أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فيزياء نظريةميكانيكا الكم

حركة تنوير جديدة


حركة تنوير جديدة(*)
بدت النظرية الكمومية يوما أنها آخر مسمار يُدقُّ في نعش
الاستدلال العقلي المحض(1)؛ أما اليوم فتبدو وكأنها المخلِّص له.


<.G موسَّر>

 

 

باختصار

    كشفت الفيزياء الكمومية أن الميكانيك الكمومي يوسِّع مقدرتنا على الاستدلال العقلي بطرائق غير متوقَّعة. فمعضلة السجين الشهير، الذي يُعتبر فيه الخيار العقلاني خيارا خاطئا، يمكن أن يُحل بواسطة التشابك الكمومي. وثمة ادعاء حديث (لم يُثبَت بعد) ينطوي على أن نظام الانتخاب الكمومي يدرأ التناقضات الموجودة في نظام الانتخاب العادي.

    وقد يكون الميكانيك الكمومي نموذجا للسلوك البشري أفضل من المنطق التقليدي الذي يُخفق في التنبُّؤ بالحافز البشري على التعاون وحب العمل مع الآخرين. لذا، وبدلا من محاولة حشر تفكيرنا في إطار عقلاني محض، فمن الأفضل لنا أن نوسِّع إطار تفكيرنا.

 

 

 

يبدو موسم الانتخابات الأمريكية وقتا سيئا لإنشاد ترانيم تمجيـــد العقلانية(2) البشريــــة. فالمرشــــحون يقطعـــون وعـــودا لا يفون بها أبدا،  ومع ذلك يقبل بها الناخبون. وتغيب الحجج الرصينة، وتسود مقتطفات من الأقوال. إلا أن ما يخيِّب الآمال من مثاليات حركة التنوير هو الإيمان بالعقلانية التي ألهمت إقامة الجمهورية. والأمر أسوأ أيضا مما يمكن أن تظنه. فبعض الأشياء التي تظن أن من الممكن حلها عقلانيا إذا بذلت ما بوسعك لحلها، ستجدها ليست كذلك. فحتى ولو نجحت فعلا بالعيش حياة عقلانية، من خلال عدم التصويت لأي مرشح من دون التمحيص في سجله بعناية، وعدم شراء أي جهاز من دون العودة إلى تقرير المستهلكين(3)، وعدم التسليم بما يمكن أن يكون غير صحيح، وعدم تحوير كلام الغير، وعدم الوقوع في أيٍّ من الأشراك الأخرى التي ابتُلي بها البشر، لوجدت أنك ما زلت تفعل أشياء لا مغزى لها، لا لأنك قد أخفقت، بل لأن الاستدلال العقلي نفسه هو منشار تنقصه بعض الأسنان.

لقد كان على العلماء والرياضياتيين في القرن العشرين أن يقبلوا بأن بعض الأشياء سوف تبقى دائما بعيدة عن سيطرة الاستدلال العقلي. وفي ثلاثينات القرن نفسه، بَيَّن <.K گودل> على نحو رائع أنه في مقابل كل لغز يحلُّه التفكير العميق، تظهر عدة ألغاز جديدة، حتى في عالم الرياضيات العقلاني. وقد وجد المنظِّرون الاقتصاديون والسياسيون محدوديات مشابهة في القواعد العقلانية في تنظيم المجتمع، وأطاح مؤرِّخو العلم بالاعتقاد القائل إن الخلافات العلمية تُحَلُّ استنادا إلى الحقائق فقط. واتَّضحت محدوديات الاستدلال العقلي الأخيرة من خلال الفيزياء الكمومية التي تقول إن بعض الأشياء تحدث فقط، من دون أن نتمكن من معرفة السبب.

