أسلاف مهشمة
أسلاف مهشمة(*)
تُعَقِّدُ الاكتشافات الأحفورية الحديثة العملَ الجبارَ المستمرَ لتحديد أسلاف الإنسان في مسيرة التطور.
<.K هرمون>
باختصار
اعتقد علماء الإنسان القديم لفترة طويلة أن البشر انحدروا من سلف شبيه بالشيمبانزي وأن تلك الأحافير المبكرة للإنسان تعود إلى سلالة تطورية واحدة. ووفقا لوجهة النظر هذه, تنوعت أسلافنا فيما بعد فقط إلى فروع متعددة متداخلة من البشر بقي منها نوعنا الوحيد على قيد الحياة. وقد قلبت اكتشافات أحفورية حديثة تلك القصة غير أنها وفـرت أدلة مثيرة للاهتمام بأن السلف المشترك الأخير لأفراد الإنسان والشيمبانزي لم يبدُ بصورة خاصة بمظهر الشيمبانزي وأن أسلافنا لم يكونوا وحدهم في إفريقيا. وهذه المكتشفات تدفع بالباحثين إلى إعادة النظر بماهية السمات التي تشير إلى نوع من الأنواع على الخط التطوري الذي يقود إلينا – وإلى التساؤل حول إمكانية الوصول يوما ما إلى تحديد سلفنا الأخير المشترك مع الشيمبانزي.
|
عن بعد، قد تفترض أنه من البشر. فمع أن طوله لم يتجاوز المتر الواحد وذراعيه الطويلتين ورأسه الصغير، كان يمشي منتصبا – مشية غير متناسقة تقريبا – على قدمين مثلما نمشي نحن الوحيدون من بين الثدييات جميعها. وهذا الفرد المعهود هو لوسي Lucy أحد أفراد النوع أوسترالوبيثيكوس عفارنسيس Australopithecus afarensis الذي عاش قبل نحو 3.2 مليون سنة. ولوسي هي إحدى أقدم الكائنات التي يفترض أنها شاركت في مسيرة التطور نحو النوع الذي ننتمي إليه، الإنسان العاقل Homo sapiens.
أجزاء الأحجية: قَلَبَ الهيكل العظمي المجزأ لأرديبيثيكوس راميدوس Ardipithecus ramidus الأفكار حول أفراد البشر الأقدم. |
عندما تم اكتشاف لوسي عام 1974 كان الدليل على قدرة التنقـل على قدمين هو الذي أكـد عمليا أن نوعها يحتل مكانا في شجرة عائلة الإنسان التطورية. ومع أن معرفة العلماء كانت محدودة حول وجود فروع بشرية أخرى أحدث كانت تتعايش مع فرعنا الذي ننتمي إليه، يبدو أن تطور البشر المبكر كان عملية بسيطة، وأن لوسي والكائنات القديمة الأخرى التي كانت تمشي على قدمين والتي اكتشفت مؤخرا تنتمي إلى السلالة الوحيدة نفسها. وهكذا يبدو أن هذه الاكتشافات تدعم فكرة أن تطور البشر كمسيرة تقدم march of progress مستمرة من شكلِ المشية البرجمية knuckle-walking المستندة على الأصابع كالتي لدى الشيمبانزي إلى شكلِ مشيتنا المنتصبة – وهذه الخطة هيمنت على علم الإنسان القديم paleoanthropology في القرن الماضي. ومع ذلك عندما يقوم الباحثون بمزيد من التنقيب عن أصولنا تتحول هذه الأصول مع مرور الزمن لتصبح أكثر تعقيدا مما توحي إليه تلك الصورة الأيقونية.
ثمة اكتشافان حديثان عملا على تحطيم ما اعتقده العلماء حول معرفتهم لنشوء البشر: الأول هو هيكل عظمي كامل بشكل مدهش يعود إلى ما قبل 4.4 مليون سنة والثاني هو قدم مكسَّرة تعود إلى ما قبل 3.4 مليون سنة. تبين هذه الأحافير (المستحاثات) fossils الموصوفة حديثا أننا ربما نشأنا عن شجرة نسب معقدة – وأن تلك السمة المميزة المفترضة للإنسان الحالي والمتمثلة بالمشي المنتصب يمكن أن تكون قد تطورت أكثر من مرة – وبأكثر من شكل في مخلوقات لم تكن أيضا تنتمي إلى أسلافنا المباشرين. وبسبب هذه الاكتشافات بدأ الباحثون بإعادة النظر الآن في تعرف السمات التي تُحدّد نوعا ما كسلف مباشر للإنسان وتعرف سرعة تطور الإنسان وفيما إذا كان بالإمكان تحديد دقيق للسلف الأخير المشترك مع قرود الشيمبانزي.
