بعض الفلاسفة يفعلون اليوم ما هو أكثر من التفكير بعمق، فهم يقومون
بإجراء تجارب علمية تتعلق بطبيعة الإرادة الحرة وطبيعة الخير والشر.
<J. كنوب>
باختصار
إن الصورة النمطية للفيلسوف تعرضه على هيئة شخص بالغ الرقة والشفافية غارق في أفكاره ومنعزل عن الاهتمامات الدنيوية في الحياة اليومية.
ولكن ها هي سلالة جديدة من المفكرين تبدأ بالاعتماد على علوم الاستعراف (الإدراك والتفكير) من أجل التدقيق في موضوع كيف يدرك الناس العالم على الطريقة المعينة التي يدركونه عليها.
فالاتجاهات الجديدة التي يُقدمها تيار الفلسفة التجريبية يمكنها أن توضح لنا ما إذا كانت هناك بالفعل إرادة حرة أم لا، وما إذا كانت الأخلاقية أمر تكوين نسبي أم ليست كذلك.
ما أن تفكر في تخصص علم الفلسفة، حتى تندفع إلى ذهنك صورة معينة: فربما تتصور أمامك صورة شخص يجلس جلسة مريحة على مقعد ذي ذراعين، تائها بين أفكاره، وهو يتمعن في بعض الكتب القديمة. وربما تخيلت الفلسفة ميدانا للبحث شديد الأكاديمية ومبهما بطبيعته ولا يربطه شيء بأي من أساسيات العلم في نشاطه الفعلي، وفي جميع الأحوال، فإنك على الأغلب لن تفكر في أناس يغادرون منازلهم ويجرون تجارب علمية.
ومع ذلك، فقد حدث أمر غريب إلى حدّ ما: ذلك أن جماعة من فلاسفة شبان بدؤوا يقومون تحديدا بعمل ذلك. وحجة هؤلاء «الفلاسفة التجريبيين(1)» هي أن الأبحاث التي تدور حول أعمق أسئلة الفلسفة يمكن أن تزداد ثراء وحياة عن طريق الأبحاث الفعلية حول كيف يفكر الناس وكيف يشعرون على نحو ما يحدث فعلا. وفي سعيهم إلى تحقيق تقدم بشأن تلك القضايا العميقة، يقومون باستخدام سائر مناهج علم الاستعراف(2) المعاصر. وهكذا، فإنهم يجرون التجارب، ويشكلون مع سيكولوجيين فرقا مشتركة وينشرون أبحاثا في مجلات كانت مخصصة أساسا للعلميين. وقد كانت نتيجة ذلك شيئا قريبا من الثورة. ومع أن هذه الحركة لم تكد تبدأ إلا منذ أعوام قليلة، فإنها قد أفرخت بالفعل مئات من المقالات العلمية، وأظهرت تيارا متصلا من النتائج المدهشة وأدت إلى مواقف وآراء تتسم بالقوة الكبيرة من شتى الجوانب.
وللوهلة الأولى، قد يبدو كل هذا باعثا على استغراب عميق، فكأن الفلاسفة بهذا قد توقفوا عن إنتاج فلسفة حقة وأخذوا في تغيير مسار أبحاثهم نحو أمر مختلف تماما. ومع هذا، فلعل هذه المقاربة ليست في الواقع بالغرابة التي تظهر عليها عند النظر إليها للمرة الأولى. ففي برامج الأبحاث العلمية النموذجية يستعمل العلماء أدوات معينة (التليسكوب(3) في علم الفلك، والميكروسكوب في علم الأحياء وغير ذلك). وعادة لا يفكر العلماء كثيرا في شأن تلك الأدوات نفسها، وإنما يأخذون في استخدامها من أجل الوصول إلى الوقائع القائمة في العالم الخارجي على نحو مستقل عن الإنسان. وأحيانا قد تظهر المعلومات الناتجة من أدواتهم، بمظهر غير قابل للتصديق تماما، أو قد تكون متعارضة مع الآراء المعتمدة بناء على نظرية معينة، كما قد تكون هي نفسها متناقضة ذاتيا. وفي مثل هذه الحالات، فإن ما قد ثبت أنه مفيد حقا هو أن يتحول نظر الباحث العلمي من الوقائع ذاتها التي يحاول أساسا أن يدرسها، لكي ينظر نظرا فاحصا في الأدوات التي يستخدمها هي نفسها. حتى إن المرء قد يجد فعلا أن أفضل طريقة لحل مشكلة ما في علم الفلك إنما هي البدء بالقيام بدراسة علمية للتليسكوبات.