إلا أن الأحداث عكست اتجاهها على نحو غريب في العقد الماضي. فالفيزياء الكمومية نفسها التي بدت أنها قد قيَّدت المعرفة البشرية، أسهمت أيضا في تحريرنا. فهي توسِّع معرفتنا، ليس عن العالم المادي فحسب، بل عن أنفسنا أيضا. فبإغنائها للأفكار العقلانية، تُخرجنا من النهايات المسدودة التي يقودنا إليها الاستدلال العقلي. وبالنظر إلى الفيزياء الكمومية من المنظور العريض الذي توفِّره، ربما لا يكون السلوك البشري لاعقلانيا بالقدر الذي تصوِّره لنا صحف المساء.


ثقل الاستدلال العقلي(**)

قلة هم الذين عاشوا حلم حركة التنوير وتنفَّسوا هواءه أكثر من <الماركيز دو كوندورسيه>(4)، أحد علماء الرياضيات في أواخر القرن الثامن عشر. فمتأثِّرا بنجاح فيزياء <نيوتن>، التي تتمثَّل ببعض القواعد البسيطة التي فسَّرت سقوط التفاحات ومدارات الكواكب، سعى <كوندورسيه> إلى إيجاد علم مجتمع شبيه بفيزياء <نيوتن>. واعتقد أن الاستدلال العقلي يمكن أن يحسِّن حالة العالم. وقاد <كوندورسيه> مع مفكرين آخرين من حركة التنوير حملة لبرنامج سياسي تقدمي: إلغاء العبودية وإعطاء المرأة حقوقا مساوية لحقوق الرجل، وتعليم عمومي شامل. وغدا <كوندورسيه> [وهو صديق لـ<.Th جيفرسون>(5) و<.B فرانكلين>(6) و<.Th باين>(7)] من أوائل قادة الثورة الفرنسية. وفي عام 1794 كتب: «سوف يأتي يوم تسطع فيه الشمس على كوكب الناس الأحرار فقط الذين لا يعرفون سوى العقل سيدا.. ويتعلمون كيف يكتشفون أولى إشارات الخرافة والاستبداد ويخنقون هذه الإشارات تحت ثقل الاستدلال العقلي إذا تجرَّأت على معاودة الظهور.»

ومن ثم أتى الانهيار، واتَّخذت الثورة منحاها المظلم. اعتُقل <كوندورسيه> ومات في السجن في اليوم التالي، ودُفِن في مقبرة عامة اختفت فيما بعد. وأخلت حركة التنوير الطريق للرومانسية(8)، ورأى كثير من المفكِّرين الرواد أن الإفراط في الثورة قد أفرغ برنامجها التقدمي برمته من محتواه.


http://oloommagazine.com/Images/Articles/2013/03-04/2_1.jpg

 

فكأن <كوندورسيه> كان قد فاقم المأساة بقيامه بالتشكيك بالفكرة التنويرية لإرادة الشعب. فقد بيَّن أن أنظمة الانتخاب الديموقراطية تؤدي إلى مفارقات: يمكن لاختيارات الناس أن تتراكم معا بطرق متناقضة فيما بينها وغير قابلة للحل. وقد أعطى الرياضياتي والكاتب السياسي <.P أوديفْرِدِّي> [من جامعة تورين بإيطاليا] مثالا على ذلك: في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1976، ضَمِن <.G فورد>(9) ترشيح الجمهوريــــين لــــه للرئــــاســة بعــــد منـــافــســـة شــــديــدة مـــع <.Rx ريگان>(10)، لكن <.J كارتر>(11) هزمه في الانتخابات العامة. إلا أن عدد الأصوات قد بيَّن أن  <ريگان> كان سيهزم <كارتر> لو رشَّحه الحزب الجمهوري حينئذ (وهذا ما حصل فعلا في الانتخابات التي جرت في عام 1980). إن تفضيلات الناخبين غير متعدِّية(12): تفضيل <كارتر> على <فورد>، وتفضيل <فورد> على <ريگان>، لم يَعْنِيا أن <كارتر> كان مفضَّلا على <ريگان>. ولم يفُز <كارتر> حينئذ إلا لأن الانتخابات الأولية(01) قد حصلت قبل الانتخابات العامة. ويقول <أوديفْرِدِّي>: «تَحدَّد الفائز بالترتيب الذي حصلت به الانتخابات الأولية والعامة، لا بأصوات الناخبين.» وفي اللجان والهيئات التشريعية أيضا، يستطيع الموظفون من ذوي السلطة استغلال هذا الاعتماد على الترتيب، أو هذه  اللاتبادلية noncommutativity، لتوجيه التصويت بالطريقة التي يريدونها.