وحسب قول<.V .C وورد>[من كلية الطب بجامعة ميسوري]: «كلما حصلنا على المزيد من الأحافير ازداد إدراكنا بأن شجرة التطور هي في الواقع شديدة التشعب.» إذ تكشف البقايا أيضا أن الخط التطوري البشري ليس الوحيد الذي خضع لتكيفات مدهشة في عدة ملايين من السنين المنصرمة. فسلالة قرد الشيمبانزي قد خضعت أيضا لتغييرات كثيرة في الفترة ذاتها، وأصبحت على درجة عالية من التخصص للحياة على الأشجار – وهذا الكشف يمكن أن يضع في النهاية حدا للفكرة الثابتة بأن الشيمبانزي الحالي هو نموذج جيد لسلفنا القديم. وهذا التغير «يعطينا وجهة نظر مختلفة تماما حول أصولنا،» حسب قول < وورد> .
«هومين» صغير، تحول كبير(**)
لا شيء عقّـد قصة تحول القرد الأحدب إلى الإنسان الحالي Homo مثل قصة المخلوق الصغير المعروف باسم أردي Ardi. فوصْف هيكل أرديبيثيكوس راميدوس Ardipithecus ramidus العظمي الكامل بشكل مدهش الذي يعود عمره إلى ما قبل 4.4 مليون سنة في عدد كبير من الأبحاث عام 2009 أَحْدَثَ إرباكا في علم الإنسان القديم. إذ يبدو أن أردي التي اكتشفت في موقع يسمي أراميس في منطقة عفار Afar الإثيوبية تشبه قليلا ما توقعه الباحثون لأحد أفراد الهومين من تلك الفترة الزمنية، (أفراد الهومينينات hominins هم رئيسات أقرب إلى البشر من أفراد الشيمبانزي – الذي هو أقرب أقربائنا الذين يعيشون في الوقت الحاضر). لقد توقع معظم علماء الإنسان القديم أن فردا من أفراد الهومين، الذي يعود إلى تلك الفترة الزمنية, ربما يحوز على الكثير من السمات التي تُرى في أفراد الشيمبانزي وقرود إفريقية أخرى حديثة تتضمن أسنانا كبيرة نابية الشكل تفيدها في المنظومة الاجتماعية العدوانية، وتتضمن أذرعا وأصابع طويلة لتسلق الأشجار وتكيفات رسغية تسمح بالمشية البرجمية وغيرها من السمات.
وعوضا عن ذلك، فقد امتلك أرديبيثيكوس راميدوس، الكائن الضئيل وفقا لوصف <.D .T وايت> [من جامعة كاليفورنيا في بيركلي]، الذي قاد الفريق الذي اكتشف أردي، صفات متعضٍ متنوع mosaic organism تمثلت في كل من سمات الأفراد الأكثر تطورا من الهومينينات وسمات القردة القديمة – ولكنها لا تمتلك الكثير من سمات أفراد الشيمبانزي. ومثل البشر امتلكت أردي أنيابا منضمرة وهذا دلالة على ما يعتقده الباحثون على تحولها من نظام اجتماعي يسيطر عليه الذكور إلى نظام أكثر تعاونا يدور حول أزواج يشكلون روابط عائلية طويلة الأمد. إضافة إلى ذلك، وبخلاف القردة الحديثة الإفريقية، يشير اتساع رسغ أردي إلى أنها كانت تدعم نفسها عندما كانت تمشي على أطرافها الأربعة من خلال الاستناد إلى كفيها وليس على الرسغ. وفي الوقت نفسه، كانت أصابعها طويلة نسبيا ومنحنية – مفيدة لتسلق الأشجار – إلا أن معصميها ويديها منعتها من التأرجح بين أغصان الأشجار بمهارة كما تفعل الشيمبانزي.
