[ثامنا]
كيف نهندس المستقبل
ونحن نجهل ما نقوم به(*********)
هنالك مدرستان فكريتان أساسيتان تتناولان كيفية الاستفادة من البيانات الضخمة من دون إحداث قدر بالغ من الأضرار الجانبية التي تأخذ شكل التعدي على الخصوصية. إحداهما تسعى إلى توضيح اللوائح الجديدة وإنفاذها، بينما تسعى الأخرى إلى تعزيز الشفافية الشاملة بحيث يصبح بإمكان كل شخص النفاذ إلى جميع البيانات ولا يكسب أي شخص مزية غير مبررة. وهذان المسعيان يتجهان في اتجاهين متعاكسين في معظم الحالات.
وتتمثل مشكلة اللوائح المتعلقة بالخصوصية في أن التقيد بها أمر غير مرجح. فقد أصبحت إحصاءات البيانات الضخمة مصدرا للإدمان وباتت اللوائح المتعلقة بالخصوصية شبيهة بوسائل حظر الكحول أو المخدرات. ومن الجوانب المؤسفة للتسريبات الدورية المتعلقة بوكالة الأمن القومي هو أنه حتى القواعد والأنظمة السرية التي تعتمدها المنظمة تبدو غير مجدية. فقد كان موظفو وكالة الأمن القومي يستخدمون مواقعهم للتجسس على الاهتمامات الغرامية، على سبيل المثال. ومع ذلك، لعله من المفيد وجود بعض اللوائح الجديدة ودرجة ما من الرقابة.
ولكن ماذا عن الفكرة المناقضة – أي جعل الانفتاح على البيانات أكثر شيوعا؟ إن المشكلة فيما يتعلق بهذا النهج لا تنحصر في مجرد النفاذ إلى البيانات؛ بل إن الأهم من ذلك هو القوة الحاسوبية المستخدمة في تحليل تلك البيانات. فهناك على الدوام شخص مزود بأكفأ الحواسيب، ومن غير المرجح أن تكون أنت ذلك الشخص. فالانفتاح بشكل مجرد لا يعمل إلا على تعزيز المشكلة لأنه يزيد من الحوافز على امتلاك حواسيب أكبر.
لنأخذ الحالة المثالية المتمثلة بالانفتاح إلى حدها الأقصى المنطقي. ولنفترض أن وكالة الأمن القومي قد نشرت جميع كلمات السر الخاصة بجميع مخدماتها الداخلية وحساباتها. عندئذ يمكن لأي فرد أن يلقي نظرة عليها. وقد تسارع الشركة گوگل ومنافسوها على الفور إلى استخراج البيانات المخزونة وفهرستها وتحليلها لدى وكالة الأمن القومي بطريقة أفضل منك، وستسعد جميعها بجني الثروات من الزبائن الذين سيستفيدون من ذلك العمل للعثور على طريقة ما للتلاعب في العالم بأكمله أو استغلاله بما يخدم مصالحهم بدلا من مصالحك. ولا يغيبن عن بالِك أن البيانات الضخمة في صيغتها الأولية لا تحقق أية قوة، فما يحقق القوة هو البيانات الضخمة إضافة إلى الحواسيب الأكثر فعالية، وهي عموما الحواسيب العملاقة التي لا تمتلكها أنت.
هل يوجد بديل ثالث؟ تفيذ الحكمة المسلّم بها عالميا تقريبا بأن المعلومات يجب أن تكون مجانية بالمفهوم التجاري. ويتعين أن يحصل عليها المرء مجانا. وهذا ما سمح للشركات الإلكترونية العملاقة في وادي السليكون بأن تتطور بسرعة فائقة، على سبيل المثال.
وتجدر معاودة النظر في هذه العقيدة. فالسماح للمعلومات بأن تكون ذات قيمة تجارية قد يوضح الوضع الذي نحن فيه، ويعيد في الوقت نفسه عنصر الفردية والتنوع والدقة إلى القضايا المتعلقة بالخصوصية.
فلو تم دفع المال للأفراد مقابل المعلومات التي تستمد من وجودهم، لأدىّ ذلك إلى إلغاء الحوافز الرامية إلى خلق مشاريع كبرى للبيانات الضخمة المحكوم عليها بالفشل. فقد يتعين على خطة البيانات أن تحصل على المال عن طريق إضافة القيمة بدلا من استخدام المعلومات التي يمتلكها الأفراد ضدهم.
وهذا مفهوم بارع ودقيق، وكنت أقوم باستكشافه بالتفصيل بالتعاون مع مركز بحوث بالو ألتو ومع <B .W. آرثر> [الاختصاصي في علم الاقتصاد بمعهد سانتا فيه] و<E. هوانگ> [خريج جامعة ستانفورد]. وقد أسهم <هوانگ> في تقديم النماذج الأكثر قبولا لأعمال التأمين لمعرفة ما يحدث حين يكون للمعلومات سعر. ومع أن النتائج معقدة، فإن النمط العام السائد يفيد بأنه حين يتعين على شركات التأمين دفع مال للأشخاص لقاء الحصول على المعلومات التي لا يمكن للشركات انتقاؤها بالسهولة نفسها، فإنها بذلك ستغطي بخدماتها أشخاصا قد ترغب في استبعادهم لولا ذلك.