وفي عام 1950، بيَّن <.K آرُّو> [طالب الدراسات العليا في جامعة كولومبيا] أنه لا توجد سوى طريقة أكيدة واحدة فقط لتجنُّب تلك المفارقة، ألا وهي الديكتاتورية(13). فترتيب الانتخابات يصبح بلا قيمة عندما يمتلك ناخب واحد سلطة القرار. وقد ساعد هذا الاكتشاف المعقول <آرُّو> على الفوز بجائزة نوبل للاقتصاد في عام 1972. ويقول <أوديفْرِدِّي>: «إنها نظرية مماثلة لنظرية <گودل>، فهي تثبت أن ثمة محدوديات للفكرة العامة التي نمتلكها عن الديموقراطية.» وقد يكون <گودل> نفسه قد صاغ نسخة من نظرية <آرُّو> في وقت سابق، فقد أورد أفكارا مشابهة في حجة قدمها لإثبات وجود اللـه.

إذا كانت الديموقراطيات تتجنب عادة مفارقات <كوندورسيه>، فإن ذلك يعود إلى أن الناخبين يعتمدون على طيف عقائدي يعطي آراءهم بعض الترابط والتماسك المتبادل(14). والغريب هو أنه مع أن الحضارة الغربية تحترم التفكير المستقل غير العقائدي، فإن تفكيرا من هذا القبيل يمكن أن يؤدي عمليا بنظم الانتخاب إلى الشلل. ويقول <أوديفْرِدِّي> إن ذلك الطيف يُصبح متشابكا في الأوقات المضطربة سياسيا، وتصبح الديموقراطية مشلولة كليا، لا جزئيا فقط.

توفِّر الفيزياء الكمومية نموذجا للسلوك البشري تتسم فيه اللاعقلانية بمغزى كامل.

 

وفي السنة نفسها التي برهن فيها <آرُّو> نظريته، اكتشفت الرياضياتيتان <.M فلَدْ> و .M< درِشَر> تعارضا آخر بين القرارات الفردية والجماعية: مُعضلة السجين(15). تُلقي الشرطة القبض على لصّين وتقدِّم لكل منهما مكافأة كي يشي أحدهما بالآخر. فإذا صمت الاثنان، نَجَوا معا. وإذ وشى كل منهما بالآخر، أُدينا بجميع جرائمهما؛ وبتحفيز كل منهما على الوشاية بالآخر، فإن كلا منهما سوف يفعل ذلك، إلا أنهما سوف يخسران بعدئذ. ويمثل هذا المأزق نموذجا لمحدوديات الاقتصاد الحر(16). وهو يخرق حكمة الاقتصاد التقليدي الحديث(17) التي تنطوي على أن الأفراد الذين يتصرفون وفقا لمصالحهم العقلانية الذاتية يُعطون جماعيا أفضل النتائج.

وثمة أمر محبط مشابه هو لغز حرية الاختيار(18) الذي صاغه في عام 1970 <.AA سِنْ> [عالم الاقتصاد بجامعة هارڤرد]. فبالقدر نفسه من الشك الذي ألقاه <آرُّو> على الديموقراطية، والذي ألقاه <فلد> على اقتصاد السوق، فتح <سِنْ> ثقبا في مقولة حقوق الأفراد: إن أكثر الحقوق جوهرية هو أن الفرد يجب أن يمتلك سلطة نقض القرارات التي تؤثِّر فيه فقط. وكان مثال <سِنْ> الأصلي بهذا الشأن عن الرقابة على المطبوعات: إن القرار بخصوص قراءة كتاب أو عدم قراءته يجب أن يعود إلى ذلك الشخص فقط، ولذا يجب أن يكون تحت سيطرته. ولكن حكم الأغلبية كان دائما متعارضا مع حقوق الأفراد، فالأغلبية تستطيع فرض إرادتها على الأقلية. والأغرب من ذلك هو أنه حتى الأحكام المتَّفق عليها بالإجماع تنتهك حقوق الأفراد – وبكلمات أخرى، يمكن أن يكون حق الفرد مهدَّدا بقرارات يدعمها ضمنيا ذلك الفرد نفسه.

