عندما منح <ميخائيل گورباتشوف> الحـريةَ للعــالمِ النـــــووي الروسي <.A ساخاروف> للسفر إلى الولايات المتحدة، كانت أول محطة توقف فيها أكاديمية نيويورك للعلوم. وفي ذلك الوقت – عام 1988 – كان أعضاء مجلس تلك الأكاديمية هم قادة تعبئة المجتمع العلمي للدفاع عن حرية <ساخاروف>، لذا قصد <ساخاروف> بتوقفه في الأكاديمية توجيه شكره إلى هؤلاء الأعضاء على جميع الجهود التي بذلوها في هذا الشأن.
إن قياس إبداع أمة يتجلى في مدى حسن تعاملها مع مَنْ هم وراء حدودها.
وتُبين هذه الحادثة كيف أن العالَم تغير كثيرا – وخاصة العالَم العلمي – في ربع القرن المنصرم. وفي الوقت الذي أُطلق فيه سراح <ساخاروف>، كان عدد الدول، التي تُجري أبحاثا علمية رصينة، ضئيلا جدا، ثم إن القليل منها كان يسمح بإجراء هذه الأبحاث باستقلال عن مصالح هذه الدول. وحين كان يتطلب عمل الباحثين أن يتعاونوا مع زملاء لهم موجودين خارج حدودهم الوطنية، كان يتعين عليهم بذل جهود مضنية لتجاوز هذه الحدود. أما اليوم، فقد تغيرت الأمور تماما.
العولمة globalization (التي أسميها أحيانا الكوكبة planetization للإشارة إلى ظاهرة أشمل مما تعنيه «العولمة» للبعض) سمة مميزة لهذا العصر في التاريخ البشري. وهي ليست جديدة، إذ وصفها المؤرخ <.J كوتسويرث> عام 2004 بأنها «ما يحدث عندما تتسارع حركة الناس والسلع والأفكار بين البلاد والمناطق»، وهذه الحركة كانت ومازالت، مستمرة بطريقة أو بأخرى، منذ أن تجرأ أفراد المجتمع البشري الحديث على الهجرة من إفريقيا. بيد أن ثمة شيئا مختلفا يجري الآن: فالعالم آخذ في الصغر، ولم يعد بالإمكان إبقاء آثار النشاطات الاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية التي تحدث في مناطق نائية بمعزل عن المناطق الأخرى. فالمجتمع العالمي يعمل وكأنه شبكة من الإبداع والتجديد، تخللتها مجموعة من «عواصم الفكر(1)» تمثل عقد nodes هذه الشبكة. فإذا كانت الطبقة الموهوبة في عصر النهضة الإيطالية تتحرك بين ميلانو والبندقية وفلورنسا وروما، فإن أكثر مواطنينا المبدعين والمجددين في أيامنا هذه يتنقلون بسهولة بين سيليكون ڤالي(2) وشينگهاي ولندن ونيويورك.
لقد ظل العلماء، من أرسطو إلى <.S هوكينگ>، يسعون لئلا تحدّ سيادة sovereignty دولهم من نطاق أبحاثهم؛ وفي الواقع، فإن العلم بطبيعته الأساسية، يقاوم قيود الحدود. فنظريات <كوبرنيك> في النظام الشمسي أدت إلى اكتشافات <گاليليو> الفلكية التي مهدت السبيل لتقديم <نيوتن> نظرية التثاقل (التجاذب) الكوني(3). غير أنه يجب ألا يغيب عن بالنا أن هذه التقدمات المفاجئة(4) المترابطة بقوة حدثت على مدى قرون. ففي معظم التاريخ، كان تطور الفهم العلمي مستقرا، وإن كان يجري ببطء، وذلك يعود إلى المسافات التي تفصل العلماء بعضهم عن بعض وإلى الفرص التعليمية المحدودة ونقص الموارد والتدخلات السياسية. أما اليوم، فقد تسارعت خُطى التجديد تسارعا شديدا.