أجزاء قدم منفصلة: كانت قدم أحفورية مشظية من موقع بيورتيل Burtele في إثيوبيا (إلى اليسار) فيها إصبع قدم مبتعدة وسمات أخرى تميزها عن أقدام أفراد الإنسان الحديث (إلى اليمين) وأسلافه، وهذا ما يكشف أن هناك سلالة ثانية من الذين يمشون على قدمين ربما كانت تتعايش مع سلفنا المحتمل أوسترالوبيثيكوس عفارنسيس Australopithecus afarensis.
|
تبدو أطراف أردي السفلى مركبة بطريقة شبيهة بالسمات التي لدى البشر والقرود القديمة معا. ففي حين أن قدميها المسطحتين نسبيا وإبهام قدمها الكبير قد ساعدتها على التنقل على الشجر، عَمِلَ كل من ثبات قدمها وقدرة إصبعي قدميها الضعيفة على الانثناء إلى الخلف على تسهيل المشي المنتصب. لقد كان عظم حوض أردي مهمشا جدا وهذا مما أبقى بعض تفاصيل تنقلها مجهولا. إلا أن <.W يانگرز> [من جامعة ستوني بروك] يقول إن الدلائل تشير إلى أن المسافة القصيرة بين عظم ورك أردي وعظم العَجُز (وهو العظم المثلث في قاعدة العمود الفقري) تماثل تلك الموجودة لدى أفراد البشر الحاليين ولدى أفراد الهومينينات الأخرى المعروفة بالمشي المنتصب. إضافة إلى ذلك، فإن الثقبة العظمى، وهي الفتحة في قاعدة الجمجمة التي يخرج من خلالها الحبل النخاعي، تقع بعيدة تماما إلى الأمام لدى أردي – وهذه سمة يعتبرها الكثير من العلماء مؤشرا على قامة منتصبة (ولإمكانية المشي على قدمين) عندما كانت تمشي على الأرض. ومع ذلك يتساءل بعض الباحثين فيما إذا كانت، بدلا من ذلك، تقف منتصبة فقط من حين إلى آخر، وذلك على سبيل المثال، عندما كانت تحتاج إلى حمل شيء ما بيديها.
ومع هذا الخليط المذهل من السمات التشريحية تحدّت أردي العلماء في إعادة النظر في تعريف الهومين. وهي سمات كانت تـلزم تقليديا ضرورة المشي المنتصب. ومع ذلك تـبين أن إمكانية المشي على قدمين لا تتعارض مع قدرات جيدة لتسلق الأشجار. وحتى أفراد البشر لديهم بعض المرونة في التنقل. وبحسب قول< يانگرز> : «أعتقد أن الناس الحاليين ينسون مدى قدرتهم على تسلق الأشجار بمهارة.» قد لا نكون قادرين على التأرجح بمهارة بين أفرع الأشجار كأفراد الشيمبانزي والقرود الأخرى، إلا أن تسلق الأشجار ما زال يعد طريقة مهمة في جمع الطعام لدى الكثير من مجتمعات البشر الأصليين. إضافة إلى ذلك، ومع قدرة النوع لوسي – أوسترالوبيثيكوس عفارنسيس – على المشي على قدمين، فإنها كانت تحتفظ بأذرع طويلة نسبيا تدل على أنها مازالت قادرة أحيانا على تسلق الأشجار. ويشير تحليل حديث لأحافير فرد فتيّ من النوع أوسترالوبيثيكوس عفارنسيس وُجِد في عام 2000 بمنطقة ديكيكا في إثيوبيا إلى أنه كانت لهذا النوع أكتاف شبيهة بأكتاف القرود وهذا ما يجعله على ما يبدو متسلقا ماهرا. وهكذا ربما كان للوسي مثل أردي وغيرهما من الأنواع التي أتت قبلهما وبعدهما «أفضل ما هو متاح في كلا العالَـمين،» بحسب قول < يانگرز> .
