القضية المرفوعة ضد
القضية المرفوعة ضد <كـوپـرنـيـكس>(*)
إن معارضة فكرة <كوپرنيكس> الثورية: ”إن الأرض
تدور حول الشمس“. لم تأتِ فقط من السلطات الدينية؛
إذ كانت الأدلة آنذاك تحبذ علـما مختلفا عن الكون.
<D. دانيالسون> – <M .Ch. گراني>
باختصار
نظرية <كوپرنيكس> الثورية بأن الأرض تدور حول الشمس أثرت في قيم أكثر من ألف عام من الحكمة العلمية والدينية. فقد رفض معظم العلماء قبول هذه النظرية لعقود عديدة حتى بعد إجراء <گاليليو> بمقاربة مشاهداته ذات الأهمية التاريخية. ولم تكن اعتراضات هؤلاء العلماء لاهوتية فقط ؛ إذ كان يبدو أن أدلة بمشاهدات معينة تدعم علم كون منافسا وهو نظام <تيخو براهي> «الأرضشمسي المركز(1).»
|
في عام 2011 قام فريق من الباحثين في مختبر سيرن CERNا(2) القريب من جنيف، بإرسال شعاع نترينوهات(3) في مسيرة قطع خلالها مسافة 720 كيلومترا إلى مختبر گران ساسو الوطني(4) في لاكويلا بإيطاليا. وعندما سجل الباحثون توقيت المسيرة هذه تبيَّن أن تلك النترينوهات قد جاوزت بطريقة ما سرعة الضوء في الفراغ. فكيف استجاب المجتمع العلمي لهذه النتيجة المدهشة؟ إن جميع العلميين تقـريـبـا، بـدلا مـن تـخـلـيـهـم عـن الـتـعـالـيـم الـراسـخـة لـ <A. أيـنـشـتـايـن> الـقـائـلـة بعدم وجود شيء ينتقل بأسرع من الضوء طرحوا النقاش بوجوب حدوث خطأ في قياسات الباحثين (وفي الواقع، ظـهر فعلا أنهم كانوا مخطئين.)
دعنا نتخيل أنفسنا أربعة قرون من الآن في مستقبل أزيحت فيه آراء <أينشتاين>؛ وقد تثبَّت العلماء منذ فترة طويلة من أن النترينوهات حقا تنتقل بأسرع من الضوء. كيف كنا ننظر آنذاك إلى الوراء إلى علماء فيزياء اليوم؟ كيف كنا نفسر ترددهم في قبول الأدلة؟ هل كنا نستنتج أنه لم يكن علماء فيزياء القرن الحادي والعشرين على استعداد لتغيير قناعاتهم؟ أو غير منفتحين على آراء جديدة؟ ربما تُحرِّكـهم مجموعة من أينشتاينيين ذوي عقول منغلقة بامتثالهم إلى خط أملته عليهم التقاليد والسلطة لاعتبارات غير علمية؟
ونأمل بأن يحصل العلماء المترددون اليوم على إنصاف أكثر عدلا من ذلك؛ لأن معارضتهم للتخلي عما يبدو أنها استنتاجات صائبة – حتى ولو ثَبُتَ خطؤها في نهاية المطاف – هي مقبولة علميا وليست مجرد مؤشر على تحيز متصلب.
إن قصصا كقصصهم ليست غير شائعة في تاريخ العلم. وفلكيو القرن التاسع عشر عندما فحصوا الصور الأولى للمجـرة التي أسمتها العرب «المرأة المسلسلة»(5)، وكانوا يفترضون آنذاك أن مجرة درب التبانة تُشكِّـل الكون كله، اعتقدوا اعتقادا مُبرَّرا أنهم ينظرون إلى نجمة واحدة محاطة بمنظومة شمسية حديثة الولادة – وليست، كما نعلم الآن أنها مجموعة مكـونة ربما من تريليون نجمة. وعلى الغرار نفسه، كان <أينشتاين> متأكدا من أن الكون ساكن، فأدخل في معادلاته ثابتا كونيا ليبقي الكون على هذا النحو. وكان كلا الافتراضين معقولا. وكلاهما كان على خطأ حسبما ناقش <D. كـيسر> [من المعهد MIT] و<A. كراگر> [من جامعة پرنستون] في مجلة ساينتفيك أمريكان في الشهر6/2012، بأنه من الممكن أن يكون كلا الافتراضين مخطئا ومثمرا للغاية. فدائما يغدو كل شيء بعد حدوثه أكثر وضوحا عند النظر إلى الوراء نحوه.
