من هذا البحر الملتهب بشكل كاف لتشكيل قشرة على سطح الأرض تاركة صخور كوكب الأرض الصلدة الأولى عائمة مثلما يعوم الخَبَثُ على السائل الحار. ولكن هذه الصخور لم تكن أكثر من مجرد قشرة رقيقة. ولذلك، فإنّ تشكّل جذور الأرض اليابسة السميكة استغرق مدة زمنية أطول بكثير.
ولكن كيف نشأت وتنامت القارات بالضبط وما هي السرعة التي تمت بها، هو موضوع نقاش مستمر. إنّ المعرفة العلمية التي بحوزتنا منذ فترة طويلة تعتبر أن آلية العمل الداخلية للأرض وحدها هي التي قادت إلى تشكيل القارات. ولكن النتائج الأخيرة حولت الانتباه إلى فكرة واحدة غير مألوفة وهي: إن تصادمات الكويكبات الكبيرة بالأرض هي التي أدت دورا بناء أيضا.
وكان الافتراض الأساسي هو أن قصف الأرض بالكويكبـات – الذي تكرّر كثيرا أثناء المراحل الأولى من تشكل الأرض – قد اختفى قبل نحو 3.8 بليون سنة. وبحلول ذلك الوقت، بُرِّدت الأرض بما يكفي لجعل المحيطات الوليدة ملائمة لحياة الكائنات الميكروية (المجهرية). أما التصادمات الكبيرة منذ ذلك الوقت، فقد اعتبرت نادرة ومدمرة تماما. (فكرة انقراض الدينوصورات).
في الآونة الأخيرة، مع ذلك، فإن العلماء اضطروا إلى دراسة اكتشاف سلسلة من الضربات الضخمة غير المتوقعة قبل نحو 3.8 بليون إلى 2.5 بليون سنة، وهي فترة زمنية مبكرة من مراحل تشكل الأرض المبكرة تُعرف بالدهر القديم (الآركي) Archean eon. إنّ صفة تهديم الكويكبات للقشرة الأرضية تبدو مخالفة للسمة المميزة للدهر القديم: فقد كان هذا الدهر يمثّل الفترة الأكثر إنتاجا لتشكيل القارات في كل التاريخ الجيولوجي للأرض. ووفق بعض التقديرات، فإنّ نسبة 65% من القشرة القارية الحالية تشكّلت أثناء تلك الفترة الزمنية.
ولحل هذا الغموض الظاهري، يحاول الجيولوجيون دراسة سجل الصخور القديمة بحثا عن أدلة تؤدي إلى الكيفية التي شكّلت بها هذه التصادمات الهائلة شكل كوكب الأرض. وأحد هؤلاء الجيولوجيين <Y.A.گليكسون> [الأستاذ في الجامعة الوطنية الأسترالية بكانبيرا] كان قد اقتنع بعد 40 سنة من العمل الميداني أنّ التصادمات من خارج الكرة الأرضية ساعدت بالفعل على تشكل القارات الأولى في الأرض، التي تتضمّن بقايا بعضها والمحفوظة الآن في أواسط جنوب إفريقيا وأستراليا الغربية.
ويعتبر الكثير من العلماء أنّ ادعاء <گليكسون> ما هو إلاّ فكرة غير مؤكدة، بحجة أن الأدلة المباشرة على ما كان يحدث على الكرة الأرضية القديمة نادرة جدا ومثيرة للجدل. ومع ذلك، تزوّد المحاكاة الحاسوبية لتأثيرات التصادمات الكبيرة المحتملة بعض الدعم المثير لفرضيته. وقد يكون من المبكر تفحّص النظرة الكلاسيكية لتطور القارات المبكر، إلا أنّه حتى المتشككين يتفقون على أن الوقت قد حان لتدارس نتائج هذه القوى المحتملة القوية القادمة من الفضاء.