ولكن الفلاسفة لا يستخدمون التليسكوبات ولا الميكروسكوبات. وإنما نحن نعتمد كلية إلى حد ما، على أداة محددة واحدة، وهي العقل البشري، وهو الذي ينتج الأفكار التي تُسيِّر مهنتنا. ومع ذلك، فإن المبدأ الأساسي نفسه ينطبق على هذه الحالة أيضا. فالقاعدة الغالبة هي أننا لا نهتم كثيرا بالكيفية التي تعمل بها عقولنا، وإنما ببساطة نستخدمها للوصول إلى حقيقة مستقلة. ومع ذلك، فإن هذا المسار وطريقة النظر تفشل أحيانا، حيث يحدث بين حين وآخر أن تتجاذب عقولنا بين اتجاهين، تقريبا كما لو كان في داخلنا صوتان مختلفان يجيب كل منهما إجابة متعارضة مع إجابة الآخر عن السؤال نفسه. وفي مثل هذه المواقف، فلربما يكون مفيدا أن نقوم باستكشاف العقل نفسه وأن ننظر نظرة علمية إلى مصادر حدوسنا وحدوس(4) غيرنا الفلسفية.
هنا يأتي دور الفلسفة التجريبية. والفكرة المفتاح في هذا الشأن هي أنه إذا كان من الممكن التوصل إلى فهم أفضل للعوامل السيكولوجية القائمة من وراء الحدوس الفلسفية، فيكون لدينا إدراك أفضل لأي الحدوس تكون الأجدر بثقتنا، وأيها ينبغي علينا أن نصرف النظر عنها، لأنها تكون مما لا يمكن الاعتماد عليه أو تكون مضللة.
هذا العمل هو الذي سوف يوفر لنا، فيما نأمل، فهما أفضل لاعتقادات الناس حول القضايا الفلسفية الكبرى. فكيف يصل بعض الأفراد إلى الاعتقاد في حرية الإرادة؟ وهل يرون في دعاويهم الأخلاقية(5) حقائق موضوعية؟ وسوف تكون لنتائج هذا العمل، في نهاية الأمر، متضمنات عملية تخص الأحكام القضائية ومبحث الأخلاق وغيرهما من الحقول.
حرية الإرادة، أسلوب تجريبي(**)
تخيّل أنك شاهد على ارتكاب جريمة قتل. وقد يبدو لك في البداية، وأنت تنظر إلى المشهد الماثل أمامك، أنه من الواضح أن القاتل مسؤول خلقيا عما فعله وأنه يستحق تماما العقاب. والآن، افترض أنك توقفت لتمعن النظر في الأمر من الوجهة الفلسفية. من المفترض أن فعل القاتل قد تسببت في حدوثه حالات ذهنية معينة عنده، ومن المحتمل أن هذه الحالات الذهنية قد تسببت فيها أحداث أخرى سابقة عليها…، وهكذا بحيث إنه ربما كان فعل القاتل ما هو إلا الحلقة الأخيرة من سلسلة يمكن تتبعها حتى نصل إلى وقائع معينة حول جيناته وبيئته. ولكن، إذا كان هذا التسلسل هو الذي شكل القاتل، فهل يحق لنا أن نعتبره مسؤولا خلقيا عما ارتكبه؟ إن بعض الفلاسفة يقولون نعم، وآخرون يقولون كلا، ويستمر الأخذ والردّ بين هذين الموقفين بلا نهاية. وتلك هي المشكلة القديمة، مشكلة الإرادة الحرة.
لقد فكرتُ مع فيلسوف التجريب <Sh. نيكولز> [من جامعة أريزونا] أن الصراع الذي قام حول هذه المشكلة ربما تعود جذوره إلى توتر أخذ ورد بين شكلين من أشكال الاستعراف البشري. فقدرتنا على التأمل النظري المجرد قد تؤدي بنا إلى التفكير بطريقة معينة، بينما الاستجابات المباشرة لمشاعرنا تدفعنا بالاتجاه المعاكس تماما. إن أحد الدوافع يخبرنا: «إنك لو فكرت في الأمر بطريقة عقلانية، فستجد أن سلوك القاتل ما هو إلا حلقة واحدة في سلسلة سببية معقدة، ومن ثم لا يمكن إطلاقا اعتبار القاتل فعليا حرا أو مسؤولا.» ثم يقتحم دافع آخر ويقول: «توقف! إن هذا الشخص ما هو إلا قاتل، ولا مفر من أن يلام على فعلته تلك.»