أما في حالة النترينوهات المسرعة، فطبعا كان لدينا قليل من إمكان النظر إلى الوراء. لكن هنالك قصة شهيرة نعرف نهايتها وهي قصة <نيكولاس كوپرنيكُس>(6) ونظريته عن مركزية الشمس التي تقول إن الأرض تدور يوميا حول نفسها وسنويا حول الشمس، والتي نقبلـها اليوم جميعا. لقد كان النظام الكوپرنيكي يمثل تحديا مباشرا للاعتقاد الذي ساد زمنا طويلا والمدون في كتاب «المجسطي» ل<بطليموس>(7) الفلكي في القرن الثاني والذي يقول إن الشمس والقمر والنجوم تدور حول الأرض الثابتة عند مركز الكون.
لقد طرح <كوپرنيكس> أفكاره الثورية عام 1543 في كتابه «دوران الأجرام السماوية»(8) الذي قرأه آنذاك علماء كثيرون وأعجبوا به ووضعوا عليه شروحا وتعليقات واستعملوه في تحسين تنبؤاتهم الفلكية. ومع ذلك، فحتى عام 1600 (أي بعد 57 عاما من صدور ذلك الكتاب)، لم يتخل أكثر من 12 عالـِما رصينا عن الاعتقاد بثبات الأرض. إذ استمر معظم العلماء في تفضيل النظام الأرضي المركز(9) الأكثر تواؤما مع الحس العام. ونحن أنفسنا ما زلنا نُظـهِر تأييدا له كلما تكلمنا عن شروق الشمس وغروبها.
يُعرَضُ أحيانا هذا الاكتظاظ الكوني كأنه جُعِلَ متماسكا بالتحـيز ثم فُرِّقَ من قبل <گاليليو>(10) حين جَمّع مقرابا عام 16099 وبدأ باستعماله لمراقبة النجوم والقمر والكواكب. فكلاهما غير صائب. إذ ما انفك فلكيون حتى زمن طويل بعد 1609 في شكٍ ب<كوپرنيكس> لأسباب علمية مقنعة. وتزود حكايتهم مثالا توضيحيا بتفصيل لافت للنظر إلى الأسباب الجيدة الممكنة التي تكون لدى الباحثين لمقاومة الأفكار الثورية – حتى تلك التي تظهر، في النهاية، أنها صحيحة بشكل مذهل.
علم الـكـونيات (الكوسمولوجيا) الجـديـد ل<براهي>(**)
جاء مصدر شكوك شديد التأثير بشكل واضح بفضل الفلكي الدانماركي <تيخو براهي>(11). إذ اقترح في عام 1588 نوعا مختلفا من نظام أرضي المركز [انظر لإطار علوم الكون القديمة]. وكانت هنالك ميزتان رئيسيتان لعلم الكونيات الجديد الأرضشمسي المركز. إذ إنه تسايرَ مع البداهات العميقة حول كيف يبدو تصرف العالـم، كما أنه تواءم بشكل أفضل مع البيانات المتوافرة من تَواؤُم نظام <كوپرنيكس> معها.
كان <براهي> شخصية بارزة يدير برنامجا بحثيا ضخما بمرصد فلكي شاهق كالقلعة وبميزانية تماثل ضخامتها ميزانية وكالة ناسا NASAا(12) ومزود بأفضل الأجهزة وبأحسن مساعدين يمكن إغراؤهم بالمال. فقد كانت بيانات <براهي> حول المريخ هي التي استخدمها بعدئذ مساعده <J. كپلر>(13) في استنباط طبيعة الحركة الإهليليجية للكواكب. وغالبا ما يوضح <O. جنگرميش> [المؤرخ من جامعة هارڤرد] أهمية <براهي> بالإشارة إلى تصنيف جميع البيانات الفلكية منذ العصور القديمة الذي أجراه في منتصف القرن السابع عشر <A. كـورتيوس> بقوله: «إن الـجزء الضخم من قيم ألفي عام من البيانات وَرَد من <براهي>.»