فمؤشرات النشاط في البحث العلمي، تحمل في ثناياها شواهد على حدوث انفجار في القدرات العلمية، ونزعة قوية إلى التعاون الدولي. لننظر في الإحصاءات التالية: ففي عام 1996، نُشر نحو 25 في المئة من الأبحاث العلمية من قبل مؤلفين ينتمون إلى بلديْن أو أكثر قليلا؛ أما الآن، فهذه النسبة تتجاوز 35 في المئة. وأن حصة الأبحاث المنشورة من قبل علماء أمريكيين، بالتعاون مع علماء من دول أخرى، ازدادت من 16 في المئة عام 2006 إلى 30 في المئة عام 2008. وفي عام 2008، نشر العلماء الصينيون أبحاثا علمية تعادل نحو ستة أمثال ما نشروه عام 1996؛ وفي هذه الأيام يخرج نحو 10 في المئة من النشرات العالمية من الصين. وفي عام 1989 لم تكن كوريا الجنوبية واردة ضمن أول عشر دول تشغل موقع الصدارة في قائمة براءات الاختراع المسجلة في مكتب العلامات التجارية وبراءات الاختراع الأمريكي(5). أما اليوم فهي تشغل المرتبة الثالثة. أما تركيا فقد زادت إنفاقها على البحث والتطوير R&D بنحو ستة أضعاف، وارتفع عدد الباحثين فيها بنسبة 43 في المئة. وتستمر هذه القائمة في التغير، وجميع الأرقام الواردة فيها تعيدنا إلى حقيقة بسيطة مفادها أن ثمة تغيرا زلزاليا في مدى انتشار البحث العلمي عبر الحدود الوطنية، وضمن البلدان التي لم يكن اسمها واردا من قبل في قائمة الدول المعنية بالعلوم الرئيسية.
ومع أن حياة العالِم ربما لا تكون مرتبطة بالضرورة بأنحاء كثيرة من العالَم، فإن العولمة تؤثر في مشروع العلم بأنماط مختلفة وكثيرة، أهمها بسيط جدا إلى درجة أنه لا يمكن ملاحظتها: فالسرعة والسهولة اللتان تميزان اتصالاتنا الآن، سرَّعتا كثيرا تدفق الأفكار، وهذا جعل المشروع العلمي مترابطا بعضه ببعض أكثر من أي وقت مضى. ومع أن هذا الترابط القوي لم يغير المطلب الأساسي، ألا وهو السعي وراء المعرفة وتقدم الجنس البشري، فإن العولمة المتزايدة للبحث العلمي ولدت نظاما بيئيا فكريا منفتحا يجذب كثيرا من الأذكياء للانخراط في محادثات تجري بينهم.
يبين هذا المخططُ الدائري التعاونَ بين الدول الخمس والعشرين التي تتميز بأكبر خرج(6) علمي. ويُقاس هذا الخرج بعدد الأبحاث العلمية التي ظهرت عام 2011 في مجموعة مختارة من المجلات العلمية. هذا ولا يتضمن المخططُ تعاوناتٍ جَرت داخل كل دولة.
وعلى سبيل المثال، فإن تقدما عظيما قد تحقق حديثا في الصراع ضد مرض الملاريا يتمثل بعقار يسمى أرتيمسينين(7). وفي الشهر 2012/9 مُنحت جائزة Lasker-DeBakey Clinical Medical Research إلى العالم الصيني الذي كانت له الريادة في ابتكار هذا العقار، بيد أن هذا العقار كان قد اكتُشف في واقع الأمر في الصين قبل نحو 40 عاما، وذلك استجابة لطلب رسمي من <ماوتسي- تونگ>، الذي كان يسعى إلى دعم ڤيتنام الشمالية في حربها مع الولايات المتحدة. وقد أخرت عزلة الصين وعلمائها معرفة العالَم لهذا الاكتشاف الرائع مدة سبع سنوات، وأخرت أيضا إتاحة استعماله عدة سنوات بعد ذلك. وفي الأربعينات من القرن العشرين، تعاون عالم الفيزياء الحيوية(8) <.M دلبروك> – أمريكي من أصل ألماني – مع عالم الأحياء الميكروية (المجهرية)(9) .S< لوري> الإيطالي في إجراء تجربتهما الشهيرة التي بيّنت أن المقاومة البكتيرية للڤيروسات تُورَّث جيني(10). لقد كان هذا عملا عظيما، وكان يتصل أحد هذين العالمين بالآخر عبر أكثر أداة تعاونية فعالة وموثوقة في تلك الأيام: إنها المكاتب البريدية.