وقد أجريت بالاشتراك مع <نيكولز> تجربة، بادئين بسؤال المشاركين فيها حول كون افتراضي («كون A») يكون فيه كل ما يفعله أي شخص محددا تماما عن طريق سَلسلة سببية(6) تمتد إلى الماضي.
وعشوائيا خصص كل مشارك في التجربة لواحد من الموقفين من القضية المطروحة. وقد وجه إلى أصحاب أحد الموقفين السؤال التالي بهدف أن يستثير عندهم التأمل النظري المجرد:
«في الكون A، هل من الممكن للناس أن يكونوا مسؤولين مسؤولية أخلاقية تامة عن أفعالهم؟»
وأما أصحاب الموقف الآخر، فقد عرضت عليهم قصة شديدة الواقعية، بل ومفزعة، وذلك بهدف أن تُحدث هذه القصة عندهم استجابة لموقفهم تقوم على المشاعر بأكثر من أي شيء آخر:
«في الكون A، كان هناك رجل اسمه «بِلْ»، وكان مفتونا بسكرتيرته، حتى إنه قرر أن الطريقة الوحيدة لأن يكون معها هي أن يقتل زوجته وأطفاله الثلاثة. وكان يعلم أنه من المستحيل لأحد أن يهرب من منزله في حالة اندلاع حريق فيه. وقبل انطلاقه برحلة عمل، أعدّ أداة لحرق منزله وقتل عائلته. فهل يُعتبر «بِل» مسؤولا مسؤولية أخلاقية تامة عن قتل زوجته وأطفاله؟»
وقد مال هؤلاء الذين وجه إليهم السؤال النظري المجرد إلى الإجابة عنه بالنفي: فلا أحد يمكن اعتباره مسؤولا من الناحية الأخلاقية في كون حتمي(7)، بينما مال أولئك المشاركون الذين وُجِّه إليهم السؤال الثاني، الأكثر واقعية، إلى الأخذ بوجهة النظر المضادة تماما، قائلين إن «بلّ» مسؤول فعلا عما ارتكبه. وبعبارة أخرى، فإن الناس يرون من الناحية النظرية (المجردة) أنه لا أحد يعتبر مسؤولا من الناحية الأخلاقية في كون حتمي، بينما إذا ما هم ووجهوا بقصة عن فرد معين تورط في القيام بعمل فيه خسة وغدر، فإنهم يكونون راغبين تماما في القبول بأنه مسؤول مسؤولية أخلاقية بغض النظر عن طبيعة الكون الذي يعيش فيه.
ومع أن هذه الدراسة الأولى كانت صغيرة نسبيا، إذ أجريت على عشرات قليلة من الطلبة الجامعيين الأمريكيين، إلا أن السنوات القليلة التالية شهدت عددا من محاولات استكشاف هذه الظواهر بطريقة أكثر دقة. وقد استخدمت إحدى هذه التجارب عينة مكونة من عدد كبير من المشاركين (أكثر من ألف مشارك)؛ كما نظرت تجربة أخرى إلى حدوس المشاركين في الوضع المجرد من خلال انتماءاتهم إلى ثقافات مختلفة (من الهند وهونگ كونگ وكولومبيا والولايات المتحدة الأمريكية). ودائما عبر هذه التجارب، كانت نتائج الدراسة الأولى تعود مرة بعد أخرى إلى الظهور. وهكذا، أصبح من الظاهر حقا أننا قد أمسكنا بنتيجة أو أثر حقيقي، وإن استمرت الأسئلة الخاصة في تفسير كيفية قيام تلك النتيجة أو الأثر: فهل ذلك الأثر هو مظهر في الواقع للاختلاف بين طريقة التفكير النظرية وتلك الواقعية(8)؟ ومن أجل تحري هذه القضية على نحو أوسع، فقد احتجنا إلى دراسات تستخدم طرائق مختلفة نوعا ما.