لقد أُعِجب <براهي> الفلكي الضليع ببساطة النظام الكوپرنيكي العلمية. لكنه كان قلقا من جوانب معينة فيه. فقد كان أحد الأمور التي أزعجته عدم وجود تفسير طبيعي لحركة الأرض. (من الجدير بالذكـر أن <براهي> عاش قبل أكثر من قرن من اكتشاف الفيزياء النيوتونية(14) التي توفـر تماما مثل هذا التفسير). وكان حجم الأرض معروفا إلى حد معقول، ومن الواضح أن تكون كرةٌ من صخر وتراب وآلاف الكيلومترات هائلةَ الوزن. فأي قدرة تُمكِّـن من تحريك مثل هذا الجسم كي يدور حول الشمس، في حين يصعب مجرد سحب عربة محملة في الشارع؟
وفي المقابل، من السهل تفسير حركة الأجرام السماوية كالنجوم والكواكب، فقد افترض الفلكيون منذ زمن <أرسطو> أن الأجرام السماوية مصنوعة من مادة أثيرية aethereal خاصة لم يُعثـر عليها على الأرض. ويُفترض أن لهذه المادة ميلا طبيعيا نحو حركة دائرية سريعة تماما مثلما للعربة ميل طبيعي للتوقف إذا لم تسحب بقوة. قال <براهي> إن الكوپرنيكية نظام «التفَّ حول كل ما هو فائض ومتنافر في نظام <بطليموس> التفافا كاملا وحاذقا – ومع ذلك يعزو للأرض، ذلك الجسم الضخم الكسول العاجز عن الحركة، حركةً تماثل سرعتها لما للمشاعل الأثيرية(15)». وفي هذا الصدد، يشترك قدامى الفلكيين بعض الشيء مع معاصريهم الذين يفترضون، كي يفسروا ما يشاهدون، أن جزءا كبيرا من الكون مُكّون من «مادة معتمة»(16) أو «طاقة معتمة»(17) لا شبه لها بأي شيء نعرفـه.
وأقلق <براهي> شيء آخر هو النجوم في النظام الكوپرنيكي. فقد قال <بطليموس> إن «كرة النجوم» كبيرة من كِبَرٍ لا يقاس لأننا لسنا قادرين على استبيان التزيح اليومي(18) فيها – أي عدم وجود تعديلات بادية للعيان في مواقعها أو في مظاهرها مسببـة التغيير في الزوايا والمسافات بين مراقب أرضي وتلك النجوم حين تَمرُّ من الأفق إلى فوق الرأس وإلى الأفق. والنتيجة المنطقية لهذه المشاهدة أن قطر الأرض مُتلاشٍ عند مقارنته بالمسافات النجمية. وقد كتب <بطليموس> الأرضُ هي «كنقطة».
ومع ذلك كان <كوپرنيكس> يعرف أننا لسنا قادرين على استبيان حتى التزيح السنوي – أي التغيرات في الأوضاع النسبية للنجوم التي تسببها حركة الأرض في مدارها. فإذا كانت الأرض تدور حقا حول الشمس، فغياب التزيح السنوي يتضمن تلاشي قطر مدارها نفسه «كنقطةٍ» عند مقارنته بالمسافات النجمية. إذن، أصبح حجم الكون من نوع جديد تماما – نوع من «كِبَرٍ لا يقاس» و يكاد من المستحيل أن يصدق.
وإضافة إلى ذلك، كان <براهي> يعرف جيدا أن للمقترح الكوپرنيكي نتائج متضمنة كبيرة ليست فقط على حجم الكون فحسب وإنما على حجم النجوم أيضا. وحين ننظر إلى السماء ليلا يظهر أن للنجوم عُرُضاً(19) widths ثابتة أجرى قياسها <بطليموس> و<براهي>. ونعلم الآن أن النجوم البعيدة في الواقع مصادر نقطية للضوء، وأن هذه العُرُض المرئية وَهْمٌ يسببه مرور موجات الضوء خلال فتحة دائرية كما في مقراب telescope أو في قزحية العين.