وفي هذه الأيام، نتابع ما يجري في المجتمع عن طريق الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بأسلوب مغاير؛ فنحن الآن معتادون على أن نتواصل فكريا بغرباء عنا، وقادرون أيضا على توسيع مجموعات المواهب بطرق جديدة وأكثر نجاحا، ولدينا حاليا علاقات أعمق بالمتعاونين معنا. والاحتمال الأكبر هو أن توسع الأجيال العلمية القادمة وسائل تحقيق ذلك لتشمل السكايب والفيسبوك أو شبكات مشتركة – أو مجموعة مؤلفة من هذه الوسائل الثلاث. وحجم البيانات data يكبر بسرعة أعلى؛ ثم إن عددا أكبر من الزملاء – حتى من غير العلماء – هم جزء من المحادثة؛ وحجم البيانات، الذي يمكن تجميعه ومراجعته ومعالجته، ضخم نسبيا. وتعيد هذه الفروق تعريف مفهوم التعاون والزمالة. فعلماء الرياضيات وعلم الأعصاب في جامعة نيويورك يعملون بالقرب من زملائهم في حرمنا الجامعي بشينگهاي وحرم جامعة أبوظبي، كما لو أنهم يعملون في رواق(11) حرم جامعة نيويورك، ويتشاركون أيضا في نتائج أكثر التجهيزات تقدما عبر الحرم الجامعي لكل من هذه الجامعات.
ونتيجة لهذا الترابط، تدنت أهمية موقع عمل الباحث كثيرا عما كانت عليه سابقا. وإن دراسة الكيفية التي يعالج بها الناس اللغة بطريقة مختلفة ستكون أقوى بالضرورة إذا أُجريت في مواقع متعددة. ويستطيع الباحثون الذين يعملون في مدينة نيويورك متابعة دراسة تتطلب جهازا عالي الحساسية لقياس الحقول المغنطيسية للدماغ – على الرغم من الأثر السيئ المحتمل لأنفاق المرور والقطارات – وذلك بوضع الجهاز في بلد آخر. وبصرف النظر عن المشروع المحدد، فبمقدور العلماء، الموزعين في مواقع مختلفة من العالم، التغلب على القيود التي يفرضها يوم العمل. ويبذل الباحثون جهودا مضنية، فهم غالبا ما يزورون مختبراتهم ليلا، أو يمتنعون عن قضاء إجازاتهم خلال تجربة يجرونها. وبتشغيل المختبرات في مناطق لها مَواقيت مختلفة، فمن الممكن التغلب على قيود الوقت، واستمرار العمل 24 ساعة في اليوم، ومن ثم الحصول على النتائج بسرعة أعلى. ويتزايد استعمال فرق العلماء لتقسيمات الكرة الأرضية إلى مناطق زمنية(12) لجعل عملهم أسهل.
يرى كثير من الدول في العلم والتقانة وسيلة لبناء اقتصادها. والنتيجة هي رصد ميزانيات أكبر للبحث والتطوير.
إن القدرة على إجراء الاتصالات بسرعة أعلى بصرف النظر عن المسافة، غيّرت جدول أعمال البحث(13) تغييرا كبيرا. وثمة موضوعات برزت لم يكن لها وجود، أو لم يتم فحصها حتى الآن. ويتضمن هذا النوع من الموضوعات التغيرات المناخية، والأمن الغذائي وقضايا أخرى تهم المجتمعات مثل هندسة المياه(14) والأمراض الاستوائية. وفي جدول أعمال (أجندة) للأبحاث الوطنية، قد تشغل هذه المناطق اهتماما من الدرجة الثانية أو الثالثة؛ ومع ذلك فإنها تعد أولويات في جدول أعمال أبحاث عالمي. وهكذا، فليس الموضوع مقصورا على أن سرعة وسلاسة الاتصال السريع هما اللتان جعلتا إنشاء فرق بحث دولية عملية أسهل؛ فأيضا هو أن إنشاء تلك الفرق هو الذي صاغ الأسئلة المطروحة، وبهذا يكون قد أدخل التحديات المترابطة للجنس البشري إلى الواجهة الأمامية للاهتمام العلمي.