وقد قامت الفيلسوفة التجريبية <Ch. وايگل> [من جامعة يوتا ڤالي] بإجراء اختبار أنيق ولافت للنظر إلى حد بعيد. ذلك أنه قد طُلب إلى جميع المشاركين في الاختبار أن يتخيلوا أنهم يستمعون إلى محاضرة فلسفية حول مشكلة الإرادة الحرة. وقد شرَحت المحاضَرة، التي طُلب إليهم تخيلها، تلك المشكلة بصفة عامة ثم انتهت بذكر المثال نفسه الذي وصف من قبل هنا: عن الرجل الذي يعيش في كون حتمي ويقوم بقتل زوجته وأطفاله. ولكن <وايگل> قامت بإدخال تعديل على هذه القصة هو غاية في البراعة: فقد طُلب إلى بعض المشاركين أن يتخيلوا أن المحاضرة كانت تحدث «قبل بضع سنين»، بينما طلب إلى بعضهم الآخر أن يتخيلوا أنها كانت تحدث «قبل بضعة أيام.»
وربّما لا يبدو أن لهذا التعديل أي صلة قوية بمسألة الإرادة الحرة، إلاّ أنه متصل كثيرا بمسألة الإدراك البشري. فقد أظهرت سلسلة طويلة من الدراسات التجريبية أن تخيل حدث حصل في فترة زمنية بعيدة نسبيا يؤدي بالناس إلى استخدام نوع مختلف من العملية الاستعرافية (الإدراكية والتفكيرية): فهي تكون تجريدية ونظرية أكثر، وعلى مستوىً عالٍ. وبعبارة أخرى، فإن القصة التي تدور حول ما حدث في زمن أبعد يمكن أن تستثير عملية تأملية(9) إلى درجة أعلى من غيرها («حسنا، لو أنك فكرت في الأمر بطريقة عقلانية…»)، بينما القصة الأخرى حول ما حدث في زمن أقرب لعلها تستثير حدوسا أكثر واقعية عند الفرد («انتظر! إن هذا الشخص ما هو إلا قاتل!»). وقـد كـان مـن الطبيعـي أن تجـد <وايگل> أن تعديلها كان يغير من حدوس الناس: فهؤلاء الذين طلب إليهم أن يتخيلوا حدثا تم قبل فترة أطول انتهوا إلى أن يصبحوا أقل ميلا إلى القول إن البشر يمكن لهم أن يكونوا مسؤولين مسؤولية أخلاقية، حتى وإن كانوا يعيشون في كون حتمي.
ويبدو الآن أنه من المقبول أكثر وأكثر أن حس الحيرة والتردد والصراع الداخلي عند الناس بشأن مشكلة الإرادة الحرة، ربما يتبين أنه ناجم بالفعل عن توتر وتنازع ما بين أحكامهم الأكثر تجريدا ونظريةً واستجاباتهم لمشاعرهم الأكثر واقعية. كما أن للمواقف التي يجدون أنفسهم فيها في لحظة معينة، تأثيرا بارزا في المواقف الأخلاقية التي قد يتخذونها.
إن الاستقصاءات البحثية حول الأسباب التي تدعو الناس إلى التفكير والشعور بالطريقة التي تعودوا عليها، يمكن أن توفر تبصراً ثميناً في الأفكار الفلسفية التي تستحق فعلا أن تعتنق.
ولا ريب في أن مجرد قبول هذه الفرضية من قبل عدد قليل من الدراسات الأولية لا يبرهن على صحتها. بل إن الفيلسوف التجريبي <E. ناهمياس> [من جامعة ولاية جورجيا] قد تقدم بفرضية منافسة مهمة، وهي لا تقول بوجود تنازع بين العقل والمشاعر، ومن المتفق عليه على نطاق واسع أن الدلائل المتاحة الآن نتيجة للتجارب المذكورة ليست كافية من أجل حل سائر المشكلات الكبرى في هذا الحقل. ومع ذلك، فإن ما لدينا هنا هو حتما بداية جديدة على أقل تقدير. ومع أن هناك قدرا كبيرا من الأبحاث علينا إنجازه، إلاّ أننا الآن في مستهل برنامج من البحث التجريبي حول الجذور السيكولوجية لفهم الناس للإرادة الحرة.
هل الأخلاقية أمر نسبي؟(***)
لقد ركزت حتى الآن على القضايا التي يمكن أن تبدو إلى حد ما عويصة أو أكاديمية، ولكن الفلسفة التجريبية يمكنها أيضا أن تساعد على إلقاء الضوء على الأسئلة التي تقع في صميم الجدل المعاصر بشأن الأخلاقية.
