مجد عظيم… في السباق إلى القطب الجنوبي
مجد عظيم… في السباق إلى القطب الجنوبي(*)
في سباقه إلى القطب الجنوبيّ، رفض
<F .R. سكوت> أن يضحي بخطته العلمية الطموحة.
<J .E. لارسون>
باختصار
تذكر كتب التاريخ أن <R. آموندسن> تغلب على <F .R. سكوت>، في السباق إلى القطب الجنوبيّ عام 1911. ولكن ما لا يأتي ذكره في كثير من المراجع أن رحلة <سكوت> تضمّنت مشاريع تميزت بطموحات علمية كبيرة، وأنه نجح في تحقيق معظمها في آخر المطاف. فقد قام فريق <سكوت> بالعديد من الرحلات الجانبية بحثا عن المستحاثات وعن أدلّة علمية أخرى، على الرغم من التزامه التنافسَ مع <آموندسن>. ومن أكثر اكتشافات <سكوت> أهمية مستحاثات نبتة مغرقة في القدم اسمها گلوسوپتيريس Glossopteris، قدّمت دليلا مهما دعم نظرية تطور الأنواع التي كان <داروين> قد وضعها قبل ذلك بعدة سنوات. |
قبل ما يزيد على مئة عام، في الشهر 6/1911، قبع <سكوت> مع اثنين وثلاثين مستكشفا – ومعظمهم من العلميين البريطانيين وضباط البحرية ورواد البحار – في ظلام شتاء القطب الجنوبيّ، حيث لا ترتفع الشمس البتة فوق الأفق، ويغلِقُ الجليدُ السُّبُلَ إلى البحار المحيطة. فدرجات الحرارة على جزيرة روس، وهي النقطة الأبعد جنوبا التي وصلتها سفينة <سكوت>، تنخفض في الشتاء دون 45 درجة مئوية تحت الصفر. وتهبّ العواصفُ الثلجيةُ الواحدة تلو الأخرى. وفي غياب أجهزة للاتصالات اللاسلكية وانقطاع تام عن العالم، لم يكن بوسع المستكشفين سوى انتظار أيام الربيع الأطول والأكثر، وذلك في الشهر 10 من كل عام، كي يتسنى لبعضهم عبور ما يقارب 1500 كيلومتر من الرصيف الجليديّ والجبال والهضاب القطبية، إلى أن يصلوا نقطة لا تثير اهتمام أيّ كان، ما عدا وقوعها في قعر الكرة الأرضية.
وكانت حملتان بريطانيتان قد حاولتا الوصول إلى القطب الجنوبي سابقا. وقاد <سكوت> إحداهما بين عامي 1901 و1904، في حين قاد <شاكلتون> الحملة الأخرى بين عامي 1907 و1909. ولم تنجح أي منهما في الوصول إلى مبتغاها. ولكن <سكوت> كان متفائلا جدا أثناء الإعداد لمحاولته الأخيرة، إذ استند إلى التجارب السابقة، ليضع خطة نموذجية، لحملة أراد لها أن تحقق أهدافا علمية طموحة، إضافة إلى أن تكون الحملةَ الأولى التي تصل القطب الجنوبيّ. وكان <سكوت> قد أرسل عددا من الفرق العلمية لاستكشاف حوض روس البحري، لجمع المستحاثات وللحصول على بيانات وعلى مجموعة من المعلومات المهمة علميا. وقضت خطته بأن يتجه الفريق الذي يقوده ببطء نحو الجنوب في الربيع ليتمكن من غرس العَلَم البريطانيّ في القطب بحلول الصيف، قبل أن يعود أدراجه مكللا بمجد مزدوج لوصوله القطب الجنوبي قبل سواه ولما حقق من اكتشافات علمية.