ولمواصلة كثير من مشروعات البحث هذه بأسرع طريقة ممكنة، فلا بديل من الدراسة الكونية الحقيقية. فمستويات المحيطات والتحديات الملحّة لإدارة المدن في عالم يتزايد فيه عددها، لا يمكن أن تدرس دراسة ذات معنى إلا على مقياس واسع تسمح به العولمة. ويتطلب مثل هذه المشروعات أن تجمع البيانات من جميع أنحاء العالم، وأن تنظم القدرات العقلية والموارد بطريقة كان من المستحيل تصورها قبل ربع قرن أو أقل. وتتسم هذه المشروعات بتعقيد يماثل الأصوات الكثيرة المتعاظمة الشدة الصادرة عن فرقة كبيرة للموسيقى السيمفونية. ولو لم تكن هذه الطاقة الهائلة في موقعها الصحيح الآن – التغير غير الملاحظ أحيانا في الطريقة التي تُعمل بها الأشياء، والممثلون الإضافيون الذين يمكن إدخالهم، والقدرة على اختراق المكان والزمن – لما كان بإمكاننا إجراء هذا النوع من الأبحاث المكثفة. وهذا يشبه توليد عين واحدة لراصد من عدة عيون.
يتضمن هذا الشكل التعاونات الداخلية في الدول العشر ذات الخرج العلمي الأعلى في العالم. ويعمل الباحثون الأمريكيون فيما بينهم أكثر مما يعملون مع باحثين من خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
ونتيجة لمتابعة جميع مشروعات الأبحاث هذه – مدعومة بتكبير عدد متزايد من المواهب من جميع أنحاء العالم – وبالتدفق السهل للمعلومات لدعم التعاون، صار المجتمع العلمي العالمي أقل اعتمادا على الولايات المتحدة والدول الغربية. ويرى كثير من الدول الآن أن الاستثمار في العلم والتقانة هو الطريق لبناء اقتصادها؛ والنتيجة هي ميزانيات أكبر للبحث والتطوير، اللذين يولدان بدورهما تعاونا أكاديميا أقوى وأنشط بين زملاء منتشرين في أرجاء مختلفة من العالم. وعلى سبيل المثال، فإن عدد الذين حصلوا على الدكتوراه في العلوم والهندسة من جامعات آسيوية، وبخاصة الصين، في تزايد مستمر، أما عدد الذين حصلوا على هذه الدرجة في الولايات المتحدة، فآخذ في التناقص. وقبل خمس عشرة سنة نشرت الولايات المتحدة عشرة أضعاف الأبحاث العلمية التي نشرتها الصين، وكان عدد العلماء الصينيين الواردة أسماؤهم في المجلات العلمية ضئيلا جدا. ولكن قبل سنتين، شغلت الصين المرتبة الثانية عالميا في عدد الأبحاث المنشورة؛ وقد تسبق الولايات المتحدة في العام القادم. وخلال العقد الماضي ضاعفت الصين والهند والبرازيل إنفاقها على البحث والتطوير – إذ زادت إسهاماتها في الإنفاق العالمي على البحث والتطوير من 17 في المئة إلى 24 في المئة. وقد ورد في تقرير، أصدره مكتب براءات الاختراع الأمريكي عام 2010، أن الهيمنة الأمريكية على براءات الاختراع انتهت عام 2008، وذلك عندما تجاوز عدد براءات الاختراع ذات الأصول غير الأمريكية عدد البراءات من أصل أمـــريــكــي. وبــين تـقــــريــــر أصــــدره <.Th رويترز>(15) أن الصين تجاوزت الولايات المتحدة واليابان في طلبات البراءات الجديدة في العام الماضي (2011).
وينحو هذا النشاط المكثف حول العالم باتجاه الأفضل. فالعولمة – كما هو واضح في التعاون الدولي في مشروعات «العلوم الرئيسية»(16) – هي الآن شيء مسلَّم به. وليس «مشروع الجينوم البشري»(17)، و «المحطة الفضائية الدولية»(18)، و«مصادم هادرون الكبير في (19) CERN قرب جنيڤ، والمفاعل (20) ITER في فرنسا سوى بضعة أمثلة عـــلى ذلــــك. لقـــد أضحــت عــولمــة العـلـم هبة للبشرية.