لنتخيل أن «سمير» و «كمال» ينتميان إلى ثقافتين مختلفتين. وبينمـا يقـول «سمير»: «إن ضرب الآخرين من الناس هو عمل سيىء أخلاقيا»، فإن «كمال» يقول: «إن ضرب الآخرين أمر سليم ومقبول تماما، فما هو إلا الطريقة المناسبة لإثبات قوة الشخص وبسالته.» وهنا نواجـه ســـؤالا صعبـا: فبمـا أن «لسمير» و «كمال» رأيين متعارضين، فهل من الممكن أن يكون أحدهما على خطـأ؟ أم أنه لا توجد في هذه الحالة إجابة صحيحة واحدة وحاسمة، بحيث إن كلا منهما يمكن له أن يكون على صواب بالنسبة إلى نظام القيم الثقافية الخاصة به؟
وهذا السؤال، من بين سائر الأسئلة النظرية التي تناقشها الفلسفة، كان من أكثرها استقطابا للآراء المتخالفة في إطار الحضارة الغربية ككل. وغالبا ما يتجه معسكر الراديكاليين، على تنوع أطيافهم، إلى القول إنه لا توجد حقيقة مطلقة واحدة مفردة، وأن الأخلاقية هي دائما أمر نسبي في جوهرها، بينما المفكرون الذين يغلب عليهم اتجاه المحافظين غالبا ما يؤكدون على وجود حقائق أخلاقية موضوعية objective. وقد تدخل البابا <بنيدكتوس السادس عشر> بنفسه حديثا في هذا النقاش، حين أعلن أن اتجاه القول بالنسبية الأخلاقية يؤدي «إلى الخلط والاضطراب أخلاقيا أو فكريا، وإلى تدني المعايير الأخلاقية، وإلى فقدان الاحترام الذاتي، بل وإلى انقطاع الأمل.»
وفي محاولة للوصول إلى الجذور السيكولوجية لهذا الجدل، فإن السيكولوجي <T .E. كوكلي> [من جامعة ميتشيگان التكنولوجية] والفيلسوف <A. فلتز> [من جامعة Schreiner] طرحا على المشاركين في دراستهما قصة حول أناس يعلنون آراء متضادة حول موضوع أخلاقي ما، ثم سُئِل المشاركون بعد ذلك عما إذا كان ينبغي أن يوصف أحد الأطراف بأنه على خطأ (وهذه هي الإجابة المناوئة للاتجاه النسبي,) أم لعل الأمر أنه لا يوجد موقف واحد مفرد هو الصحيح (وهذه الإجابة النسبية.) ثـم إن دراسـة <كوكلي> و <فلتز> تضمنت أيضا انحرافا مهما.
لقد طبّقا على كل مشارك معيارا نموذجيا لسمة الشخصية وهو «الانفتاح على الخبرة,» وأصبح بمقدورهما أن يحددا أي المشاركين هو أكثر انفتاحا على الخبرة وأيهم أكثر انغلاقا. وقد أثبتت النتائج وجود ارتباط قوي: فكلما علا المشارك من حيث انفتاحه على الخبرة، زاد احتمال تأييده للإجابة النسبية.
وهذه الدراسات تقترح فرضية علمية حول جذور الاتجاه النسبي. فربما كان الانجذاب الذي يشعر به الناس أحيانا نحو النسبية الأخلاقية على علاقة بنوع ما من أنواع الانفتاح. فعندما يجابهون وجهات نظر أخرى وطرق حياة مختلفة، فإنهم يشعرون بأنهم مدفوعون إلى الأخذ بالاتجاه النسبي، وذلك إلى درجة أنهم ينفتحون أمام تلك الإمكانات الأخرى، بل ويتلبسونها بخيالهم.
وقـد ظهـر اختبـار مبتكـر لقيـاس صحـة هذه الفرضية، قام به العالمان السيكولوجيان <G. گودون> [من جامعة بنسلڤانيا] و <J. دارلي> [من جامعة برنستون] حيث قاما بقياس طرق التفكير لدى المشاركين في الاختبار، وذلك بعرض معضلة منطقية على كل واحد منهم، ومن عناصرها وضَعُ عدد من الوحدات في تشكيل ما وبطريقة معينة. ومع أن المشكلة كانت تبدو في ظاهرها وكأنها مشكلة عادية، إلا أن الأمر احتوى على حيلة دقيقة: ذلك أنه لم يكن من الممكن الوصول إلى الإجابة الصحيحة إلا بالنظر إلى المشكلة من وجهات نظر متعددة. وهكذا، فإن المسألة المركزية في ذلك البحث إنما كان موضوعها العلاقة بين قدرات الناس على حل هذه المشكلة وبين حدوسهم في شأن الاتجاه النسبي. وقد كان من المدهش إلى حد ما أن الباحثيْن توصلا، من جديد، إلى وجود ارتباط قوي بين الأمرين: فهؤلاء المشاركون الذين تناولوا حل المشكلة على نحو صائب كانوا من القادرين إلى درجة عالية على تقديم إجابات تتسم بالنسبية.