[لقطات فوتوگرافية فورية] قارات تتشكل(**)
|
اليابسة، انتبه!(***)
أمضى العلماء عقودا من الزمن للكشف عن منشأ القارات قبل التركيز على التأثير المحتمل لتصادمات الكويكبات أثناء الدهر القديم. فهذه الجهود كانت صعبة دائما لأنّ نشوءَ قارةٍ عمليةٌ معقدة؛ فهو يتطلب تشكيل صفيحة (بلاطةslab) من قشرة سميكة جدا وعائمة لا يمكنها أن تغوص أو تنغرز ثانية في باطن الأرض الحار. وهذه الخاصية هي التي تجعل القارات الحالية تختلف كثيرا عن القشرة الأرضية تحت المحيطات. فالقشرة المحيطية الرقيقة نسبيا والكثيفة (الثقيلة) الغنية بالحديد، تنغرز بسهولة، فقد انغرز معظمها أثناء 200مليون سنة على الأقل من تشكلها. أمّا القشرة القارية، من جهة أخرى، فهي مكوّنة من صخور أقل كثافة (أخف) مثل صخر الگرانيت الذي احتفظ ببعض الشظايا القديمة عائما، كما تعوم الجبال الجليدية في البحر، قبل ما يقرب من أربعة بلايين سنة.
تختلف قصة (تاريخ) نشوء القارة الأولى على الكرة الأرضية من كتاب تعليمي إلى آخر، ولكن رأيا شائعا فيها يكشف عن شيء من هذا القبيل: فأثناء فترات توقُّف قصيرة من القصف الكويكبي الشديد التي تلت ولادة كوكب الأرض، أدّت نزعة التبرّد الطبيعية للكرة الأرضية إلى إكساء سطحها بقشرة أرضية بصورة متكررة. وهذه القشرة لم تكن متصلة تماما، بل كانت تتألف من عدة عشرات من القطع التي كانت تنزلق فوق الصهارة (الماگما) الدائمة الاضطراب. وكالشمع الساخن الصاعد في اللابة lava المتوقدة، ارتفعت أعمدة من صخور الوشاح (الستار) الحارة، وبردت قليلا عندما تحركت على سطح الأرض، ثم غاصت – ساحبة معها بسهولة، الأجزاء الأصلية الكثيفة (الثقيلة) جدا من القشرة. وفي هذه الأثناء، كانت البراكين تقذف الغازات من باطن الأرض محدثة غلافا جويا بدائيا، وأمطارا متكثفة في السماء، مشكلة محيطات ضحلة فوق القشرة الصهارية (الماگمية) الرقيقة.
قبل ثلاثة بلايين سنة كان للكرة الأرضية قارتها الحقيقية: كومةٌ من الصخور الجرداء تنتشر عليها البراكين. |
ومن ثَمّ يُكمل مجرى القصة، في أن نواة القارة قد تشكلت عندما صهرت الحرارةُ الناجمة عن عمود صاعد من الصهارة جزئيا قطعةً من قشرة الأرض الكثيفة (الثقيلة) قبل أن تغوص؛ ممّا سمح للمعادن الأخف، التي لها نقطة انصهار أكثر انخفاضا، بأن تنفصل عنها. وهذه الصهارة المنفصلة حديثا والأخف من الصخور المجاورة كانت تميل إلى أن ترتفع إلى الأعلى؛ وهذه الصخور الأخف عند تصلبها يصبح غوصها فيما بعد غير محتمل.
بكل وضوح، لم تُؤخذ التصادمات المبكرة أثناء الدهر القديم على كوكب الأرض على محمل الجد. |
ودورات متكررة من الانصهار الجزئي مع فصل الصهارة الأكثر خفة أدت في النهاية إلى إنتاج صخر الگرانيت. من المستحيل تأريخ هذه العملية بدقة، إلا أن أثرا واحدا على الأقل قد بقي من 160 مليون سنة الأولى من عمر الأرض، ممثّلا ببلورات صغيرة من الزركون يعود عمرها إلى 4.4 بليون سنة انفصلت بعمليات التحات عن صخور الگرانيت البدائية وترسبت في وقت لاحق ضمن تكوينات صخرية رسوبية أحدث، فيما يعرف الآن بقارة أستراليا [انظر: «هل كانت الأرض باردة في بداية تكونها»، مجلة العلوم ، العدد 12(2005) ، ص 20].
ربما كانت آثار صخور الگرانيت المبكرة هذه تمثل مكونا ثانويا في الكتل الصخرية الأولى التي نمت سميكة بما يكفي لتبرز فوق المحيطات الأولية. وهي بالتأكيد مختلفة تماما عن القارات الحالية، التي تغطي 30% من سطح الكوكب بمتوسط سماكة بلغ 35 كيلومترا. وربما اكتسبت القارات الأولية المبكرة شكلها ببطء، مثلما تفعل الكتل القارية الحالية : فالتصادمات فيما بينها أدّت إلى دمج القشرة السميكة في كتل صخرية أكبر، وأثارت أعمدة الوشاح الحارة دفعات جديدة من الصهارة (الماگما) من الأعماق.