وضع < وايت> وزملاؤه النوع أرديبيثيكوس راميدوس كسلف محتمل لأوسترالوبيثيكوس عفارنسيس أي كسلف مباشر للإنسان العاقل. واستنادا إلى عمر أردي وتفاصيل تشريحية أخرى، يستبعد الكثير من الباحثين مع ذلك انتمائها إلى خط البشر التطوري المباشر. وبحسب <.D بيگان> [من جامعة تورونتو]: «ربما كانت أردي فردا مبكرا من أفراد الهومين انطلقت في وجهة تطورية خاصة بها.» فقد عاشت أردي قبل 200 ألف سنة من النوع أوسترالوبيثيكوس أنامنسيس Australopithecus anamensis الذي كان يتمتع بأداء أفضل منها في المشي على قدمين، وقد يعتبره الكثير من الخبراء أنه سلف أوسترالوبيثيكوس عفارنسيس. إن التطور السريع من أرديبيثيكوس راميدوس إلى أوسترالوبيثيكوس أنامنسيس (الذي قاد في النهاية إلى أوسترالوبيثيكوس عفارنسيس) ربما كان ممكنا، إلا أن معظم الباحثين بما فيهم < بيگان>متفقون على أن التفسير الأكثر احتمالا هو أن هذه الأنواع لا تنتمي إلى سلالة كبيرة واحدة وإنما إلى سلالتين مختلفتين أو أكثر. ويقول < بيگان> : «أعتقد أن النوع أرديبيثيكوس راميدوس ربما يمثل فرعا تطوريا جانبيا، وحتى موقع لوسي كسلف مباشر للإنسان لم يُحل حتى الآن؛» بحسب <.Y هيلاسيلاسي> [من متحف كليفلاند للتاريخ الطبيعي]، الذي تولى العمل بأبحاث أردي عام 2009، ويتابع: «كما أن ندرة أحافير أفراد الهومين في الفترة الواقعة بين نهاية أوسترالوبيثيكوس عفارنسيس وظهور الإنسان المبكر جعلت هذا التساؤل مطروحا.»
ومع أن الخليط الغريب لسمات أردي – كالمشية التي تستند فيها على راحة يديها وإبهامي رجليها القابلين للانحناء إلى الوراء وأسنانها الصغيرة النابية – التي سببت جدلا كثيرا حول موقعها في شجرة نسب العائلة، فإن بقاياها وفرت معلومات مهمة حول أصول الإنسان تحديدا لأنها لا تشبه الشيمبانزي ولا تتناسب مع التصور التقليدي لفرد من أفراد الهومين. فإذا كانت فردا مبكرا من أفراد الهومين في الخط التطوري الذي يقود إلى الإنسان، فإن سلفنا المشترك ربما لايشبه حينئذ أحد أفراد الشيمبانزي. أما إذا كانت أردي تمثل سلالة هومين متميزة عن سلالتنا أو ربما أنها قرد منقرض، فإنها بذلك تُـظهر أن سمة المشي المنتصب لم تكن السمة المميزة لخطنا التطوري فقط. وفي كلتا الحالتين، فإن فهم العلماء لتطور الإنسان يحتاج إلى تعديل.
رفيق للوسي(***)
في حين أن الكثير من الباحثين ما زالوا يعانون تداعيات أردي، ظهر شيء تشريحي جديد غامض في الموقع المسمى بيورتيل Burtele الذي يقع أيضا في وسط منطقة عفار Afar في إثيوبيا. فقد تم العثور على هذه اللقى التي وصفت في عام 2012 والتي تتكون من ثمانية عظام قدم صغيرة فقط – وعددها أقل من أن تستحق اسما لنوع جديد ولكنها كافية للعلماء ليؤكدوا بكل ثقة أن هذه العينة لا تشبه أي شيء شوهد من قبل. إن هذه القدم تـكرر فكرة أن عملية تطور أفراد الهومين كانت معقدة أكثر مما توحي إليه حتى بعد الاستناد إلى أردي.
ومع وجود عدد قليل من العظام التي تخبرنا عن عينة بيورتيل يعلن < يانگرز> بأن العينة «هي لفرد من أفراد الهومين بالتأكيد» مشيرا إلى أن «إصبع القدم الكبيرة لعينة البيورتيل هي للإصبع الكبيرة في قدم أحد أفراد الهومين،» إلا أن قدم الهومين هذه أقدم كثيرا من قدم ذلك النوع الذي تأكد أنه كان يمشي منتصبا كنوع لوسي. في الواقع، فهي تشبه قدم أردي في حوزتها على إصبع قدم كبيرة قادرة على الإمساك مشيرة بعيدا إلى الطرف مما يدل على الأقل جزئيا على طريقة التنقل على الأشجار. وهذه السمة قد لا تكون مقلقة للغاية فيما لو كانت مماثلة في العمر إلى عمر أردي، إلا أنها ليست كذلك. فعمر القدم يعود إلى ما قبل 3.4 مليون سنة مما يجعل صاحبها معاصرا إلى عمر أوسترالوبيثيكوس عفارنسيس الذي كان يجوب المنطقة ذاتها منذ ما قبل 3.6 إلى 2.9 مليون سنة.