بيد أنه يتعين علينا أن نلزم جانب الحذر من المبالغة في تهنئة أنفسنا. فمع أن العلماء باتوا أكثر قدرة من أي وقت مضى على أن يتصل أحدهم بالآخر، وأن المجتمع العلمي صار أكثر تماسكا، فثمة أخطار وتحديات لا يُستهان بها. وكثير منها ينطلق من توتر شديد يعانيه زماننا. فمع ازدياد ترابط العالم بعضه ببعض، فإن أفرادا ومؤسسات وجدت طرقا جديدة لرسم حدود boundaries لها.
ومع أن عدد الذين يشملهم التحدث في العلم بازدياد، فمازال كثير من الناس مستثنى من ذلك. وفي جميع أرجاء العالم، هناك من ليس لهم نفاذ access – أو قليل منه – إلى ثورة الاتصالات من بعد(21) أو إلى الإنترنت، والأقل منهم بكثير أولئك الذين حصلوا على تعليم متقدم أو معرفة تقنية. ومع استمرار هذه الأحوال، فسيكون لدينا عدد كبير جدا من الناس الموهوبين الغائبين عن محادثات مهمة. والخطر الحقيقي هو أن هذه النزعة تتسم بتعزيز ذاتي(22)، وأن الفجوة في الإمكانات العلمية بين الدول المتقدمة وتلك التي هي أقل تقدما، ستتسع.
وبالمثل، فنحن بحاجة إلى أن نحذر فقدان قدرتنا على سماع أصوات أولئك الهامشيين الذين يتحدون الآراء التقليدية – علما بأن بعض أعظم التقدمات المفاجئة حدثت بفضلهم. وبعبارة أخرى، علينا أن نكون واعين بمخاطر «التفكير الجمعي» groupthink أو «التفكير السريع» fast-think. وفي حين تقوم التقانات الجديدة بجمع العلماء والباحثين العلميين وغيرهم بطرق فعالة ونافعة جدا، فإن هذه الوسائط والجماعات الافتراضية الجديدة قد تعزز المعرفة التقليدية. وبوجود هذا الهدف نفسه في أذهاننا، فإننا بحاجة أيضا، إلى فهم أوضح للملكية الفكرية. فالتشكك المضلل في أن ثمار البحث لن تلقى التقدير الذي يليق بها في مواقع أخرى، قد يكون له أثر مدمر في التعاون وتطوير مفاهيم جديدة.
ويمكن لسياسات الهجرة إعاقة نشاطات البحث العالمي الجديد. ومع أن الاتصال والتعاون لم يكونا في وقت من الأوقات أسهل مما هما عليه الآن، فإن كثيرا من الجامعات، بوجه خاص، تجد نفسها تواجه مشكلات عويصة تتعــلـق بـالهجــرة – إذ إن المـتـعــاونيــن لا يستطيعون الحصول على سمات دخول، ومن ثم فإن طلبة الدراسات العليا المقبولين للعمل في برامج علمية لا يمكنهم دخول الولايات المتحدة وأوروبا بسبب جنسيتهم. فالأمن القومي هو بحق من أولويات الولايات المتحدة والدول الغربية، لكننا بحاجة إلى ضبط ميزان المبادئ بطريقة أدق إذا عزمنا حقا المشاركة تماما في المجتمع العلمي العالمي.
وحتى ضمن معاهد الأبحاث الشهيرة، ثمة بعض التوترات المزعجة التي تسببها أو تعززها العولمة. ومع أن بعض أفضل الجامعات تقوم بتغيير أساليب بنائها الأساسية استجابة للعولمة – قال حديثا .R< برودهيد> [رئيس جامعة ديوك] إن الجامعات العظيمة ستغدو في منتصف هذا القرن «جامعات شبكات عالمية»(22) – فإن المعاهد التي تمتلك معظم الخبرات في العمل على مستوى عالمي هي الشركات الكبرى(23). وقد أصبحت المعاهد والشركات شركاء، حيث تمول الشركات البحث العلمي بإيقاع متزايد. ويمثل هذا التحالف تحديات تستدعي انتباه المجتمع العلمي.