[علوم الكون القديمة] طـرائـق الكون الـثـلاث(***) في القرن السابع عشر كان لدى الفلكيين ثلاثة نماذج لعلم الكون (الكوسمولوجيا): النموذج الأرضي المركز geocentric صفته المميزة أرض ثابتة والشمس والقمر والكواكب والنجوم تدور حولها، وحتى يعلل الفلكيون الحركة الارتداديـة للكواكب أضافوا دويرات(20) epicycles وهي دوائر صغيرة تدور مراكزها على المدارات الرئيسية. ونموذج <كوپرنيكُس> الشمسي المركز heliocentric الذي يبدو أكثر بساطة لكنه يحمل مشكلات جديدة، وعلى سبيل المثال، أن النجوم تبعد مسافات بعيدة لا تعقل. ونموذج <تيخو براهي> الأرضشمسي المركزgeoheliocentric يشطر الفَرْق – الشمس والقمر والنجوم تدور حول الأرض، والكواكب تدور حول الشمس، والنجوم تقع بالقرب منها.
|
لكن لم يكن الفلكيون يعرفون آنذاك أي شيء عن طبيعة الضوء الموجية. وقد استخدم <براهي> الهندسة البسيطة كي يحسب ما يترتب من نتائج بافتراض أن النجوم واقعة ضمن المسافات الكوپرنيكية؛ فتوصل إلى وجوب أن يكون لها عرض يقارن بقطر مدار الأرض(21)، وتوصل إلى أن حتى أصغر نجمة تُقـزِّم الشمس كليا، تماما مثلما تقـزم الكريب فروت النقطةَ الموجودة عند نهاية هذه الجملة. ذلك أيضا عسير جدا على التصديق، وقد وصف <براهي> أن نجوما تــيــتــانــيــة(22) الحجم مثل هذه غير معقولة. وكما عَبَّر عنها المؤرخ <A. ڤان هيلدن> بقوله عن <براهي>: «إن منطقه مُنـزّه عن الخطأ وقياساته فوق الشبهات. وعلى أي مؤيد للكوپرنيكية مجرد القبول بنتائج هذه الحجة.»
والكوپرنيكيون، بدلا من التخلي عن نظريتهم في مواجهة ما يبدو أنها أدلة فيزيائية دامغة، اضطروا إلى اللجوء إلى القدرة الإلهية على كل شيء، فقد كتب الكوپرنيكي <Ch. روثمان> رسالة إلى <براهي> قال فيها: «هذه الأشياء التي يراها عامة الناس منافية للعقل لأول وهلة، ينبغي ألاّ تُحمَّل باللامعقولية بتلك السهولة؛ لأن الحكمة والجلالة الإلهية هما أكبر بكثير من أن يستوعبوها. افترضْ ما تشاء من كِبَرِ سعة الكون وأحجام النجوم، فستظل افتراضاتك غير محملة بما يتناسب إلى الخالق اللانهائي. تَأمّل في حقيقة أنه كلما عَظُــم الملَك، اطّــرد كِبَرُ وعظـمة القصر اللائق بجلالته. فكيف تقدر عظمة قصر لائق للّه؟»
[تحديات للنظرية] المشكلة مع أحجام النجوم(****) كانت الحجة الأكثر إرهاقا للكون الكوپرنيكي مشكلة أحجام النجوم. وعندما ننظر إلى نجم في السماء يبدو أن له عرضا صغيرا ثابتا. ويمكن بمعرفة هذا العرض وبعد النجم و باستعمال هندسة بسيطة حسابُ حجم النجم. وفي نماذج الكون الأرضية المركز، تكون النجوم واقعة على بعد قريب من الكواكب مما يوحي ضمنا أن حجم النجم قابل للمقارنة بحجم الشمس. لكن نظام <كوپرنيكس> الشمسي المركز يقول إن النجوم بعيدة للغاية. وهذا بدوره يتضمن أن تكون كبيرة كبرا خرافيا – مئات أضعاف المرات أكبر من الشمس. ولم يستطع <كوپرنيكس> تفسير هذه البيانات الشاذة دون ردها إلى القدرة الإلهية. وفي الواقع، إن النجوم بعيدة للغاية، لكن عرضها الظاهر وهمٌ تسببه طريقة سلوك الضوء حين يدخل في بؤبؤ العين أو المقراب – وهو سلوك لم يفهمه العلماء إلا بعد مئتي سنة.