يتفق معظم الجيولوجيين أنّ القارة الأولى الحقيقية قد نشأت قبل ثلاثة بلايين سنة: قارة جرداء مؤلفة من تلال متناثرة من الصخور البركانية، وبكل تأكيد أصغر من قارة أستراليا الحالية. ومن الممكن أيضا أن النوى القديمة، أو رواسخ cratons أستراليا وإفريقيا الحاليتين، كانت تمثل جزءا من تلك القارة الأصلية original. إنّ راسخ پلبارا Pilbara في غرب أستراليا وراسخ كاپڤالKaapvaal في أراضي جبال باربيرتون Barberton في جنوب إفريقيا ذات المناظر الخلابة «هما متماثلان من الناحية الجيولوجية بشكل لافت للنظر»، وهذا ما أشار إليه الجيولوجي <M.B.سيمنسون> [من كلية أوبرلين] الذي قضى شهورا في البحث عن تكشفات الصخور على منحدرات التلال الجافة والمغطاة بالأشجار في كلتا المنطقتين. «فهو يؤمن إيمانا قويا بأن راسِخَيْ باربيرتون وپلبارا كانا قارة واحدة انفصلت إلى اثنتين.»
ولم يُعرف مكان موقع القارة الأولى على الكرة الأرضية، ولما كان باطن الأرض الحار يواصل هيجانه، فقد تجزأت تلك الكتلة القارية وتباعدت وتشكلت كتل أخرى، مما أدّى إلى تشكل سلسلة موثقة من تقسّم القارات واندماجها، قادت في نهاية المطاف إلى البنية الحالية.
يعرف أين ينظر(****)
يفسّر تحرّك صفائح القشرة الأرضية بوضوح انتقال القارات مع الزمن من مراحلها المبكرة إلى مراحلها المتأخّرة. ولكن ما اتضح سابقا يسوده الكثير من الشكوك. وهذا ما جعل الجيولوجيين يبحثون في مظاهر الأرض القديمة في جنوب إفريقيا وأستراليا عن أدلة حول منشأ القارات. ومقارنة برواسخ القارات الحالية الأخرى، خضع «كاپڤال» و«پلبارا» لدرجة أقل من التحوّل أدت إلى بقاء معظم الأدلة المحفوظة حفظا جيدا تقريبا للقشرة الأرضية القديمة. وضمن هذه الرواسخ، تُشكّل أحزمة الصخور الخضر greenstone belts أهمية خاصة وهي تكوينات صخرية تشكلـت ما بين 3.5 إلى 2.4 بليون سنة مضــت، تمــامــا كمــا تشـكلت القـارات الأولى (المبكرة).
ومنذ السبعينات من القرن الماضي، فسر معظم الجيولوجيين أحزمة الصخور الخضر على أنّها مماثلة لسلاسل من الجزر البركانية القديمة التي تنشأ على امتداد الحواف المتراكبة من صفائح القشرة الأرضية المتصادمة، وأصبحت فيما بعد جزءا من كتلة اليابسة القارية. لقد استمر تصادم صفائح القشرة على مدى ملايين السنين، كما استمر غوص الصفيحة السفلى نحو أعماق باطن الأرض الحار، مشكلا خندقا عميقا يعرف باسم منطقة الانغرازsubduction zone. ولما كانت الجزر تعلو الصفيحة المنغرزة المتجهة نحو الخندق، فإنّ هذه الأجزاء السميكة تـُدفع على جانب كتلة اليابسة البارزة؛ بدلا من أن تُسحب نحو الأسفل مع قشرة الأرض التي تحملها، فهي تنفصل فورا إلى الأعلى. وبالطريقة نفسها دُفعت السييرا نيڤادا وغيرها من سلاسل جبال غرب الولايات المتحدة فوق غرب أمريكا الشمالية.