وفي صيغة ليست افتراضية كمثال <سِنْ>، خُذْ ناخبَيْن (أزرق وأحمر) يقومان بالحكم على برنامج دعمٍ اجتماعي حكومي. يفضل الأزرق أن يحصل كلاهما على الدعم. وإذا كان ذلك غير ممكن، فإنه يفضل أن يحصل الأحمر عليه لأنه هو الأحوَج بينهما. ويفضل الأحمر ألا يحصل أيٌّ منهما على الدعم، وإذا كان ذلك غير ممكن، وجب أن يحصل هو عليه، بغية حماية الأزرق من مفاعيل الفساد للمساعدة الحكومية. ونظرا لوصولهما في حكمَيْهما إلى طريق مسدود، فإن عليهما القبول بخياريهما الأخيرين. وهكذا يُعطى الدعم للأحمر ويُمنع عن الأزرق، وبذلك لا يسيطر أيٌّ منهما على القرارات التي تخصه بالذات. وهذه الألغاز جميعها توحي أن بعض النزاعات في مجتمعنا تستمر، لا لأن الناس غير منسجمين أو غير عقلانيين، بل لأن آليات اتخاذ القرارات العقلانية، التي يُقصد بها التوفيق بين وجهات النظر المختلفة، يمكن أن تعمِّق التعارض بدلا من أن تدعم التوافق.


لغز مفقود(***)

في خمسينات وستينات القرن العشرين استقصى الرياضياتيون طرقا مختلفة للخروج من معضلة السجين. وإحداها هي اتباع الاستراتيجيات المشروطة. فبدلا من أن يختار المتهمان الصمت أو الوشاية، يمكن أن يقول كل منهما للمحقِّق على سبيل المثال: «إذا بقي زميلي صامتا، بقيت أنا صامتا أيضا». وباستعمال مجموعة مناسبة من العبارات الشرطية التي من الشكل إذا – فإن، يمكن للمتهمَيْن تجنُّب السجن. ومن حيث الجوهر، لن يربح أيٌّ منهما بتغيير هذه الخطة، ولذا فإن الحسابات العقلانية للمصلحة الذاتية يجب أن تدفع بهما إلى التعاون(19). فما هو أفضل للفرد هو أفضل للجماعة. ومع ذلك، فإن ثمة عيبا جوهريا في هذه الطريقة: على الشريكين الاتفاق على الالتزام بالاستراتيجيات المشروطة وألاّ يغيِّرا رأييهما في اللحظة الأخيرة ويشي أحدهما بالآخر. إنهما بحاجة إلى طريقة لا خداع فيها ليُبقي كل منهما الآخر معه على الخط.

وتوفر الفيزياء الكمومية مثل هذه الطريقة. ففي عام 1998، اقترح الفيزيائيان <.J آيزرت> و <.M ويلكنز> [وكانا حينذاك في جامعة بوستدام بألمانيا] و<.M لڤنشتاين> [الذي كان في جامعة هانوڤر بألمانيا] أنه يمكن لجُسَيْمين متشابكين entangled أن يؤديا دور عَقْد مُلزِم. ويمكن للشريكين تنسيق قراراتهما باستعمال هذين الجُسَيْمين من دون أن يعرفا سلفا ماهية تلك القرارات التي تُعتبر معلومات يمكن أن تُستعمل لانتهاك بنود العقد. وفي عام 2001، قام< .J دو> [من جامعة الصين للعلوم والتقانة في هيفاي] وزملاؤه باستعراض الطريقة في المختبر، وشابكوا نواتي هدروجين ووجهوا عليهما نبضات راديوية لتنفيذ مراحل الخطة.