منحت أشهر الشتاء الطويل <سكوت> الوقت الكافي للتفكير في قرار خطير كان قد اتخذه قبل أربعة أشهر، قبل أن يُحكِم الشتاء القطبيّ قبضته على فريق المستكشفين. ففي الشهر 2/1911، حين كانت فرقة صغيرة من رجال <سكوت> تسعى إلى الوصول إلى أرض الملك إدوارد السابع – وهي بقعة من القارة القطبية تكاد تكون مجهولة تماما وتقع على الطرف الشرقي من رف روس الجليدي(1) – وجدت أن مجموعة أخرى من المستكشفين قد أنشأت مخيماّ لها عند حافة الرف البحري، على بعد نحو 560 كيلومترا من مخيم <سكوت>. وتبين أن هذه المجموعة المؤلفة من تسعة رجال قد قدمت من النرويج، وأن قائدها كان <R. آموندسن>، وهو خبير قطبيّ وكان أول من اجتاز الممر الشمالي الغربي شمال كندا على مزلجة تجرها الكلاب القطبية. وكان <آموندسن> قد أعلن أنه ينوي التوجه نحو القطب الشماليّ، الذي يبعد مسافة تناهز العشرين ألف كيلومتر إلى الشمال من موقع مُخيّمه، ولكنه حوّل هدفه سـرّا نحو القطب الجنوبيّ لينافس المستكشفين البريطانيين دون علمهم. وكان المستكشفون النرويجيون قد ارتحلوا بأمتعة خفيفة، لأنهم لم يطمحوا إلى إنجاز اكتشافات علمية. بل إن المجموعة النرويجية كانت تخطط للانطلاق بسرعة نحو القطب الجنوبيّ على مزالق فردية مصطحبة مزالج تجرها الكلاب القطبية من قاعدة أقرب إلى القطب الجنوبي بنحو مئة كيلومتر من الموقع الذي انتقته فرقة <سكوت> مخيّما لها. وهكذا تحولت الغاية الأساسية لفريق <سكوت> فجأة من مهمة علمية تتضمن بلوغ القطب الجنوبي إلى سباق.
لقد سـبّب خبر وجود مجموعة <آموندسن> أزمة في مخيم <سكوت>. فقد اقترح بعض أفراد فريقه التحوّل عن الغايات العلمية التي كان الفريق قد التزم بتحقيقها، والتركيز على مهمة الوصول إلى القطب الجنوبي في أقصر زمن ممكن. وقد قال هؤلاء إنه إذا كان القصدُ الاختيارَ بين تحقيق أهداف علمية للحملة، والوصول إلى القطب الجنوبي قبل المجموعة النرويجية، فمن الأفضل انتقاء الخيار الثاني. ولكن، كان ل<سكوت> رأي مغاير. فرحلته الأولى إلى قارة القطب الجنوبي كانت قد جلبت وفرة من العينات الجيولوجية والبيولوجية والبيانات الميتيورولوجية meteorological والمغنطيسية، إضافة إلى اكتشافات مهمة في علوم المحيطات oceanography وعلوم الجليديات glaciology. ورأى <سكوت> أن الجانب العلمي من الحملة الراهنة لا يقل أهمية عن سواه.
رحلة جانبية أحد أعضاء فريق <سكوت>، الذين بلغ تعدادهم اثنين وثلاثين، يتزلج عبر هيكل جليديّ ضخم أطلق عليه اسم القلعة بيرگ(2)، بعيدا عن شاطئ جزيرة روس(3)، في قارّة القطب الجنوبيّ. |
وعلى حين لم يكن <سكوت> يتوقع المنافسة في بداية الحملة، فقد وجد نفسه، بعد اكتشاف منافسه النرويجيّ، مضطرا للاختيار بين المراهنة بجميع ما يمتلك على بلوغ القطب، أو الالتزام بالخطة التي كان قد وضعها للحملة. وفي نهاية المطاف، حزم أمره بالسير وفقا لما كان قد خطط سابقا. فدوّن في مذكراته عن التحدي الذي طرحه اكتشاف فريق <آموندسن> ما يلي: «إن النهج الصحيح والأكثر حكمة، هو أن نستمر تماما، كما لو أن شيئا لم يحدث.» وقد ساوره الشكّ في قدرة فريق <آموندسن> على اجتياز مئات الأميال بسرعة في قفار غير معروفة، لكنه كان يعي أنّه غير قادر على الفوز لو تمكّن منافسه من ذلك. ومن وجهة نظر تاريخية، لا بد أن نشعر بالعرفان بالجميل لأن <سكوت> لم ينبذ الأبحاث لينخرط في مجرّد سباق نحو القطب، ذلك لأن حملته أثمرت العديد من النتائج العلمية الثمينة. ولكن ولاءه للعلم كلّفه وأفراد فريقه ثمنا فاق جميع الحدود.