[أدلة مباشرة] ضربات متكررة لقارة قديمة(*****) في التضاريس القديمة في جنوب إفريقيا وأستراليا الكثير من المعلومات حول أصل القارات. وبالفعل، يناقش بعض الجيولوجيين أنّ أجزاء من جبال باربيرتون في جنوب إفريقيا (في الأعلى إلى اليسار) ومنطقة پلبارا في شمال غرب أستراليا (في الأسفل) هي بقايا من الكتلة القارية الأصلية نفسها. وحتى الآن، اكتشف الجيولوجيون الذين يعملون في هذه المناطق بقايا 9 تصادمات كويكبية كبيرة على الأقل قبل نحو 3.5 بليون إلى 2.5 بليون سنة، يتألف كل منها من طبقة ما يسمى بكريات التصادم (في الأعلى إلى اليمين).
|
[سيناريو التصادم] كيف يمكن أن تنشأ اليابسة من الشواش chaos الكوني(******) منذ بلايين السنين، أنتجت الآلية الداخلية للكرة الأرضية الكثير من القارات الجديدة فوق الأعمدة الصاعدة من وشاح الأرض كما هو الحال في الوقت الحاضر – صهرت المواد الساخنة والعائمة الصخور الموجودة فوقها جزئيا، وبذلك تأججت براكين هائلة أدت إلى تثخين قشرة الأرض(1). وتصادم كويكب ضخم ربما يعطّل هذه العملية مؤقتا (2). ولكن المحاكاة الحاسوبية تشير إلى أنه على المدى الطويل، فإن مثل هذا التصادم قد يكون له تأثير بنـّاء في تغيير اتجاه عمود وشاح الأرض إلى المناطق المحيطة به (3).
|
ومع ذلك، فقد لاحظ <گليكسون> أنّ النمط الحديث لنمو القارات لا يمكن أن يفسّر جميع المظاهرالجيولوجية التي تُرى في أحزمة الصخور الخضر. فعند دراسته بالتفصيل لأحزمة جنوب إفريقيا وأستراليا في السنوات الماضية، وجد أن الأجزاء الأقدم من هذه الأحزمة – تلك التي تتراوح أعمارها بين 3 و 3.5 بليون سنة – بدت جميعها أنها تراكمت شاقوليا من مواد نتجت من عمليات التحات وتوضعت في طبقات بين أجسام قببية الشكل مكونة من صهارة گرانيتية مندفعة من الأسفل. وهذه التشكيلات لم تبد أية علامات واضحة تشير إلى الانغراز (الغوص): أي إلى رواسب ومواد بركانية تراكمت أفقيا عند تصادم جزأين من القشرة الأرضية.
ليس مستغربا اندثار أدلة الانغراز (الغوص). فمعظم الباحثين يوافقون على أن تكتونية الصفائح ربما كانت أقل فعالية في الدهر القديم المبكر، إن كانت عاملة. وكان كوكب الأرض حينئذ أكثر سخونة، وكذلك كان حمل الصهارة الحراري، الشبيه بمصباح الحمم الذي يدفع حركة الصفائح، أقل نشاطا. ومع ذلك، ثمة شيء سريع، وفق <گليكسون>، يجب أن يكون قد تدخّل في تشكيل الأجزاء الأقدم من أحزمة الدهر القديم. إنّ أعمار الصخور المختلفة المحددة المتشكلة ضمنها تشير إلى أنّ الأجسام الگرانيتية الضخمة توضعت في أزمنة متتالية واضحة المعالم. فإذا لم يكن الانغراز هو القوة المحركة، فما هو الذي كان المحرّك؟
هذه الصعوبات قادت <گليكسون> إلى البحث عن تفسيرات جديدة عمّا شكـّل الكرة الأرضية أثناء الدهر القديم. كان يعلم أن أحد العوامل الذي تجاهله معظم الجيولوجيين هو التأثير المحتمل للتصادم مع الكويكبات والمذنبات. فالقصف الكويكبي قد بلغ ذروته قبل نحو 3.9 بليون سنة، ولكن دراسة حُفر التصادم على القمر تشير إلى أن تلك التصادمات الكبيرة استمرت حتى قبل نحو 3.2 بليون سنة. فهل من الممكن أن تكون هذه التصادمات المتأخرة قد شاركت في قصف الكرة الأرضية؟ إنّ الخطوة الأولى في الكشف عن ذلك تكمن في تحديد دليل جيد على مثل هذه الضربات على الكرة الأرضية. فهل يكون هذا الدليل قد دُمِّر، أو فشل الجيولوجيون في تعرّفه عندما كانوا يفتشون عنه ؟