واقترح الفيزيائي الرياضياتي الإيطالي< .G سيگري> أن طريقة مشابهة يمكن أن تدرأ وصول التصويت إلى طريق مسدود من دون اللجوء إلى تنصيب ديكتاتور. وهو يقول إنه اهتم بالموضوع في صيف عام 2008 لدى قراءته المقابلة التي أجرتها الصحيفة La Stampa مع مواطنه <أوديفْرِدِّي>. فمستشهدا بنظرية <آرُّو>، كان <أوديفْرِدِّي> قد أكَّد أن الديموقراطية النيابية آيلة إلى الزوال. ويقول <سيگري>: «لم أوافق على هذه المقولة وبدأت بالتفكير بطريقة لإثبات خطأ نظرية <آرُّو>».

يجادل <سيگري> بأن الفيزياء الكمومية تُغني إمكانات التصويت في الانتخابات. فعلى غرار قطة شرودنگر(20) يمكن أن يكون للمواطن عقلان في آن واحد، أحدهما يصوِّت بنعم، والآخر يصوِّت بلا، في نوع مما يُسمى بالتراكب الفائق superposition. وعند مراكمة الأصوات الانتخابية، يمكن لها أن تنجمع متضافرة، أو يمكن لبعضها إلغاء الأخرى. ويمكن أن تصبح متشابكة معا، مكوِّنة نوعا من الحلف بين المواطنين للتصويت بطريقة منسَّقة على غرار العقد الملزم في معضلة السجين الكمومي. وفي هذه الحالة، وخلافا للطريقة القديمة التي قال بها <آرُّو>، يمكن لإرادات الناس أن تكون تامة الانسجام.

إلا أن برهان <سيگري> تجريدي جدا. وثمة عدد من الخبراء بنظرية التصويت الانتخابي، الذين أُخذ رأيهم بهذه المقالة، يشكِّكون في صحته وبإمكان إدراجه في دستور يُكتب في القرن الحادي والعشرين. إلا أن الفيزيائي <.A إكِرت>، [من جامعة أوكسفورد ومركز التقانات الكمومية في سينغافورة] يقول إن <سيگري> قد يكون محقا. فنظرا لكون الفيزياء الكمومية احتمالية، فقد يمكن لنظام تصويت كمومي أن يدرأ التعارضات، لا بوجود ديكتاتور مطلق، بل بمجرد وجود حاكم يتَّخذ قرارات سلطوية ناجحة وسطيا، وتُمكِن معارضته من وقت إلى آخر. ويقول <إكِرت>: «سوف يكون لدينا ديكتاتور، لكنه سوف يكون ضعيفا جدا.»


نقد الاستدلال العقلي المحض (التقليدي)(****)

لا تمحو الفيزياء الكمومية الألغاز الأصلية أو توفِّر نظاما عمليا لاتِّخاذ القرار، إلا إذا قَبِلَ المسؤولون الحكوميون بأن يحمل الناس معهم جُسَيْمات متشابكة إلى حجرة التصويت أو إلى غرفة الاستجواب في قسم الشرطة. فالمغزى الحقيقي لهذه الاكتشافات هو أن الفيزياء الكمومية توفِّر نموذجا للسلوك البشري تتسم فيه اللاعقلانية الظاهرية(21) بمغزى كامل.

في الحياة العملية، يتعاون الناس أكثر بكثير مما لو كانوا مدفوعين بمجرد التقدير العقلاني لمصالحهم الذاتية. فحينما يسأل علماء النفس متطوِّعي الاختبارات أن يقوموا بتمثيل معضلة السجين، يبقى الممثلون أحيانا صامتين على الرغم من الحافز القوي على القيام بالوشاية. إذا اعتقدَت <أسماء> بأن <باسم> سوف يشي بها، فإنها سوف تشي به حتما. وإذا اعتقدَت بأن <باسم> سوف يبقى صامتا، فمن المحتمل أن تشي به، لكنها «قد» تبقى صامتة أيضا. إن الكلمة «قد» تنطوي عادة على 20 في المئة من الحالات فقط، إلا أنها تشع  ومضة من الأمل في لعبة تافهة.