لقد كان حيوان البيورتيل قبل أردي يمشي مثله على الطرف الخارجي من قدمه عندما كان يمشي منتصبا (متفاديا إصبع القدم الكبيرة لأنها لم تكن توفر له دفعا إلى الأمام كما توفره إصبعا قدمينا). لم يطور أي من المخلوقين تكيفات مـثلى فعالة للمشي على القدمين إلا أن كليهما ما زالا قادرين على الإمساك بفروع الأشجار بقدميهما. وبحسب <.J دي سيلف> [من جامعة بوسطن] يصعب من دون العظم الإسفيني الإنسي (وهو عظم كبير في منتصف قدم بيورتيل) معرفة مدى تباعد إصبع قدمه الكبيرة. إضافة إلى ذلك، ربما تساعد ركبة أو حوض أو رأس لبيورتيل على الكشف عن الكيفية التي تتلاءم فيها عينة بيورتيل مع القصة المعقدة على ما يبدو للتجارب التطورية في التنقل.
وقد يمثل حيوان البيورتيل سليلا منقرضا للنوع أرديبيثيكوس راميدوس وأحد الفروع الجانبية التطورية الذي كان موجودا لبعض الوقت إلى جانب سلالتنا الخاصة بنا. يقول <.B لاتيمر> [من جامعة كيس وسترن ريزيرف]: «يفكر المرء في لوسي عندما ينظر إلى الأعلى إلى الشجر ويرى هذه الأشياء،» ويتابع: «ربما كانت هذه الحيوانات تتلاقى فيما بينها.» وبالفعل، يقع موقع البيورتيل على مسافة نحو 48 كيلومترا من المكان الذي تم العثور فيه على لوسي. إن اكتشافَ أحفورة توحي لنا أنها لا تنتمي إلى أحد أسلافنا المباشرين هو ذو أهمية أيضا. يقول < وورد> : «وهذا يعطينا وجهة نظر أكثر واقعية حول تاريخنا البشري،» ويضيف قائلا: «يمكننا أن نستفيد علميا من كائن قريب لنا كاستفادتنا من سلف مباشر لنا – ونرى ما هي الخيارات التي لم يتابعها أسلافنا.»
شجرة نسبنا العائلية المتشابكة(****)
كان ينظر إلى تطور الإنسان العاقل منذ زمن طويل على أنه مسار بسيط متدرج ابتدأ من قرد بدائي شبيه بالشيمبانزي ومرّ عبر أشباه البشر الذين توسطوا هذه العملية وانتهى أخيرا بأفراد منتصبة وذكية من البشر. تحولت السمات في كل محطة تطورية إلى اتجاه وحيد: تناقص طول الأصابع، وانتقل إصبع القدم الكبيرة إلى تراص أمامي وانزاح الرأس ليستقر على أعلى الظهر. ومع ذلك بينت الاكتشافات الحديثة أن مسيرة التقدم هذه هي خطوة خاطئة. إذ ظهرت الأصابع بأطوال متنوعة وبقيت إصبع القدم المبتعدة (لتسلق الأشجار) موجودة إلى جانب إصبع القدم المتراصة إلى الأمام (المتكيفة للمشي المنتصب). وهناك حتى للقرود القديمة معالم تكيف للمشي المنتصب.
هذا الخليط من السمات الأحفورية يؤكد أن التطور عملية فوضوية، وهو يشير إلى أن تطور الإنسان المبكر شَمِلَ عدة سلالات متوازية (المسار البرتقالي والمسار الأزرق) تماما كما شمل فيما بعد التطور البشري. وهكذا، فإن معرفة النوع الذي تنتمي إليه الأحافير مع سلالات الأسلاف المفرزة من الفروع المنتهية المنقرضة سيكون أصعب مما كان يظن من قبل. وتبين الأشكال على هذه الصفحات كيف أن توزع بعض السمات المهمة المرتبطة بالتنقل لدى قرود وأقرباء البشر الحديثين والمنقرضين تُعقّـد قصة أصل الإنسان.