أمور حول كثافة: البازلت (أعلى) هو نوع الصخور الرئيسية التي تشكل أحواض المحيطات. والگرانيت أقل كثافة (أسفل) وهو مكون رئيس للقارات. وطفو الگرانيت يُبقي القارات عائمة بينما يغطس قاع المحيط بسهولة في باطن الأرض الساخن. |
ضربات صلبة(*******)
لقد أجاب عن السؤال الأخير اثنان من الجيـولوجيين الأمريكيين في عام1986. فأثناء رحلات أبحاثهم السنوية إلى حزام الصخور الخضر في جبال باربيرتون عثر <R.D.لوي> [من جامعة ستانفورد] و <R.G.بيرلي> [من جامعة ولاية لويزيانا] على طبقة رقيقة من الرواسب البحرية القديمة تحتوي على مئات من الخرز الجوفاء الشبيهة بالزجاج. لقد بدت هذه الكريات الصغيرة بحجم الرمال، بعد دراستها دراسة معمقة، مماثلة تقريبا لما يسمى بكريات التصادم التي أصبحت إلى حد ما من أقوى الأدلة على ضرب الكرة الأرضية بكويكب قبل 65 مليون سنة، منهيا بذلك عهد الدينوصورات. وهكذا، أصبحت هذه الكريات التي عُثِر عليها في جبال باربيرتون، والذي يعود عمرها إلى 3.2بليون سنة، إضافة إلى عمر طبقة أخرى من الكريات التي وجدت في راسخ پلبارا بأستراليا – الدليل الأول على ضربِ أجسامٍ فضائية كبيرة الكرةَ الأرضيةَ أثناء الدهر القديم.
ومن ثم تتابعت اكتشافات أخرى. فمع معرفة <لوي> و<بيرلي> أنّ طبقة الكريات الناجمة عن التصادم الذي أباد الدينوصورات وجدت في جميع أنحاء الكرة الأرضية، ربطا بسرعة بين طبقة جنوب إفريقيا والطبقة الأسترالية التي يعود عمرها إلى 3.5 بليون سنة والتي وجداها في جبال باربيرتون. واكتشفا أيضا طبقتين إضافيتين من الكريات عمرهما 3.2 بليون سنة في جنوب إفريقيا. وكذلك، عثر <سيمنسون> على طبقات غير متوقعة من هذه الكريات أثناء استكشافاته عن تشكيلات الحديد في منطقة پلبارا في بداية التسعينات من القرن المنصرم، موسعا بذلك سلسلة ضربات الكويكبات المذهلة إلى أبعد من مجرد نهاية الدهر القديم أي إلى أبعد من 2.5 بليون سنة مضت.
وقد أعطت عمليةُ فحص أحزمة الصخور الخـُضُر القديمة مع استحضار التصادمات القديمة هؤلاء الجيولوجيين بصيرة إضافية حول الكويكبات ونتائجها. فقد استنتج <لوي> و<بيرلي> من تركيب الكريات الغني بالمغنيسيوم والحديد، على سبيل المثال، أن الصخور الفضائية الشاذة قد ضربت على الأرجح الصخور الثقيلة (الكثيفة) في حوض المحيط – ربما على مسافة بعيدة عن المناطق التي تكون فيها الكريات المحفوظة قد استقرت (توضعت) فيها. فهم يذكرون أنّ الأدلة التي اكتشفوها في جنوب إفريقيا عن اكتساح الكرة الأرضية بموجات تسونامية tsunamis رافقت كل طبقة من طبقات الكريات، تؤيد كذلك أن الكويكبات اصطدمت بالمحيط بدلا من اصطدامها بكتلة قارية مكشوفة.
وقد أشار <گليكسون> إلى تزامن بعض الضربات مع تشكيل «إمدادات وفيرة من جلاميد (حصى كبيرة) مزواة، بما في ذلك كتل يصل طولها إلى 250مترا،» في منطقة پلبارا. ومثل هذه الكتل المختلطة هي نتيجة تحطم لارتفاع سطح الأرض وانهياره على طول صدوع الزلازل الكبيرة في المنطقة. والواقع أن عددا ضخما من الزلازل القوية يمكن أن يكون أحد أكثر المفاعيل الفورية لتصادم كويكبي كبير.