|
لم يهتز <براهي> بحجج كهذه. بل اقترح نظاما بديلا: الشمس والقمر والنجوم جميعها تدور حول أرض ثابتة كما هي الحال في النظام البطليمي، بينما الكواكب تدور حول الشمس كما هي الحال في النظام الكوپرنيكي [انظرلإطار علوم الكون القدية]. وهكذا استبقى هذا النظام «التيخوني»(23) مزايا النظام الأرضي المركز. إذ لا حاجة في هذا النظام إلى تعليل لحركة الأرض الضخمة الكسولة، ولا إلى فقدان للتزيح السنوي الذي يتطلب نجوما عملاقة الحجم واقعة على مسافات شاسعة، إذ تقع النجوم في نظام <براهي> على بُعد قليل فقط فيما وراء الكواكب وبأحجام معقولة تماما. ومع ذلك، بقدر ما يتعلـق الأمر بالكواكب؛ فالنظامان التيخوني والكوپرنيكي متطابقان رياضياتيا. وهكذا استبقى <براهي> في نظامه أيضا الأناقة الرياضياتية الكوپرنيكية التي اعتقد أنها تلتف حول كل ما هو ناقص ومتنافر في نظام <بطليموس>.
وعندما بدأ <گاليليو> ينظر إلى السماوات بمقرابه، حقق عددا من الاكتشافات المناقضة بشكل مباشر لعلم الكونيات البطليمي القديم. إذ رأى أقمارا للمشتري مبرهنا على إمكانية أن يُؤوي الكونُُ أكثرَ من مركز واحد للحركة. وشاهد أيضا أطوار كوكب الزهرة مُبيّنا أنها تدور حول الشمس. ومع ذلك، لم تُفْهَم تلك الاكتشافات على أنها دليل على دوران الأرض حول الشمس؛ لأنها جميعا كانت متوافقة بشكل كامل مع النظام التيخوني.
حـجـة الــ200 سـنـة(*****)
في أواسط القرن السابع عشر، وبعد وقت طويل من وفاة الرواد أمثال <كوپرنيكس> و<براهي> و<گاليليو>، نشر الفلكي الإيطالي <B .G. ريتشيولي>(24) تقييما موسوعيا للخيـــارات الكونيـــة. وسمّى موســـوعـتــه تيمنــا بالكتاب العظيم ل<بطليموس>: ”Almagestum Novum“ . وقد وازن <ريتشيولي> العديد من الحجج المؤيدة والمضادة للنظام الكوپرنيكي، فهي حجج تتناول قضايا في الفلك والفيزياء والدين. لكن <ريتشيولي> رأى أن اثنتين من الحجج الرئيسية المطروحة رجحتا التوازن بشكل حاسم ضد <كوپرنيكس>. وقد استندت كلتاهما على اعتراضات علمية. وكان لكليتهما جذور في آراء <براهي>. ولم يُجَب عن أيٍّ منهما إجابة قاطعة إلاّ بعد بضع مئات من السنين.
وقد اُستُنِدت إحدى الحجج إلى عدم قابلية استبيان تأثيرات معينة, كان <ريتشيولي> قد قال إنه يجب أن يُحدِثُـها كوكب دوار على مسارات القذائف والأجسام الساقطة. وكان <براهي> يشعـر بأن أرضا دوارة يجب أن تحرف قذيفة عن مسارها المستقيم. لكن سوف لن تشاهد هذه الانحرافات حتى القرن التاسع عشر، عندما استنتج العالم الفرنسي <G .G. كوريوليس>(25) وصفا رياضياتيا كاملا لمثل هذه التأثيرات.
لقد كانت الحجة الأخرى هي تلك التي وضعها <براهي> حول حجم النجوم والتي أجرى <ريتشيولي> تحديثا عليها بمشاهدات مقرابية. ومن الجدير بالذكـر أن <براهي> قام ببحوثه من دون استخدام مقراب. و<ريتشيولي> بتصميمه نهجا قابلا للتكرار لقياس أقطار النجوم، وجد أنها تبدو أصغر مما كان يظن <براهي>. ولكن المقراب زَيَّدَ أيضا الحساسية للتزيح السنوي الذي لم يكن قد اُستُبينَ بعد؛ مما يقتضي أن النجوم لا بد أن تكون أبعد حتى مما افترض <براهي>. بأي حال من الأحوال، كانت النتيجة النهائية أن على النجوم أن تبقى تيـتـانـيـة titanic مثلما قال عنها <براهي>.