أجزاء أكثر، أحجية أصعب(*****)
إن قدم البيورتيل تؤكد أن اعتبار وضعنا كأفراد من الهومين الوحيدين الباقين على قيد الحياة (انقرض النياندرتاليون منذ ما قبل 28 ألف سنة تقريبا، وانقرض أيضا هومو فلوريسيانسيس القزم منذ ما قبل 17 ألف سنة) ربما يكون الاستثناء في تطور الهومين وليس القاعدة. تماما مثلما احتوت أبحاث تطورنا الحديثة سلالاتٍ متعددة معاصرة من الهومينينات, تبعثر كذلك أيضا على الأرجح ما تبقى من تاريخنا مع أقارب تربطهم صلات قربى مختلفة. والآن وبعد أن اتضح للباحثين أن هناك فردين من أفراد الهومينينات مختلفين بشكل كبير – حيوان البيورتيل ولوسي – كانا يعيشان سوية في الوقت نفسه تقريبا، أدركوا أنه يجب عليهم أن يعيدوا دراسة كلتا الأحفورتين القديمة والجديدة للهومين بدقة لتحديد النوع الذي تنتميان إليه عوضا عن تحديد عمرهما وتحديد الهومين السائد في تلك الحقبة الزمنية التي ينتميان إليها. «وهذا يتطلب العديد من الأطروحات وكمّاً ضخما من العمل،» بحسب قول< دي سيلف> . ومع ذلك، وعوضا عن كون هذا الأمر مزعجا، يضيف < دى سيلف> : «فإن ذلك مثير للغاية».
ويدرك العلماء تدريجيا أن هذه الاكتشافات لا ينبغي أن تكون وكأنها غير متوقعة كما كانت عليه من قبل. ويقول < وورد> : «عندما تجد شيئا مثل قدم البيورتيل التي تختلف بشكل واضح عن قدم أوسترالوبيثيكوس عفارنسيس علينا أن نقول بطريقة ما: هذا متوقع!» ففي عصر الميوسين، أي منذ ما قبل 23 مليون سنة حتى ما قبل 5 ملايين سنة، كانت تعيش في جميع أنحاء العالم المئاتُ من أنواع القرود الكبيرة. والاعتقاد أن هذا التنوع اختفى فجأة هو اعتقاد غير صحيح، حسب قول < وورد> ، وتضيف: . ومع ذلك لسوء الحظ، فإن هذا التنوع يجعل من الصعب علينا تحديد البواكر من أسلافنا المباشرين، وكذلك السلف الأخير المشترك لأفراد البشر والشيمبانزي. والذي يُعقّـد الأمور أكثر هو السجل الأحفوري الفقير لأفراد الشيمبانزي والقرود الأخرى الإفريقية.
فهل سيكون بالإمكان استنتاج علاقات قـربى تطورية بدقة كافية لبناء شجرة نسب عائلتنا بكل ثقة؟ ربما لا نستطيع ذلك أو على الأقل على المدى المنظور. ففي بحث نـشر في مجلة نيتشر(1) Naturee ذكر اثنان من علماء الإنسان أن الاستنتاج يمكن أن يُقضى عليه بسبب تشابه السمات homoplasyy، حيث تُطوِّر الأنواعُ المختلفة بصورة مستقلة سماتٍ متشابهة. فالتطور المستقل يعني أن وجود سمة من السمات كالمشي المنتصب – حتى في الأنواع التي تنفصل عن بعضها بملايين السنين – لا يؤكد أن نوعا ما تَحدَّر مباشرة من نوع آخر. «فالسمات المشتركة لا يمكن أن تقودك بعيدا في تحديد العلاقات التطورية،» حسب قول عالم الأنثروبولوجيا البيولوجية <.T x هاريسون> [من مركز دراسات أصل الإنسان في جامعة نيويورك]، الذي شارك مع <.B ووود> [من جامعة جورج واشنطن] في تأليف البحث المنشور في مجلة نيتشر. فعلى سبيل المثال، كان لدى القرد أوريوبيثيكوس بامبوليي Oreopithecus bambolii المنقرض، الذي كان يعيش فيما يسمى اليوم بإيطاليا منذ ما قبل 9-7 ملايين سنة، أسنان صغيرة نابية الشكل مقارنة بقرود عصر الميوسين الأخرى ووجه قصير وثـقبة عظمى متوضعة إلى الأمام ووركان قصيران وعريضان – وجميعها سمات مرتبطة بأفراد الهومينينات. ومع ذلك، فقد افتُـرض أن يكون قردا كبيرا بدائيا بدلا من قرد مبكر من الهومين وذلك جزئيا بسبب أسلوبه المختلف للتنقل منتصبا (الذي يمكن أن يكون مقتصرا على الأشجار – بشكل مماثل إلى أفراد قرد الگِبن gibbon الحالي) جنبا إلى جنب مع خصائص قدميه وأصابعه وذراعيه التي تبدو أنها قد تكيفت بشكل جيد للتسلق على أغصان الأشجار والتأرجح بينها.