انشغال بالعلوم(**)
كوّنت العلوم دوما جانبا مهما من تراث البحرية الملكية في بريطانيا – وقد كان <سكوت>، قبل كل شيء، ضابطا في سلاح البحرية البريطانية. وتضمنت الحملات الثلاث التي نُظِّمت في أوائل القرن العشرين فيزيائيين وجيولوجيين وبيولوجيين. ولما كان تطور الأنواع من القضايا المركزية في العلوم آنذاك، فقد تركّز اهتمام العلميّين على الأدلة المستحاثية الأكثر أهمية: كنباتات الحقبة الپاليوزوية Paleozoic، التي تدعى گلوسوپتيريس Glossopteris. إن منتقدي داروين الذين يدافعون عن التفسير الخَلْقي creationist لنشوء الحياة على كوكب الأرض، كانوا يشيرون إلى ظهور هذه النباتات ذات الأوراق العريضة، بطريقة مفاجئة ومتزامنة، في مستحاثات قارات متباعدة في إفريقيا وأستراليا وأمريكا الجنوبية. وفي ردّه على هؤلاء, افترض <داروين> تواصل اليابسة في منطقة القطب الجنوبي مع اليابسة على هذه القارات. وكانت حملة <سكوت> الأولى قد عثرت على عروق الفحم بين صخور القطب الجنوبي, مما أشار إلى ازدهار الحياة النباتية هناك. ومن ثم فإن <شاكلتون> كان قد عثر على مستحاثات نباتية, لكن أحدا لم يتمكن من العثور على مستحاثات الگلوسوپتيريس. وكان <سكوت> يأمل بأن تُحسم هذه المسألة في حملته الأخيرة.
[محدد الموقع] أكثر من مجرد سباق(***) يختلف المسار الذي اتخذه <F .R. سكوت> (الخط الأحمر) عن ذاك الذي اتبعه <R. آموندسن> الذي وصل أولا (الخط الأخضر). وقبل أن ينطلق <سكوت> من القاعدة الرئيسية التي اتخذها لحملته في رأس إيڤانز(4)، كرّس رجاله عدة أشهر للقيام بأبحاث في مضمار الجيولوجيا وفي مجالات أخرى من العلوم في جزيرة روس وحولها، في رأس كروزيَر(5) وڤيكتوريا لاند. كانت الأبحاث العلمية ذات أهمية فائقة بالنسبة إلى <سكوت>، حتى إنه ورفاقه – <E. إيڤانز> و<L. أوتس> و <R .H. باورز> و<A .E. ويلسون> – جمعوا نحو 18 كيلوغراما من المستحاثات والصخور أثناء رحلة العودة من القطب الجنوبيّ.
|
وقد اقتضت خطة <سكوت> القطبية تكوين عددٍ من فرق العمل تنشق عن الفريق الرئيس على مراحل، إلى أن يُكمل فريق صغير من المستكشفين التوجه نحو القطب سيرا على الأقدام. واعتقد <سكوت> أن هذا الأسلوب يوفر هامشا أفضل لأمان المستكشفين، ثم إنه قد يتيح فرصة للقيام بالأبحاث، ورسم <سكوت> خرائط للمناطق التي يعبرها الفريق. وكان قد قرر أن يبعث بالعديد من فرق الاستكشاف طوال مدة مكوثه في قارة القطب الجنوبي، بحيث تتركز مهام هذه الفرق تماما على جَمع الأدلة العلمية. ومع أنه كان بمقدور <سكوت> إعفاء مجموعات الباحثين من مهامها الشاقة، بحيث تتركّز جهود الفريق برمته على الرحلة القطبية، إلا أنه اختار ألا يفعل ذلك. وقد كلّف عددا من العلميين والمهندسين بالبقاء في المخيم الذي اتخذه قاعدة للحملة، لتسجيل البيانات المناخية والمغنطيسية، في حين كلّف البحارة والعلماء المختصين بعلوم البحار، الذين بقوا على متن باخرة الحملة، بإجراء تجارب لتعرف خصائص المحيط الجنوبيّ. ولم يبدّل <سكوت> أيا من هذه الأمور لدى اكتشافه حملة <آموندسن> المنافِسة.
كانت أولى المجموعات التي أعدّها <سكوت> قد غادرت المخيم الموجود في القاعدة في الشهر 1/1911، قبل تعرف موقع <آموندسن>. لقد أرسل <سكوت> عشرة رجال في مجموعتين منفصلتين لاستكشاف الجبال والجليديات على أرض قارة القطب الجنوبيّ. وحتى بعدما اكتشفت المجموعة الكبرى مخيم <آموندسن>، عادت إلى الحقل للقيام بمهمة علمية أخرى – دراسة الكتل الصخرية الناتئة والمجالد(6) والخلجان على طول الساحل الشمالي في منطقة تدعى ڤيكتوريا لاند(7). وأمضى هذا الفريق شتاء عام 1911 حسب الخطط السابقة في هذا الموقع، دون أن يسهم في الجهود الرامية إلى الوصول إلى القطب الجنوبيّ. وبعد أن أمضت هذه المجموعة شتاء ثانيا لم يكن في الحسبان، عادت إلى قاعدة <سكوت> في الشهر 11/1912، محملة بالعديد من المستحاثات، إضافة إلى طبعة شجرة من نوعية فائقة، ولكن دون أن تتضمن هذه المستحاثات الگلوسوپتيريس.