لقد تذمر <ريتشيولي> من التفاف الكوپرنيكيين حول هذه المشكلة العلمية بالتجائهم إلى تعليلها بالقدرة الإلهية اللامنتهية، فقد صَعُب على <ريتشيولي> ككاهن يسوعي نكرانَ سلطة الله. لكنه مع ذلك رفض نهجهم بقوله: «حتى إذا كان هذا الافتراء لا يمكن دحضه، فإنه مع ذلك لا يستطيع، إرضاء من هم أكثر تعقلا.»
بدلا من تخلي الكوپرنيكيين عن نظريتهم في مواجهة ما يبدو أنها أدلة فيزيائية دامغة، اضطروا إلى اللجوء إلى القدرة الإلهية القادرة على كل شيء. |
وهكذا عُرقل القبول بالكوپرنيكية لافتقارها إلى أدلة علمية صلبة للتثبت من ادعاءاتها التي تكاد لا تصدق حول ضخامة المقاسات الكونية والنجمية. وفي عام 1674 أقرَّ <R. هوك> (26) القيِّمُ على التجارب في الجمعية الملكية البريطانية بقوله: «سواء أكانت الأرض متحركة أو ثابتة، فمنذ أن أحياها <كوپرنيكس> بقيت مشكلة تروّض عقول أفضل الفلكيين والفلاسفة المعاصرين، ومع ذلك لم يجد أي منهم علامة معينة تُرجح إحدى الحالتين.»
وفي زمن <هوك> قَبِلـت أغلبية متنامية من العلماء بمبدأ الكوپرنيكية. فقد فعلوا ذلك، إلى حد ما، على الرغم من الصعوبات العلمية القائمة في ذلك الزمن. ولم يسجل أحد منهم التزيح السنوي النجمي تسجيلا مقنعا ألاّ بعد أن أجراه <F. بسيل>(27) في عــام 1838. وحـوالي ذلــك الــزمـــن، قــــدّم <G. إيري> (28)أول تفسير نظري كامل للسبب الذي يجعل النجوم أوسع عرضا مما هي عليه في الواقع، وكان <F. رايخ> أول من نجح في تبيان أن الأجسام الساقطة تنحرف بتأثير دوران الأرض. و كذلك فيزياء <إسحق نيوتن> – التي لم تتواءم مع نظام <براهي> – وفرت بالتأكيد منذ مدة طويلة تفسيرا لكيفية تَمكّنُ الأرض – الضخمة الكسولة حسب <براهي> – من التحرك.
إلى جـانـب أولئـك المعـارضين للكوپرنيكية في أيام <گاليليو> و<ريتشيولي>، هناك عِلمٌ مبنيٌ على مشاهداتٍ رصينةٍ ومتماسكة للغاية. ومع ذلك ثَبَت في النهاية أنهم كانوا مخطئين. لكن هذا لا يجعلـهم علماء غير جيدين. ففي الحقيقة، إن الدحض الجدّي لحجج قوية لآخرين كان ولا يزال جزءا من التحدي(29)، إضافة إلى أنه يشكـل جزءا من متعة القيام بعمل علمي.
المؤلفان
Dennis Danielson – Christopher M. Graney | ||
<دانيالسون> أستاذ اللغة الإنكليزية في جامعة كولومبيا البريطانية في كندا. ومن اهتماماته دراسة ”المعنى الثقافي للثورة الكوپرنيكية“. فقد كان مؤخرا زميلا زائرا في تاريخ العلوم بجامعة لودڤك ماكميلان في ميونخ.
<گراني> أستاذ الفيزياء والفلك في كلية مجتمع جيفرسون التقنية في لويزيانا بولاية كنتاكي الأمريكية. وقد قام هو وزوجته <كريستينا> بترجمة نصوص القرن السابع عشر المتعلقة بعلم الفلك من اللغة اللاتينية. |
مراجع للاستزادة
Measuring the Universe: Cosmic Dimensions from Aristarchus to Halley. Albert Van Helden. University of Chicago Press, 1985.