والسبب الأول هو أنه لما كانت الجامعات معنية في المقام الأول، بتقدم المعرفة (في العلوم وحقول أخرى)، فإنها مراكز رئيسية للأبحاث الأساسية التي أدى بعضها إلى تقدمات هائلة، وإن كانت غير متوقعة. ولأن الشركات تتطلب نتائج ومنتجات محددة، فهي أقل اهتماما بالأبحاث الأساسية (حدث الاكتشاف الذائع الصيت في مختبرات بل Bell دون أن نعلم). وهكذا، فمادام تمويل الأبحاث مرتبطا بمصالح الشركات، فسيحدث نقص مؤسف في تمويل الأبحاث الأساسية. والسبب الثاني هو أننا عرفنا أن تمويل الشركات يمكن أن يُرْبَطَ بتوقع نتائج محددة. فمثلا، احتكرت شركات الصناعات الدوائية الأبحاث بأساليب أدت إلى معرفة مشكوك فيها، تدعم دعاوى مشكوكا فيها تتعلق بفاعلية الأدوية.
وهذا لا يعني أنه يجب ألّا يوجد علم بتمويل من الشركات. بيد أنه يمكن لشركة عالمية، عملها يتجاوز حدود دول ذات سيادة، أن تكون قوية، وعلينا أن نتذكر أن سيد العلم هو المعرفة. ومن ثم، علينا تقوية البنى والإجراءات المصممة لحماية تقدم العلم.
هذا وإن ازدهار الأبحاث المشتركة شيء جيد، لأنها على الأقل، تُشجع مزيدا من الحكومات (الغربية والشرقية بازدياد) – على تخصيص موارد رئيسية للبحث العلمي، بيد أن الدوافع للمشاركة في فرق متعددة القوميات، قد تذوي ما لم توجه إلى حل بعض المشكلات الأساسية. فمثلا، هل يمكن لعالَم أن يُموَّل – لإجراء بحث – من قبل دولتين مختلفتين؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فهل يمكن أن تكونا أي دولتين، أو يجب أن تكونا
دولتين متحالفتين سياسيا؟ وحاليا، وفيما يصبح كثير من الجامعات مؤهلا للتمويل العلمي المهم من دول ذات سيادة في الشرق الأوسط أو آسيا، فإن القواعد التي تحكم المنح المقدمة من حكومة الولايات المتحدة (وبخاصة القواعد في منطقة “deemed exports”) تجعل كثيرا من المشاريع الممولة من جهات عدة صعبة، إن لم تكن مستحيلة. تُرى، هل السياسات التقييدية(24) جيدة للعلم؟ وهل تميل، على المدى الطويل، إلى عزل العلماء الأمريكيين إذا طُبقت بحزم؟ وهنا يرد السؤال: مَنْ له الحق في الملكية الفكرية لما تبدعه الفرق المتعددة القوميات، وبخاصة تلك التي يمولها أكثر من دولة واحدة؟ هل هذه، بكل بساطة، مسألة عقد بين الأطراف المشاركة، أم إن للحكومات وجهة نظر أخرى، لكونها طرفا (قد يكون جزءا لا يتجزأ) ممولا للمشروع؟
إن المعاهد الأمريكية، بوجه خاص، ترى في إحصائيات تمويل الأبحاث، مؤشرا يهتدى به للحكم على جودة الأبحاث. فهل يستمر التمويل الآتي من المصادر الأمريكية وحده، في أن يشغل المقام الأول بين التمويلات الأخرى؟
ومع تحديد قوى العولمة مسار القضايا العلمية في هذا القرن، فإن هذه القضايا الرئيسية ستحدد دور العلم في حياتنا وقيمته. فهل سيكون البحث العلمي متاحا للجميع، أم أنه سيكون فرصة متاحة للنخبة فقط؟ وهل سيركز البحث على الاحتياجات التي يتطلبها الناس في جميع أنحاء العالم، أم إنه سيكون مخصصا لتحقيق مصالح ضيقة؟ وهل ستظل الدول مشدودة بإحكام إلى القواعد التي صارت عتيقة الطراز، أم إنها ستنعم بمرونة كافية تسمح لها بأن تتعاون بقوة معا في الأبحاث؟
إن النفاذ إلى النقاش العالمي المتعلق بالعلم، هو اليوم أفضل مما كان في أي وقت مضى، وهذا يجعل المشاركة والتقدم فيه ممارسة عالية القيمة. وتوفر المحادثات المتغيرة على الدوام فرصا لم تكن متاحة من قبل للتعلّم ولمناقشة الافتراضات، وهدم الجدران بين فروع المعرفة. ولكن مسارنا ليس صاعدا بالضرورة إلى الأعلى، وعلينا الاهتمام بجعله كذلك.