لقطات علمية الصورة 1: <سـكوت> في قاعدة الحملة يُدوِّن أعمال الحمــلة ومغامراتها في سجله الخاص.الصورة 2: <سكوت> و<باورز> و.C .G< سيمپسون> و<إيڤانز> ينطلقون لاستكشاف سلسلة الجبال في ڤيكتوريا لاند. الصورة 3: طائر البطريق الإمبراطوري emperor penguin يرتاح. الصورة 4: <باورز> و<ويلسون> و.A< تشيري-كارارد> يستعدون للانطلاق نحو رأس كروزيَر ليجمعوا بيوض البطريق الإمبراطوري. الصورة 5: البيولوجي .W .E< نيلسون> يتفحص المعدات المصممة لجمع عينات بحرية. الصورة 6: <سيمپسون> يــرصـــد معطيات مناخيــــة في محطـــة شيــدت في رأس إيڤانز. الصورة 7: الجيــولــوجــي .F< دبنهام> يشحذ عينات من الصخور. |
والمجموعة الأصغر من رفاق <سكوت>، التي كان في عِدادها الجيولوجييّن <G .T. تايلور> و<F. دبنهام>، استكشفت خلال الشهرين 2 و 3 في عام 1911 الوديان الجافة والقمم المعرّاة والجليديات الضخمة في المنطقة الشاطئية الوسطى من ڤيكتوريا لاند. وقضت هذه البعثة أشهر الشتاء، من الشهر 4 وحتى الشهر 10 من عام 1911، في القاعدة الرئيسية في تفحص ما جلبت البعثة من لَقَى findings تضمنت الكثير من المستحاثات (ولكن من دون أثر للگلوسوپتيريس حتى ذلك الحين). ومن ثم غادر <تايلور> و <دبنهام> القاعدة للقيام برحلة استكشافية أطول من سابقتها في تاريخ مبكر من الشهر 11 من العام ذاته، بُعيد انطلاق <سكوت> إلى القطب. وأخذا معهما أكثر متزلجي الحملة مهارة، <T. كران> والضابط الغرّ <R. فورد>، الذي اشتهر بقوته الفائقة في سحب المزلاجة، ليساعد على تخـطي المنــاطــق الوعــرة. ويشـكل تكليف <سكوت> ل<كران> و<فورد> بمصاحبة رحلة الاستكشاف العلمي دليلا إضافيا على مدى التزامه بالغايات العلمية للحملة. وهو التزام أتي أُكُلَه: فقد تمكن <تايلور> و <فورد> من استكشاف منطقة شاسعة من الجبال والجليديات التي لم تكن معروفة من قبل، حيث وجدا مجموعة رائعة من مستحاثات الحقبة الپاليوزوية (ولكن للأسف من دون أثر للگلوسوپتيريس).
متابعة طيور البطريق(****)
ولكن الانشغال الأبعد أثرا عن الجهود المكرّسة لبلوغ القطب الجنوبيّ، كان بسبب وعد قطعه <سكوت> لـ<A. ويلسون> لكي يوافق على الانضمام إلى الحملة. وكان <ويلسون>، وهو مختص في علم الحيوان zoology، قد أسهم بجدارة في حملة <سكوت> الأولى إلى القطب الجنوبيّ، وعثر حينذاك على مستعمرة لطيور البطريق الإمبراطوري في رأس كروزيَر على جزيرة روس. وقد اكتشف أن هذه الطيور، التي يُعتقد أنها تنتمي إلى فصيلة مغرقة في القدم، تضع وتحتضن بيوضها في فصل الشتاء. لذا وعد <سكوت> <ويلسون> بالعودة إلى مستعمرة طيور البطريق الإمبراطوري في منتصف الشتاء، ليرى إن كانت أجنة هذه الطيور تمتلك بقايا من أسنان الزواحف التي انشقت عنها. وكان <ويلسون> يأمل بأن يبرهن على أن الطيور نشأت عن الزواحف في العصور الغابرة.
خيبة أمل وموت أخذت هذه الصورة ل<سكوت> و<إيڤانز> و<أوتس> و<ويلسون>، من قبل <باورز> بعد عثورهم على عَلَمٍ تركه <آموندسن>. وقد دوّن <سكوت> آخر كلماته (في الأعلى) بتاريخ20/3/1912، وربما كان ذلك قبل وفاته بوقت قصير. |
وقد أخذت هذه الرحلة <ويلسون> ومساعده <A. تشيري-كارارد> و <H .R. «بيردي» باورز>، وهم من خيرة رجال <سكوت>، بعيدا عن القاعدة بسبب قضائهم مدة في عمليات التخطيط والاستعداد للرحلة نحو القطب، وعرّضت هذا الفريق للمخاطر غير المعلومة التي ينطوي عليها الترحال أثناء الشتاء القطبيّ. فانطلق <ويلسون> ومجموعته في 27/6/1911 ليقطعوا ما ينوف على 110 كيلومترات عبر رفّ روس الجليديّ. وجروا معهم قرابة 380 كيلوغراما من المعدات العلمية وألبسة الشتاء والمؤونة، حمّلوها على مزلجتين بلغ طول كل منهما ثلاثة أمتار، ربطتا الواحدة بالأخرى، ثم بالرجال الذين كان عليهم جرّهما.
ارتحلت مجموعة <ويلسون> عبر جزيرة روس باتجاه الجنوب، حيث كانت درجات الحرارة تنخفض مرارا وتكرارا إلى ما دون 56 درجة مئوية تحت الصفر. وأجبرت التضاريس السطحية، التي أضحت أكثر وعورة بسبب البرد الشديد، أعضاء الفريق على استعمال المزالج بالتناوب، بحيث كان عليهم السير مسافة ثلاثة كيلومترات، مقابل كل كيلومتر كانوا يركبون خلاله على المزالج. وبعد ثلاثة أسابيع من العمل الشاق، وصل الفريق إلى ركام يطلّ على رأس كروزيَر. وهناك بنوا لأنفسهم كوخا حجريا ليقوموا بتفحص أجنة البطريق ضمنه، قبل أن تتحول البيوض إلى كتل صلبة من الجليد. استخدم الفريق في تشييد الكوخ إحدى المزلجتين دعامة للسقف. كما بنوا للكوخ سقفا من القماش السميك نشروه فوق الجدران الأربعة. وسدّوا شقوق الجدران بواسطة الثلج كما ركّبوا مدفأة تستخدم شحوم الحيوانات القطبية وقودا. ومن ثم استغلوا نور الشفق القطبي الباهت، الذي يضيء الجليد لبضع ساعات في منتصف النهار، لتجاوز متاهات من الكتل والشقوق الجليدية نحو المنطقة التي يعشش فيها طائر البطريق الإمبراطوري. فوصلوا إليها حين كان الضوء ينحسر. وقد قال <تشيري-كارارد> متحسرا: «لقد كان في متناولنا أدلة ذات أهمية قصوى للتقدم العلميّ، وكنا على وشك تحويل نظريات علمية إلى حقائق، بفضل كل مشاهدة كنا نجريها – ولم يكن بوسعنا إضاعة لحظة واحدة.» وهكذا انتشلوا ستا من بيوض البطريق، وركضوا نحو الكوخ الذي شيدوه على أمل العودة لانتشال المزيد من البيض فيما بعد.
ولكن عاصفة هوجاء داهمتهم خلال الليل، فكان السقف القماشي، الذي وضعوه فوق كوخهم، يرتفع ثم يقع تحت وطأة الزوابع، إلى أن تمزق تماما ظهرَ اليوم الثالث الذي تلا بداية العاصفة، بفعل الصقيع والرياح العاتية ، تاركا رجال الحملة ليختبِئ كلٌّ منهم في كيس نومه تحت الثلوج المندفعة. وبعد يوم آخر من الطقس العاصف قرر <ويلسون> التخلي عن مسعاه، فكتب في سجل الرحلة: «كان علينا الاعتراف بالهزيمة أمام الطقس والظلام الدامس في رأس كروزيَر.» أما البيوض القليلة التي قام الرجال بجمعها، فقد ضاع بعضها وتجمّد الآخر، وهذا جعلها عديمة الفائدة في أبحاثهم.
كان الرجال منهكين جدا في رحلة العودة إلى المخيم، إذ انخفضت درجات الحرارة دون 56 درجة مئوية تحت الصفر، وأضحت أكياس النوم عديمة الفائدة لوقايتهم من البرد. ولم ينم أحد منهم إلا قليلا في الليل؛ وبلغ التعب ب<تشيري-كارارد> و<باورز> حداً جعلهما ينامان وهما يجران المزالج. حتى إن <باورز> سقط في شرخ ثلجي عميق وبقي معلقا بالحبال التي كان يجرّ بها المزلجة إلى أن أنقذه رفاقه. واصطكت أسنان <تشيري-كارارد> من البرد حتى تحطمت. وعندما وصلوا المخيم في الشهر 8/1911، كان وزن كل من الأكياس التي حملوها قد ازداد بنحو 14 كيلوغراما بسبب الجليد الناجم عن تجمد الثلج المنصهر والتعرق. وقد قال <سكوت>: «لقد بدت عليهم المعاناة بسبب الطقس أكثر من أي إنسان رأيته، إذ علت الندوب والتجاعيد وجوههم، وفقدت أعينهم بريقها، وابيضّت أيديهم وتقرحت، بسبب التعرض الدائم للرطوبة والبرد القارس.»
إلا أن <باورز> استعاد نشاطه بسرعة وانطلق ثانية إلى الميدان. ففي الشهر9/1911، غادر المخيم للمرة الأخيرة قبل الانطلاق نحـو القطب الجنـوبيّ، واصطحبه <سكوت> مع <E. إيڤانز> في رحلة قطعوا خلالها 280 كيلومترا لتفحص أوتاد كان فريق آخر قد نصبها في بعض المجالد، وقياس مدى تحركها. وكان اجتياز الجبال التي اعترضت طريق الفريق مضنيا، لأنهم كانوا يجرّون مزلجة ثقيلة في درجات حرارة بلغت 40 درجة مئــويـــة تحــت الصفـــر، وكــان عليهـم أن يقطعــوا مسافــة 56 كيلومترا خلال مدة لا تزيد على 24 ساعة. وحينذاك كتب <دبنهام> في سجل الرحلة: «ليس من الواضح تماما لماذا يزمعون الذهاب.» وعلى الأرجح فقد كان الدافع علميّا. وكان <سكوت> قد كتب في مذكراته قبل تلك الرحلة: «في الواقع إن الأحوال مُرضية من كافة الأوجه. وإذا نجحنا بالوصول إلى القطب، حتى وإن لم نكن أول من يصل إليه، فلن يحول شيء، دون اعتبار هذه الحملة واحدة من أكثر الحملات التي دخلت المناطق القطبية أهمية.» وقد أثبتت الاكتشافات العلمية التي حققتها الحملة ما تنبأ به.
بداية الرحلة القطبية(*****)
إن حالَ الطقس الرديء والتأخير الذي سببته الجهود الجانبية التي قامت بها الحملة، حالا دون انطلاق رحلة <سكوت> القطبية في أوانها. وعندما انطلق <سكوت> في آخر المطاف في 1/11/1911، كان <آموندسِن> قد سبقه باثني عشر يوما.
لقد كتب <سكوت> قبيل مغادرته المخيم: «لا أدري كيف يمكنني تقدير فرص <آموندسِن> في الوصول إلى القطب، فقد قرّرت في وقت مبكر أن أتصرف كما لو لم يكن موجودا. فأي محاولة لمسابقته كانت ستدمر خطتي.» وهكذا فإن رحلة <سكوت> إلى القطب كانت مصممة وفقا لاعتبارات السلامة لا السرعة. لذا تضمنت المجموعة التي غادرت مخيم القاعدة عددا من فرق الدعم، كان أحدها مزودا بقاطرات تجرّ المزالج فوق الرّف الجليدي في أول الرحلة، في حين زودت فرق أخرى بالكلاب والمهور لتتمكن من الوصول إلى الجبال عند مجلدة بيردمور(8)، وربما تسلقِها، وذلك كي تقوم هذه الفرق بتخزين المؤونة في مواقع محددة، ليستخدمها الفريق القطبيّ في طريق العودة. وكان على كل من هذه الفرق أن تقفل عائدة إلى المخيم في القاعدة بعد أن تخزن حمولتها. وفي نهاية المطاف تبقى فرقة صغيرة لتجتاز المرحلة الأخيرة إلى القطب. وكان على هذه الفرقة أن تسحب مزلجة واحدة عبر الهضبة القطبية التي يفوق ارتفاعها ثلاثة آلاف متر. وكانت مسيرة المجموعة مرهقة، إذ إن سرعتها كانت محكومة بالسرعة التي تسير بها أبطأ مكوناتها، وهي المهور التي كان عليها السير في ثلوج طرية وكانت تغوص فيها حتى أفخاذها. وكانت تحتاج إلى العلف والحماية من الريح عندما تتوقف المجموعة للاستراحة.
وفي 3/1/1912، استدار فريق الدعم الأخير متجها نحو مخيم القاعدة عبر الهضبة القطبية. وواجه الفريق القطبيّ – المكون من <سكوت>، <ويلسون>، <باورز>، <إيڤانز> ونقيب في الجيش البريطانيّ اسمه <L. «تيتوس» أوتس> – منطقة جليدية امتدادها 240 كيلومترا، لم تُتِح فرصة للبحث العلمي، سوى القيام بقراءات ميتريولوجية منتظمة ومراقبة السطوح الجليدية المعرضة دوما للرياح التي تهب عليها.
أما <آموندسِن> ورجاله، فقد كانوا يتحركون بسرعة. كانت كلابه تسحب المزالج بطريقة جيدة، فوصل فريقه القطب الجنوبيّ في 14/12/1911 بعد شهرين من التزلج. ومرت رحلة العودة بسرعة أكبر، إذ كان سطح الجليد قد أضحى أكثر تماسكا، ثم إن الطريق كان في معظمه منحدرا. وقد كتب <آموندسن> يقول: «لقد كانت الريح تدفعنا دوما من الخلف، وكانت الشمس مشرقة، وعمّ الدفء طوال الوقت.» وتمكن فريق <آموندسِن> من زيادة حصص الطعام للرجال والكلاب باستمرار، إذ كان يتزود من المستودعات التي كان قد تركها على مسافات منتظمة. وهكذا عاد الفريق إلى مخيم القاعدة بعد خمسة أسابيع فقط. وخلال تلك الرحلة، ازداد وزن <آموندسِن>.
وصل <سكوت> إلى القطب في 17/1/1912 ليجد العَلَم النرويجي منصوبا. فكتب: «يا إلهي، يا له من مكان مروِّع.»
مسيرة العودة(******)
ولكن الأسوأ كان في طريقه إليهم. فقد تحول الطقس إلى برد قارس، واتخذ الثلج ملمسا رمليا. ويوما بعد آخر، كان رجال الحملة يملؤون دفاتر تدوين يومياتهم بالشكوى ذاتها: فقد كان عليهم أن يجروا المزلجة طوال الوقت دون أن تنزلق على سطح الجليد؛ ودون أن تنغرس بعمق في سطح الجليد الحبيبي، وكان ذلك يجعل عوارضها تشق أثلاما في الثلوج الخشنة. وعلى الرغم من أن مخزون الطعام صمد حتى ذلك الحين، إلا أنه لم يوفّر الكالوريات (السعرات الحرارية) اللازمة للسير في مثل هذه الظروف الصعبة.
وقد أضحى الرجال منهكين إلى أبعد الحدود. وجرح <إيڤانز> يده في حادثة، فأصيبت بالتهاب. وعانى <أوتس> قضمة للصقيع frostbite في أطرافه. وعلى الرغم من أن أحدا لم يشخص حالتهم، إلا أنهم أبدوا جميعا أعراض داء الإسقربوط scurvy. ومع كل ذلك، فقد كانوا يخصصون وقتا للقيام بالدراسات الجيولوجية. فعند نزولهم من مجلدة بيردمور توجهوا نحو ركام يقع بالقرب من جبل بكلي Mount Buckley. وكتب <سكوت> بعد تناول طعام الغداء في8/2/1912: «لقد بدا الركام مثيرا للاهتمام لدرجة أنني قررت أن نخيّم للقيام بدراسات جيولوجية. لقد وجدنا أنفسنا بالقرب من جرف عموديّ من حجر بيكون Beacon الرملي، الذي كان يتعرض للحت السريع بفعل عوامل الطبيعة، وفيه عروق واضحة للعيان من الفحم الحجري. وضمن هذه العروق تمكّن <ويلسون>، بحدة بصره، من تعرُّف عدد من الطبعات النباتية، كان آخرها قطعة من الفحم الحجري رسمت عليها طبقات من أوراق نباتات متفحمة بطريقة جميلة.»
بدت النباتات المتفحمة شبيهة بالگلوسّوپتيريس. وبمساعدة <باورز> تمكن <ويلسون> من أخذ نحو 17 كيلوغراما من المستحاثات وعينات الصخور.
وبعد المسيرة المتعثرة التي استغرقت أسبوعا في الهبوط من على المجلدة، فقد <إيڤانز> بالتدريج قدرته على تحديد اتجاهه، ثم فقد الوعي وتوفي في17/2/1912. وتفاقمت إصابة <أوتس> بقضمة الصقيع إلى حد منعه من مجاراة زملائه، ولكنه أبى أن يعيق مسيرتهم. وعوضا عن ذلك، ترك الخيمة التي كانوا قد نصبوها ليستريحوا قائلا: «إني ذاهب إلى الخارج، وقد أغيب بعض الوقت،» ولكنه لم يعد قط.
خطا الآخرون خطواتهم الأخيرة في 19/3/1912. وكانوا قد تركوا كل ما كانوا يحملون، عدا ما قلّ من حاجات أساسية. وقد أشار <ويلسون> إلى أنهم أبقوا بحوزتهم مذكراتهم، وسجلات ملاحظاتهم الحقلية، والعينات الجيولوجية، وحملوا جميع هذه الأشياء إلى مخيمهم الأخير الذي أقاموه على مسافة لا تزيد على 17 كيلومترا من مستودع حوى من الزاد والمؤن ما كان سيسمح لهم بمواصلة المسيرة حتى مخيم القاعدة. وفي هذا المخيم، هبت عليهم عاصفة ثلجية هوجاء، حاصرتهم ثمانية أيام، نفد خلالها الطعام والوقود فماتوا معا. كان <ويلسون> و<باورز> في وضع النائم و<سكوت> بينهما، كيس نومه نصف مفتوح، وأحد ذراعيه ممدود عبر جسد <ويلسون>.
وهكذا وجدتهم مجموعة أرسلت للبحث عنهم في الربيع التالي؛ وجدتهم مع سجلاتهم وعيناتهم. وتبين أن <ويلسون> كان مصيبا بشأن المستحاثات: فقد كانت بالفعل تعود لنبات الگلوسوپتيريس، الذي بحثوا طويلا عن آثاره في حملتهم. وقد كتب <دبنهام> فيما بعد ما يلي: «إن المستحاثات، التي عادت بها المجموعة القطبية، هي من النوعية الأكثر قدرة على حسم الجدال، الذي دار زمنا طويلا بين الجيولوجيين حول طبيعة اتحاد قارة القطب الجنوبيّAntarctica بأسترالاسيا Australasia. كان هذا ليُسعد <ويلسون>. فقد كان باحثا غير مهاود بحماسة دينية شديدة. لقد كان <داروين> على حقّ وقد أسهم <ويلسون> في البرهان على ذلك.
المؤلف
Edward J. Larson | |
أستاذ التاريخ والحقوق في جامعة پپرداين Pepperdine University، ومؤلف تسعة كتب في تاريخ العلوم، منها كتاب حاز جائزة پوليتزر عنوانه «صيف الآلهة»(9)، ويتحدث فيه عن محاكمة <سكوپس>، الأستاذ الذي دافع عن تعليم نظريات التطور في عشرينات القرن الماضي. وآخر كتبه «إمبراطورية الجليد: سكوت وشاكلتون والعصر الذهبي لعلوم قارة القطب الجنوبيّ(10)،» الذي صدر مؤخرا عن مطبعة جامعة يال Yale University Press. |
مراجع للاستزادة
The Last Place on Earth: Scott and ,Amundsen’s Race to the South Pole.
Roland Huntfcnd Modem Library, 1999.
The Coldest March. Susan Solomon. Yale University Press, 2001.
The Worst Joumey in the World. Apsley Cherry-Garrard. Penguin, 2006.www.gutenberg.org/ebooks/14363
Scott of the Antarctic. David Crane Vintage, 2007.
Robert Falcon Scott Joumals: Captain Scott’s Last Expedition. Reissued edition.
Edited by Max Jones. Oxford University PreSS, 2008.
Scott Polar Research Institute: www.spri.cam.ac.uk
(*)GREATER GLORY
(**)Scientific Diversions
(***)More Than a Race
(****)PURSUING PENGUINS
(*****)The Polar Journey Begins
(******)THE MARCH BACK
(1) Ross Ice Shelf
(2) Castle Berg
(3) Ross Island
(4) Cape Evans
(5) Cape Crozier
(6) glaciers
(7) Victoria Land’s
(8) Beardmore Glacier
(9) Summer for the Gods
(10) An Empire of Ice: Scott, Shackleton and the Heroic Age of Antarctic Science