وتضيف قَدم البيورتيل دليلا آخر على ظاهرة تشابه السمات في حالة المشي المنتصب. ويتساءل < دي سيلف> : «تماما مثلما لديك عدة أساليب للتسلق وعدة أشكال للمشي على الأقدام الأربعة في عالـم الرئيسات، فلماذا لا تكون هناك عدة صيغ مختلفة للمشي على قدمين أيضا؟ فالتطور ذكي ويستطيع باستمرار إيجاد حلول للمشكلات.» وهو يقر بأنه كان من نقاد النظريات التي تجادل في أنماط المشي المنتصب المختلفة في المخلوقات مثل أوسترالوبيثيكوس سيديبا Australopithecus sediba المكتشف حــديـثـــا. وهــو نــوع يعـــــود عمــره إلى مـــا قـبــــل مليوني سنة تقريبا، وقد عثر عليه في جنوب إفريقيا وكانت له بنية تشريحية فريدة من نوعها ممثلة بعقب قدم وكاحل وأوسط قدم وركبة. وكان الاعتقاد في البدء أن الاختلافات التشريحية في هذا النوع قد لا تؤدي إلى مزيد من الاختلاف في التنقـل مما هو مرئي في اختلاف مشية أفراد الإنسان الحديث. إلاّ أن عظام البيورتيل ساعدت على تغيير وجهة نظره وحسب قوله: «لا يوجد أي عظم من العظام يشبه تلك العظام،» ويتابع قائلا: «إننا مجبرون على استنتاج أنه كانت توجد استراتيجيات سابقة مختلفة للتكيف.»
إلا أن هذا الفهم ليس مريحا دوما. «فكلنا يريد أن يعتقد أن البشر حالة خاصة،» حسب قول < لاتيمر> . ولكن إذا كانت أردي وغيرها من الأفراد المبكرة من الهومينينات تحوز على هذا العدد الكبير من السمات غير الشيمبانزية nonchimplike وكانت سمات أفراد الشيمبانزي نفسها مختلفة جدا فربما كان سلفنا المشترك الأخير لا يشبه الشيمبانزي. وفي الواقع يمكن أن يكون أكثر شبها بفرد من أفراد الهومين. وبحسب ما يشير إليه < لاتيمر> ربما كانت لدى السلف المشترك الأخير بين الإنسان والشيمبانزي أصابع أقصر كأصابع أرديبيثيكوس راميدوس وأوسترالوبيثيكوس عفارنسيس. والأغلب كان لديه دماغ أصغر من دماغ الشيمبانزي. وبحسب < يانگرز> يبدو أن لأفراد الشيمبانزي أدمغة أكبر من بعض الأفراد المبكرة من الهومينينات.
«ما ننظر إليه بطرفة عين في السجل الأحفوري ما هو إلا ومضة خاطفة للتنوع القديم.»
<.V .C وورد>، جامعة ميسوري كلية الطب |
ويبدو أن التحدي المتمثل في فهم شكل السلف المشترك الأخير وكيفية تنقله يتعاظم بالتأكيد. وإذا كان علماء الإنسان القديم قد تعلموا في العقد الماضي أي شيء فإنهم تعلموا أن فروع أسلاف البشر ستستمر غالبا في المزيد من التعقيد وخصوصا عند الرجوع في الزمن أكثر إلى الوراء. وحسب قول < لاتيمر> : «سيؤدي هذا إلى الفوضى عند العودة في الزمن إلى الوراء.»