The Telescope against Copernicus: Star Observations by Riccioli Supporting a Geocentric
Universe. Christopher M. Graney in Journal for the History of Astronomy, Vol. 41, No. 4, pages 453–467; November 2010.
Ancestors of Apollo. Dennis Danielson in American Scientist, Vol. 99, No. 1, pages 136–143; March–April 2011.
Stars as the Armies of God: Lansbergen’s Incorporation of Tycho Brahe’s Star-Size
Argument into the Copernican Theory. Christopher M. Graney in Journal for the History of Astronomy, Vol. 44, No. 2, pages 165–172; May 2013.
(*)THE CASE AGAINST COPERNICUS
(**)BRAHE’S NEW COSMOLOGY
(***)The Cosmos Three Ways
(****)The Problem with Star Sizes
(*****)THE 200-YEAR ARGUMENT
(1) the “geoheliocentrism” system of Tycho Brahe
(2) أي المنظمة الأوروبية للبحوث النووية.
(3) neutrinos؛ ج: نترينو.
(4) Gran Sasso National Laboratory
(5) Andromeda
(6) (1543-1473) Nicolaus Copernicus: راهب كاثوليكي ورياضياتي وفيلسوف وفلكي پولندي، ويعتبر مؤسس علم الفلك الحديث.
(7) (161-90) Claudius Ptolemy: رياضياتي وجغرافي وفلكي ومنجم, ويرجح أنه يوناني عاش في الإسكندرية. له كـتب عديدة التي كان لها تأثير كبير في علوم الحضارة العربية الإسلامية وعلى الأوروبية الأولى. وأهم كتبه Almagest أي «الأطروحة العظمى» التي ترجمت إلى العربية باسم «المجسطي».
(8) De Revolutionibus Orbium Coelestium
(9) geocentrism system
(10) Galileo
(11) (1601-1546) Tycho Brahe: إضافة إلى عبقريته في مشاهداته الفلكية، فقد كانت حياته ملأى بحوادث طريفة منها فقدانه جزءا من أنفه بمبارزة بسبب خلاف حول صيغة رياضياتية. (التحرير)
(12) الإدارة الوطنية للملاحة الفضائية والفضاء؛ National Aeronautics and Space Administration.
(13) (1630-1571) Johannes Kepler: رياضياتي وفلكي وفيزيائي ألماني، وكان مساعدا لـ<براهي>. يُعدّ أول من وضع قوانين لوصف حركة الكواكب حول الشمس ومبينا أن الحركة ليست على شكل دائرة كما ادعى <كوپرنيكس> و <گاليليو>، وإنما هي على شكل إهليليجي، تقع الشمس عند إحدى بؤرتيه.
(14) Newtonian physics
(15) aethereal torches
(16) dark matter
(17) dark energy
(18) diurnal parallax
(19) عُرُض جمع عَرْض. (التحرير)
(20) أو: دوائر صغيرة.
(21) كان <كوپرنيكس> يُسمّي قطر مدار الأرض باللغة اللاتينية orbis magnus.
(22) titanic stars
(23) نسبة إلى <تيخو براهي>.
(24) (1671-1598) Giovanni Battista Riccioli: عالم فلك إيطالي وقس كاثوليكي يسوعي.
(25) (1843-1792) Gaspard-Gustave de Coriolis: رياضياتي فرنسي، ويسمى تأثير دوران الأرض على الأجسام المتحركة باسمه: «<تأثير كوريوليس>».
(26) (1703-1635) Robert Hooke: عالم موسوعي بريطاني عاصر <إسحق نيوتن>.
(27) (1846-1784) Friedrich Bessel: رياضياتي وفلكي ألماني، ومشهور في مجال الرياضيات لوضعه الدوالّ المسماة دوال بيسل.
(28) (1892-1801) George Airy: فلكي بريطاني كان مديرَ مرصدِ گرينتش.
(29) ربما يشير المؤلفان في العبارة « …كان وما زال جزءا من التحدي» إلى مسلسل تلفزيوني شهير بعنوان ”The challenge“. (التحرير)