ومن المهم بمكان التشديد على أننا لا نتحدث عن إعادة توزيع المنافع من اللاعبين الكبار إلى اللاعبين الصغار؛ لا بل إن ذلك يشكل نتيجة مربحة للجميع يعمل فيها كل شخص بصورة أفضل بسبب الاستقرار الاقتصادي والنمو. وإضافة إلى ذلك، فمن غير المعقول أن يوجد ما يكفي من المفتشين الحكوميين للتأكد من التقيد باللوائح المتعلقة بالخصوصية، لكن الجيوش نفسها من المحاسبين الخاصين الذين يجعلون الأسواق حيوية اليوم، يحتمل أن يقوموا بذلك.
وإذا ما عولجت المعلومات بوصفها شيئا ذا قيمة تجارية، فإن مبادئ الإنصاف التجاري قد تعمل على تسوية بعض المعضلات المتصلة بالخصوصيـة التي يصعب تقييمهـــا أو تقدير حجمها. وفي عالمنا الحالي من الصعب جدا إيجاد مستوى وسطي للخصوصية للشخص نفسه من دون وجود مهارات تقنية بارزة. فالشخص غير التقني عليه إما أن ينضم إلى شبكة اجتماعية أو لا، وقد يجد صعوبة في التمكن من إدارة بيئات الخصوصية. ففي عالم تسوده المعلومات المدفوعة الثمن، يستطيع الشخص أن يجري تعديلا على سعر المعلومات زيادة أو نقصانا ومن ثم العثور على الظل الرمادي المناسب. وكل ما يستدعيه الأمر هو تعديل رقم واحد ألا وهو السعر.
لنفترض أن شخصا ما يود أن يلتقط صورة لك باستخدام كاميرا مركبة على الوجه؟ يمكنه القيام بذلك من الناحية المجردة، لكن النظر في الصورة أو فعل أي شيء بها قد يكون باهظ التكلفة. فقد يخسر الأفراد بعض المنافع عند تحديد سعر عال جدا للمعلومات الخاصة بهم، لكن هذه هي إحدى الطرق التي يتحقق بها التنوع الثقافي حتى في حال وجود أجهزة استشعار موصولة بحواسيب كبيرة في جميع الأمكنة.
وثمة زاوية سياسية في هذا الشأن أيضا: فحين تكون المعلومات مجانية يصبح لدى الحكومة قدر لا حدود له من التمويل للتجسس على الناس لأنهم فقدوا قوة الشراء بالمال كوسيلة لتحديد نطاق سلطة الحكومة. ولكنك ما أن تحدد سعرا للمعلومات حتى يصبح باستطاعة الناس أن يقرروا درجة التجسس التي في وسع الحكومة ممارستها عن طريق تحديد سعر الضريبة ببساطة.
ولا يمكن لهذا العرض المقتضب إلا أن يلمح إلى فكرة المعلومات المدفوعة، علما بأن هناك قضايا كثيرة تظل قائمة حتى ولو مضيت في كتابة عدد أكبر من الصفحات، لكن الشيء نفسه يمكن أن يقال عن البدائل. فلا يوجد أي نهج ناضج بعدُ حيال معضلة الخصوصية في عصر المعلومات الضخمة، لا فيما يتعلق بالانفتاح الجذري ولا بشأن اللوائح الجديدة.
ومن الجدير إلى حد بالغ البحثُ عن فرص لاختبار جميع الأفكار المطروحة للنقاش. ويتعين على مهندسي الشبكات وضع نقاط إقحام hooks لأي برمجية من البرمجيات سواء تقرر استعمالها أم لا، وذلك لكي تتمكن برمجيات الشبكة من دعم الأفكار المستقبلية حول المعلومات المدفوعة، وزيادة اللوائح أو الانفتاح العالمي أو الشامل. وعلينا ألا نتخلى عن أي شيء إذا تسنى لنا ذلك.
ونحن الذين نبني أنظمة البيانات الضخمة والأجهزة التي تصلها بعضها ببعض، يواجهنا وضع شائك سيصبح أكثر شيوعا مع تطور التقانة. ولدينا أسباب وجيهة ومقنعة جدا للقيام بما نقوم به. ففي وسع البيانات الضخمة أن تجعل عالمنا معافى أكثر وعلى قدر أكبر من الكفاءة والاستدامة. وعلينا أن نواصل العمل من دون توقف. ولكن علينا في الوقت نفسه أن ندرك أن ما نعرفه ليس كافيا لوضعه في المسار الصحيح منذ البداية.
ويجب علينا أن نتعلم كيف نتصرف وكأن عملنا هو في مرحلة المشروع الأول، وأن نبذل قصارى جهدنا لإرساء العمل الأساسي لما نقوم به لكي تُجرى – عند الحاجة – إعادة النظر فيه ودراسته، وحتى معاودة البدء فيه بشكل جذري من جديد.
|