إلا أن الشيء الغريب حقا هو أنه إذا لم تكن <أسماء> متيقِّنة مما سوف يفعله <باسم>، فإنها على الأرجح سوف تبقى صامتة. ولا يفعل ذلك أي شخص يستند إلى العقلانية المحضة. فوفقا للمنطق التقليدي، إذا ظنَّت <أسماء> أن ثمة احتمالا يساوي 50 في المئة لبقاء <باسم> صامتا، فإن عليها أن تأخذ متوسط نزعتَيْها إلى الصمت وأن تبقى صامتة في 10 في المئة من الحالات. ومع ذلك، فإن المتطوِّعين في الاختبارات النفسانية(23)الموجودين في هذه الظروف يبقون صامتين في 40 في المئة من الحالات.

أما في المنطق الكمومي quantum logic، فيمكن بالفعل للقيمة الوسطية للصفر و 20 أن تساوي 40. فنزعتا <أسماء> المتمثلتان بالوشاية ب<باسم> حتما إذا وشى بها، وربما الوشاية به إذا بقي صامتا، تمحو إحداهما الأخرى جزئيا إذا كان عليها التعامل في ذهنها ببراعة مع كلتا الإمكانيتين، ولذا تلتصق بخيارها الثاني وتلتزم الصمت. ويقول عالم النفس <.E پوثوس> [من جامعة مدينة لندن]: «إن هذين التعليلين، اللذين يُعتبر كل منهما جيدا بمفرده، يتداخلان معا ويقلِّصان احتمال تغيير الشخص لموقفه.»

كيف يجعل المنطق الكمومي اللاعقلانية البشرية ذات مغزى

تحرير السجين الكمومي(*****)

    تقول الحكمة الشائعة إن الناس لا يتصرَّفون عقلانيا. ولكن ما هي «العقلانية»؟ إنها تعني ببساطة التزام مبادئ المنطق التقليدي. إلا أن مجموعة موسَّعة من القواعد المنطقية، التي اقتُرحت في البداية للفيزياء الكمومية، وتُطبَّق الآن على علم النفس، يمكن أن تجعل اللاعقلانية الظاهرية ذات مغزى. ويتضح ذلك من معضلة السجين الشهير.

 

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2013/03-04/02_02.jpg

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2013/03-04/02_03.jpg

http://oloommagazine.com/Images/Articles/2013/03-04/02_04.jpg

 

وفي عام 2009، ابتكر <پوتوس> وعالم النفس <.J بوزماير> [من جامعة إنديانا ببلومنگتون] نموذجا كموميا يولِّد نتائج التجارب النفسانية نفسها. والسبب الكامن وراء نجاح ذلك النموذج هو أن معظم الناس لا يمتلكون تفضيلات ثابتة. فمشاعرنا متناقضة وظرفية إزاء ما يفكِّر فيه الناس المحيطون بنا. ويقول <بوزماير>: «إننا مخلوقات ظرفية جدا، ومن ثَمَّ ليس ثمة من موقف ينتظر رصده.» ويهيمن التراكب الكمومي الفائق(24) على هذه المشاعر المتناقضة، إلا أن هذا لا يعني أن أدمغتنا هي حواسيب كمومية بالمعنى الحرْفي، وفقا لما قاله بعض الفيزيائيين، بل إن الفيزياء الكمومية هي استعارة مفيدة للتعبير عن التدفُّق الحر للفكر البشري.