ومن الواضح، أن تصادمات الدهر القديم المبكرة لم تكن خفيفة الوقع على كوكب الأرض. ويقدر <لوي> و<بيرلي> أنّ كويكباتهما كانـت كبيرة: أقطـارهـا تتراوح ما بين 20 و 50 كيلومترا، اعتمادا على انتشارالكريات ومقارنات أخرى بمقذوفات من التصادمات الأحدث عمرا. (على سبيل المقارنة، تشير أفضل التقديرات إلى أن قطر الكويكب الشارد الذي قتل الدينوصورات لم يتجاوز 15كيلومترا.) وقد دعّمت هذه المؤشرات المتعلقة بحجم الكويكبات فكرة <گليكسون> بأنها يمكن أن تكون قد أدت دورا في تشكيل القارات. ومن دون تأخير، بدأ <گليكسون> بلفت الانتباه إلى تغيرات مفاجئة أخرى في السجل الصخري تماما حول زمن التصادمات الثلاثية الملهمة: تلك التي وجدها <لوي> و<بيرلي> مجمعة في رواسب جنوب إفريقيا التي توضعت قبل نحو3.2 بليون سنة.
ففي بحث تقني حديث، يرى <گليكسون> أن توقيت هذه التصادمات يتوافق مع الأدلة الكبرى على أن هذه المناطق كانت ترتفع فوق مستوى سطح البحر لأول مرة – مشكلة على ما يبدو قارة جديدة. وعلى وجه التحديد، فإن السجل الصخري الذي توضّع قبل التصادمات يتكوّن من طبقات ثخينة من قشرة محيطية وأنواع من الرواسب التي تتشكل على قاع البحر. أما أثناء الفترة التي تشمل الضربات الكويكبية، فإن الطبقات البازلتية تتشوه وترتفع إلى الأعلى وتتعرّض للتحات – وهذا نمط من اضطراب قشرة الأرض يعزى بسهولة – وفقا لتعليل <گليكسون> – إلى صدمة من تصادمات كويكبية. وفي المقابل، فإنّ جميع الصخور، التي تشكلت بعد زمن التصادم الثلاثي، تمثل بقايا حتِّ الصخور التي لا يمكن أن تتشكل إلا على اليابسة. ويشير هذا التغيير إلى أنّ قوى كبيرة ضمن الكرة الأرضية رفعت القشرة فوق سطح المحيط بعد فترة زمنية غير طويلة من الضربات الكويكبية، وشكلت صخورا گرانيتية وغيرها من الصخور التي تتشكل على القارات، وأنها تآكلت في نهاية المطاف.
ويقترح <گليكسون> كذلك أن الضربات الكويكبية نفسها كانت السبب في ارتفاع جزء من قشرة الأرض واضطرابها. أما أكثر أدلته حسما فهو الكتل الضخمة من الصهارات الگرانيتية التي اندست في منطقتي پلبارا وكاپڤال من الأسفل قبل نحو 3.2 بليون سنة. ويذهب <گليكسون> إلى أنّ تزامن التصادمات الكويكبية وتشكّل هذه الصهارة الجديدة لم يَكُنا مجرد صدفة؛ بل كانا السبب والنتيجة. ويؤكد أنّ قواها المغيّرة للكوكب «سببت رفعا رئيسيا للقارات الوليدة المبكرة واندساس الصهارات الگرانيتية، وكلاهما يشهد على المنشأ العنيف لبعض الأجزاء على الأقل من القشرة القارية». والسؤال الحاسم هو: ما هي عملية التسخين التي ولدت الصهارة؟ وكان جواب <گليكسون> هو أنّ القوة المدمرة للتصادمات الكويكبية التي يعود عمرها إلى 3.2 بليون سنة قد حولت اتجاه أنماط حمل الوشاح، مما أحدث أعمدة جديدة من الوشاح ارتفعت نحو الأعلى وسخنت قشرة الأرض من الأسفل.
نقد بنّاء(********)
يعتمد قبول ما يؤكده <گليكسون> في جزء كبير منه على حجم الكويكب الشارد. فمن منظور آلية الكرة الأرضية الداخلية، فإنّ صخرة بحجم الكويكب الذي أباد الدينوصورات لن تكون أكبر من «حشرة صغيرة على زجاج السيارة الأمامي،» على حد قول <سيمنسون>. ولكن إذا كانت التصادمات القديمة المبكرة ضعفي هذا الحجم، فإنها يمكن أن تكون قد تركت أثرا يستمر مدة أطول. وعلى وجه الخصوص، فإنّ تصادمات كبيرة بقطر قدره 50 كيلومترا قد تُحوِّلُ فعليا أنماطَ التدفق الحراري في باطن الأرض، وفقا لما ذكره الجيوفيزيائي <J.ميلوش> [من جامعة پوردو]. فقد وصف <ميلوش> اعتمادا على محاكاة التصادمات الافتراضية الحاسوبية التي طورها مع زملائه لأغراض أخرى، كيف أنّ تصادما كويكبيا قديما مبكرا كبيرا، بما فيه الكفاية، قد يساعد في الواقع على تنامي حجم القارة [انظر المؤطّر أعلاه].