ثمة سبب يفسر حدوث عدد كبير من الاكتشافات في عصر النهضة(25) مازالت مؤثرة في نمط حياتنا، فالدول المدينية the city-states كانت عواصم فكرية جمعت بين أفضل عقول تلك الأوقات، وهذا وَلَّد جماعات وأفرادا كان يحاور بعضها بعضا فيما يتعلق بالافتراضات العامة السائدة. وفي النهاية، بات المشاركون في الحوار ينعمون بما يكفي من الاستقلال الذي سمح لهم بأن يسعوا للوصول إلى الحقيقة، ولا شيء إلا الحقيقة وحدها. ويجب ألا يكون هدفنا الأمثل الآن أقل من ذلك.
تُرى، ما الذي يعيدنا إلى <ساخاروف>؟ لننظر في السؤال التالي: لماذا كان الكثير جدا من المنشقين السوڤييت القياديين علماء؟ أحد الأسباب هو أن العلم أوجد فرصة للأفراد اللامعين ليتميزوا، على الرغم من وجودهم في بيئة من الحرمان تحت سيطرة دولة بيروقراطية. وللعلماء، بحكم الضرورة وبسبب طبيعة عملهم، صلات بالمجتمع الدولي. وربما كان الأهم، هو أن التساؤلات العلمية تحث على بلوغ مستوى من الصرامة الفكرية ربما يؤدي، بطريقة طبيعية إلى تحدي نظام استبدادي منهار.
هذا هو حال <علاء الأسواني> [وهو روائي مصري مشهور] كان واحدا من كبار منتقدي نظام مبارك المخلوع. هذا الثائر، الذي يكتب ويتحدث عن مستقبل مصر، هو طبيب أسنان مازال يمارس مهنته، علما بأنه يحمل درجة عالية في تخصصه من جامعة إلينوي. وفي لمحة مختصرة عن حياته نُشرت عام 2008 في جريدة the New York Times ورد ما يلي: «كانت سنوات دراسته الثلاث التي أمضاها في أمريكا للحصول على الماجستير في طب الأسنان، أهم مرحلة في حياته. وقد اعترف بأنه يمتلك نظرة كاريكاتورية إلى أمريكا، لكن رحلاته – واكتشافاته فيها لأشياء من ضمنها كنيسة للشاذين جنسيا، ومنظمة اعتداد السود بأنفسهم(26) – أقنعته أنه يوجد في الولايات المتحدة أكثر مما يُسميه في البلاد العربية إمبرياليتها imperialism.»
وإضافة إلى فوائد جميع الاكتشافات التي تمت بفضل العلم المعولم(27) فإن انتشار البحث العلمي والتدريب سيُصبحان جزءا من المجتمعات الآخذة في التكون والتمازج في العالم. ولن يكون بوسع أي بلد إضاعة فرصته للإفادة من العلم. هذا وإن قيام الدول بتدريب شبانها وشاباتها في الجامعات، يؤدي إلى تكوين طبقة من مواطنيها تفكر تفكيرا شاملا، وتتطلب معاهد حديثة، وتزدهر على الرغم من المعوقات المحلية. وسيكون هؤلاء القادة الجدد، وفق عُرف <ساخاروف> في طليعة المرحلة التالية للعولمة.
المؤلف
John Sexton
كان الرئيس الخامس عشر لجامعة نيويورك عام 2001، ورئيس مجلس حكام أكاديمية نيويورك للعلوم من عام 2007 إلى عام 2011، وهو الآن رئيس فخري لها.