مأزق السلف(******)
إن ما يجعل الأمور أكثر تعقيدا هو أن السلف الأخير المشترك لم يعش ليكون فردا وحيدا كما يشير< دي سيلف> ، وإنما وجد ليعيش في جماعة. ولهذه الجماعة أبناء عمومة، وسيكون لهؤلاء أيضا أبناء عمومة، «وسيكون من الصعب تعرف السلف المشترك من دون معرفة دنا DNA هذا السلف.»
إن تقدم التحليل الجيني لأفراد البشر والقرود في العصر الحالي، ساعد العلماء على تقدير الزمن الذي عاش فيه سلفنا الأخير المشترك مع الشيمبانزي. إلا أن الفترة الزمنية – من 6 ملايين سنة حتى 10 ملايين سنة – ما زالت كبيرة وأن سَلسلة sequencing الدنا وحدها لا يمكن أن تكشف عن شكل هذا السلف. ومع ذلك، فقد بدأ بحث حالي بتحسين تقديرات سرعة الطفرة، مما سيساعد على تقصير هذا الزمن وسيساعد علماء الأحافير على توجيه انتباههم إلى الرواسب الجيولوجية التي من المتوقع أن تكشف أحافير السلف. ويمكن أن تؤدي عملية ضم الدليل الأحفوري مع التحليل الجيني إلى تقدم العلم من خلال إضافة التغيرات في الجينوم genome التي كانت تفصل خطنا التطوري عن خط أفراد الشيمبانزي عندما ابتدأنا لأول مرة بالتباعد.
إلا أنه من دون جينومات هؤلاء الأفراد القدماء من الهومينينات سيكون من الصعب وضعهم في شجرة نسب العائلة – أو على شجرة من أشجار «العليق». وهذا المسعى صعب بشكل خاص «لأن هذه الأشياء أكثر ارتباطا بنا من أي شيء آخر يعيش على وجه الأرض حاليا،» بحسب قول < دي سيلف>. وهكذا، على سبيل المثال، عند محاولة معرفة ما هي أصغر التغيرات في شكل عظم من عظام القدم عبر الزمن، أي معرفة العلاقات التطورية للمخلوقات الممثلة في السجل الأحفوري، فمن غير المفاجئ أنها كانت، كما هو متوقع، صعبة جدا وغالبا مثيرة للجدل.
ومع أن الكثير من الباحثين يشك في قدرتهم على تشكيل صورة مكتملة لأسلاف الهومين, فمن غير المحتمل أن يمنعهم ذلك القلق من المحاولة. ولكن هذه الصورة المتغيرة باستمرار ستحتاج إلى الاستعداد لمواجهة المزيد من أفراد أردي والمزيد الكثير من أفراد بيورتيل الذين يزعزعون شجرة نسب العائلة المحددة. «لنكن مستعدين لإثبات أننا على خطأ،» وفقا لقول < دي سيلف> ، ويتابع: «لنتقبل ذلك – لأن في هذا دليل يظهر بأن تلك الأمور أكثر إثارة للاهتمام والدهشة إلى أبعد الحدود.»
المؤلف
<.K هرمون> محررة لدى مجلة ساينتفيك أمريكان. سيصدر كتابها حول الأخطبوط هذا الخريف من قبل مؤسسة Penguin’s Current imprint. وقد قدمت <.Sh بيگلي> تقارير إضافية عن هذا المقال. |
مراجع للاستزادة
Ardipithecus ramidus and the Paleobiology of Early Hominids. Tim D. White et al. in Science, Vol. 326, pages 64 and 75–86; October 2, 2009.
A New Hominin Foot from Ethiopia Shows Multiple Pliocene Bipedal Adaptations. Yohannes Haile-Selassie et al. in Nature, Vol. 483, pages 565–569; March 29, 2012.
(*) SHATTERED ANCESTRY
(***) COMPANY FOR LUCY
(****) Our Tangled Family Tree
(*****) MORE PIECES, HARDER PUZZLE
(******) ANCESTRAL QUAGMIRE
(1) إن مجلة ساينتفيك أمريكان هي جزء من مجموعة نيتشر للنشر