وفي هذا السيناريو الافتراضي، يفترض <ميلوش> أنّ تصادما، مثل تصادم كويكب بقطر 50 كيلومترا يضرب حوض المحيط بسرعة نحو 20 كيلومترا في الثانية، لا يحفر حفرة تصادم، وإنّما بدلا من ذلك يولّد بحرا هائلا من الصخور المنصهرة قطره وعمقه نحو 500 كيلومتر. وإذا كانت مثل هذه البحيرة من الصُّهارة الناجمة عن تصادم الكويكب تشكل قمة عمود من وشاح الأرض، فإنّ حرارتها الشديدة توقف ارتفاع العمود من الوشاح وعندئذ تحرف مساره إلى المناطق المجاورة له. ويمكن لعمود من الوشاح منحرف المسار تحت قشرة محيطات ثخينة أن يولّد جزرا قد تجد فيما بعد طريقها إلى منطقة الانغراز وتؤدّي إلى ثخانة جانبية لقارة متنامية. أمّا إذا حدث وارتفع العمود المنحرف المسار تحت قارة أولية تحوي صخورا أقل كثافة بالفعل، فإنّ المصدر الحراري الجديد يكون كافيا لإحداث موجات صاعدة جديدة من الصهارة الگرانيتية مثل تلك الواقعة في أحزمة الصخور الخـُضر في پلبارا وكاپڤال، ومن ثَمَّ مؤدية إلى زيادة الثخانة في أسفل القارة.
غير أن <ميلوش> يحذر من أن هذا السيناريو فيه الكثير من الشكوك. مبرهنا على أنه من المستحيل في الواقع أنّ كويكبا مفترضا قد حرّف مسار أعمدة الوشاح، ليحدث أجنّة قارات محدّدة موجودة في السجل الصخري. فالفوهات التي أحدثتها الكويكبات، منذ فترة طويلة، انغرزت في باطن الأرض أو تعرضت للتحات واختفت. حتى ولو كان عمود من الوشاح مسؤولا بالفعل عن إنتاج صخور الگرانيت، فمن ذا الذي يقول إنه لم يكن يرتفع بالفعل تحت قارة أولية حتى قبل ضربة الكويكب؟
وفي النهاية، وضّح <ميلوش> المصادفة المدهشة في التزامن بين ضربات الكويكبات القديمة المبكرة وبين صعود المواد المنصهرة الجديدة في الشظايا القديمة للقارات الحالية، وكان قد ربطهما معا بوجود آلية موثوقة لكيفية توجيه ضربة كونية يمكن أن تؤدي فعلا إلى إنتاج مثل هذه المواد المنصهرة. وبحسب <لوي>: «إنها فرضية محتملة جدا حول ما قد حدث». «ولكنه تفسير واحد فقط.» ومما لا شك فيه، أن التصادمات المغيّرة لكوكب الأرض قد أعاقت الديناميات الداخلية للكرة الأرضية – وربما لا يكون العنف الذي صاحبها مدمرا كلّيّا.
مراجع للاستزادة
The Evolution of Continental Crust. S. Ross Taylor and Scott M. McLennan in Scientific American, Vol.274, No. 1, pages60-65; January 1996.
Field Evidence of Eros-Scale Asteroids and Impact Forcing of Precambrian Geodynamic Episodes, Kaapvaal (South Africa) and Pilbara (Western Australia) Cratons. Andrew Y. Glikson in Earth and Planetary Science Letters, Vol. 267, pages 558-570; 2008.
Explore the aftermath of asteroid impacts at www.lpl.arizona.edu/ impact effects
(*) VIOLENT ORIGINS OF CONTINENTS
(**) Continents Shape Up
(***) Land, Ho!
(****) Knowing Where to Look
(*****) Repeated Blows to an Ancient Continent
(******) How Land Might Emerge from Cosmic Chaos
(*******) Solid Blows
(********) Constructive Criticism