ومن ثم، بدأنا ندرك نوعا من التوافق: فلدينا سلسلة من دراسات مختلفة، قام بها باحثون مختلفون بتطبيق طرائق مختلفة تماما، ومع ذلك فإن هذه الدراسات جميعها دللّت على نتيجة أساسية واحدة: أن الناس يميلون إلى تبني مذهب النسبية طالما أنهم يستطيعون جعل أنفسهم منفتحين على وجهات النظر الممكنة الأخرى. وهذه النتيجة قد تعيننا على حيازة بصيرة نحن في أمسِّ الحاجة إليها، حول أحد من أكثر أشكال الجدل الفلسفي الدائمة في عصرنا هذا.
هل علينا أن نهمل المعرفة
غير المؤسسة على خبرات مباشرة؟(****)
لنفترض الآن، لمجرد متابعة المناقشة، أن الفلسفة التجريبية استمرت في تحقيق تقدم، ولنتخيل أن جميع أسئلتنا المعتمدة على التجربة والمعاينة قد حلت، وأننا سنصل في نهاية المطاف إلى فهم دقيق للعمليات الاستعرافية (الإدراكية والتفكيرية) لآراء الناس الفلسفية. ولكن، حتى في هذه الحالة، فقد يبدو أننا لم نجابه بعد مجابهة كاملة السؤال الأصلي في صلب الحوار الفلسفي: وهو تحديدا: هل هذه الآراء صائبة حقا أم خاطئة. وهذا السؤال الأخير قد يرى بعض الناس أنه بالذات ليس من نوع الأمور التي قد يكون من الممكن الإجابة عنه بإجراء تجارب. وهكذا، آجلا أو عاجلا، لا بد من أن يعود بعض الفلاسفة إلى الجلوس على المقعد ذي الذراعين، ليتفكروا تفكرا عميقا في شأن القضايا الفلسفية ذاتها.
وإذا أخذنا وجهة النظر هذه بالذات، فإنها سليمة ومناسبة إلى حد بعيد، وسوف يقبلها أي فيلسوف بكل سرور. إلاّ أنه سيكون من الخطأ الكبير أن نعتبرها وكأنها تكوِّن اعتراضا ناسفا لمشروع الفلسفة التجريبية كله. فلم يقل أحد إن على الفلاسفة أن يهجروا أشكال التفكير الأخرى وأن يشغلوا كل وقتهم بإجراء تجارب، وإنما بالأحرى هو أن يصبح العمل التجريبي جزءا من بحث فلسفي أوسع مدى. فالفلسفة التجريبية لا تفعل شيئا غير أن تضيف أداة جديدة إلى صندوق أدوات الفيلسوف. فلعله من المفيد أحيانا، ونحن نجلس في مقاعدنا نتصارع حول اعتقاداتنا المختلفة، بل ومن اللازم أيضا هنا أو هناك، أن نتوصل إلى فهم أفضل للعمليات الاستعرافية (الإدراكية والتفكيرية) التي تؤدي إلى ظهور تلك الاعتقادات.
المؤلف
Joshua Knobe
<كنوب> أستاذ مساعد في قسم الفلسفة بجامعة ييل وأحد مؤسسي اتجاه الفلسفة التجريبية. وهو مشهور بتصوره لما سمي «أثر كنوب»، الذي يقول إن الأحكام الأخلاقية للفرد لها تأثير مدهش في طرائق فهم الناس للعالم.
مراجع للاستزادة
Experimental Philosophy. Edited by Joshua Knobe and Shaun Nichols. Oxford University Press, 2008.
(*)THOUGHT EXPERIMENTS
(**)FREE WILL, EXPERIMENTAL-STYLE
(***)IS MORALITY RELATIVE?
(****)SHOULD WE BURN THE ARMCHAIR?
(1) experimental philosophers أو الفلاسفة المستخدمون للتجارب في أبحاثهم.
(2) cognitive science أو علم الإدراك.
(3) telescope أو المقراب. (التحرير)
(4) جمع «حدس» intuition: واصطلاحا هو فكرة تظهر للذهن فورا ومباشرة، ولكن من الظاهر أن اللفظ يستخدم هنا في معنى متوسط بين «الحدس» بالمعنى الاصطلاحي و «الفكرة» بالمعنى العام.