وبمعنى ما، يُعيد حقل الاستعراف الكمومي(25) البازغ الفيزياءَ الكمومية إلى جذورها. ففي وقت مبكر من القرن العشرين، اعتمد <.N بور>(26) وغيره من واضعي النظرية الكمومية على أفكار من علم النفس، ومنها أعمال <..M جيمس>(27). وبلغت النظرية الكمومية مرحلة النضج في الوقت الذي لم تلقَ فيه العقلانية – التي تأرجحت بين الدخول في الحياة الفكرية والخروج منها منذ حركة التنوير – سوى قبول متواضع. ولم تكن الحرب العالمية الأولى ملائمة للتفاؤل بمقدرة الإنسان على الإصلاح الذاتي، وراقت <لبور> وزملائه النظريةُ التي وضعت قيودا على المعرفة <لبور>. إلا أن تاريخ الفكر يعيد نفسه. فبتجديد التفاؤل بالمعرفة والسلوك البشريين، قد تساعد الفيزياء الكمومية اليوم على نشوء حركة تنوير جديدة وإعادة إنعاش سياساتنا الجوفاء.

المؤلف

<.G موسَّر>، محرِّر مساهم في مجلة ساينتفيك أمريكان ومؤلف كتاب «دليل الأغبياء الكامل إلى نظرية الأوتار»

 

  مراجع للاستزادة

 

Quantum Games and Quantum Strategies. Jens Eisert, Martin Wilkens and Maciej Lewenstein in Physical Review Letters, Vol. 83, No. 15, pages 3077–3080; October 11, 1999. http://arxiv.org/abs/quant-ph/9806088
A Quantum Probability Explanation for Violations of “Rational” Decision Theory. Emmanuel M. Pothos and Jerome R. Busemeyer in Proceedings of the Royal Society B, Vol. 276, No. 1665, pages 2171–2178; June 22, 2009.
Does Quantum Interference Exist in Twitter? Xin Shuai, Ying Ding, Jerome Busemeyer, Yuyin Sun, Shanshan Chen and Jie Tang. http://arxiv.org/abs/1107.0681
Quantum Democracy Is Possible. Gavriel Segre. http://arxiv.org/abs/0806.3667v4
Quantum Structure in Cognition: Fundamentals and Applications. Diederik Aerts,
Liane Gabora, Sandro Sozzo and Tomas Veloz. http://arxiv.org/abs/1104.3344
Scientific American, November 2012

(*) A New Enlightenment: نُشِرت لمحة عن هذه المقالة تمثَّلت بفقرتيها الأولى والثانية في موقع مجلة ساينتفيك أمريكان في الإنترنت بتاريخ 2012/11/5 تحت عنوان: «البشر يفكرون كالجُسَيْمات الكمومية» Humans Think Like Quantum Particles: أما الكلمة Enlightenment، فهي تشير إلى حركة التنوير الفلسفية في القرن الثامن عشر.

(**) THE WEIGHT OF REASON

(***) PARADOX LOST
(****) CRITIQUE OF PURE (CLASSICAL) REASON

(*****) Freeing the Quantum Prisoners ، إشارة إلى كتاب <كانت> الذي يحمل العنوان نفسه.

(1) pure reason: قبل ظهور النظرية الكمومية بأكثر من قرن، كان الفيلسوف الألماني <.I كنت> قد هاجم الاستدلال العقلي المحض في كتابه الشهير Critique of Pure Reason أو «نقد الاستدلال العقلي المحض» الذي تُرجم إلى العربية. وكان ذلك في معرض الدعوة إلى الانعتاق من سلطة الكنيسة التي كانت تعتمد على ذلك النوع من الاستدلال العقلي.
(2) rationality
(3) Consumer Reports، مجلة شهرية أمريكية تصدرها رابطة المستهلكين وتتضمن مراجعات للمنتجات الاستهلاكية ومقارنات بينها من حيث الجودة والأسعار.(التحرير)

(4) Marquis de Condorcet: فيلسوف ورياضياتي فرنسي عاش بين عامي 1743 و 1794.
(5) Thomas Jefferson: أحد مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية ومؤلف إعلان استقلالها ورئيسها الثالث فيما بين عامي 1801 و 1809.
(6) Benjamin Franklin: أحد مؤسسي الولايات المتحدة وأحد الموقِّعين على إعلان استقلالها، وهو رياضياتي ومؤلف وسياسي وموسيقي، وله اختراعات ونظريات في الكهرباء.
(7) Thomas Paine: ناشط سياسي أمريكي من أصل إنگليزي وكاتب وثائر عاش في القرن الثامن عشر.
(8) Romanticism: الرومانسية حركة في الفن والأدب انتشرت في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر ومجَّدت الطبيعة ووضعت الخيال والمشاعر فوق العقلانية.
(9) Gerald Ford: الرئيس الثامن والثلاثون للولايات المتحدة الأمريكية، بين عامي 1974 و 1977.
(10) Ronald Reagan: الرئيس الأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، بين عامي 1981 و 1989.
(11) Jimmy Carter. الرئيس التاسع والثلاثون للولايات المتحدة الأمريكية، بين عامي 1977 و 1981.
(12) intransitive
(13) أي انتخابات الحزب الجمهوري الأمريكي التي هَزم فيها <فورد> <ريگان>. (التحرير)
(14) من نظريات <آرُّو> نظرية الاستحالة impossibility theorem، وهي نظرية رياضياتية يمكن تقريب مضمونها بإحدى العبارات التالية: لا توجد طريقة انتخاب عادلة، أو ثمة عيوب في كل طرق الانتخاب القائمة على الأفضليات، أو أن طريقة الانتخاب الوحيدة الخالية من العيوب هي الدكتاتورية. وعلى نحو أدق، عندما تكون أمام الناخبين ثلاثة خيارات أو أكثر، لا يمكن لطريقة انتخاب قائمة على الأفضليات أن تحوِّل أولويات الأفراد إلى أولويات مقبولة للمجتمع برمته مع تحقيق مجموعة معينة من معايير العدل.
(15) انظر: “The Fairest Vote of All,” by Partha Dasgupta – Eric Maskin;
Scientific American, March 2004
(16) the Prisoner’s Dilemma، انظر: «حسابات التعاون»، ، العدد 1(1996)، ص70 .
(17) laissez-faire economics: مذهب في الاقتصاد يرفض تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي إلا في الحدود الدنيا الضرورية للحفاظ على السلم وحقوق الملكية. والعبارة الفرنسية laissez-faire تعني: «دع الناس يفعلون ما يبدو لهم.»
(18) neoclassical economy : هو الاقتصاد التقليدي الذي أسسه <آدم سميث> في القرن الثامن عشر، والذي يقول إن المنافسة تؤدي إلى استمثال تخصيص الموارد وتحقّق التوازن بين العرض والطلب وتردُّ صفة الحداثة في تعريف هذا الاقتصاد إلى كونه يعتمد طرائق التحليل الرياضياتية.
(19) liberal paradox(التحرير)
(20) انظر: “Escape from Paradox,” by Anatol Rapoport; Scientific American, July 1967
(21) انظر: «إحياء قطـة شرودِنگـر»، ، العــدد (1997) 12، ص 48. وكتـاب «العقـل والحاسوب وقوانين الفيزياء»، لمؤلفه روجيه بنروز – ترجمة: محمد وائل الأتاسي وبسام معصراني، دار طلاس – دمشق 1998.
(22) apparent irrationality (التحرير)
(23) psychology tests
(24) A quantum superposition
(25) quantum cognition: حقل أبحاث تُستعمل فيه أفكار من الفيزياء الكمومية وعلم المعلومات الكمومية لتطوير نماذج جديدة كليا لظواهر استعراف متنوعة تمتد من ذاكرة الإنسان واسترجاع المعلومات واللغة البشرية حتى اتخاذ القرار والتفاعل الاجتماعي.
(26) Niels Bohr: فيزيائي دانماركي له إسهامات أساسية في فهم بنية الذرة والميكانيك الكمومي، حاز جائزة نوبل للفيزياء عام 1922.
(27) (1910 – 1842) William James: فيلسوف وعالم نفس أمريكي تدرب على ممارسة الطب، وكان أول من قدَّم دورات في علم النفس بالولايات المتحدة. (التحرير)

http://oloommagazine.com/Images/none.gif

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى