الحياة الداخلية للكواركات
الحياة الداخلية للكواركات(*)
ماذا لو كانت أصغر مكونات المادة تؤوي فعليا عالَماً من الجسيمات غير المكتشفة؟ <D. لنكولن>
العالَم مكان معقد غامض ودقيق. نستطيع الحركة بسهولة عبر الهواء، مع أننا لا نستطيع الحركة عبر جدار. والشمس تطافر transmute عنصرا إلى آخر؛ مما يجعل كوكبنا يستحم بالدفء والضوء. فقد حملت الموجات الراديوية صوت الإنسان من سطح القمر إلى الأرض, في حين يمكن لأشعة گاما gammaأن تخرِّب دنا DNA الإنسان تخريبا قاضيا. وللوهلة الأولى، يبدو أن هذه الظواهر المتفاوتة ليس لبعضها علاقة ببعضها الآخر، غير أن الفيزيائيين كشفوا النقاب عن بضعة مبادئ لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد تلتحم بنظرية رفيعة البساطة لتفسر جميع هذه الظواهر وغيرها كثير. وهذه النظريةُ تدعى النموذجَ المعياري لفيزياء الجسيمات(2)، وهي تغلّف القوى الكهرطيسية(3) التي تجعل الحائط يظهر صلبا، والقوى النووية التي تحكم طاقة الشمس، وعائلة الموجات الضوئية المتعددة التي تجعل الاتصالات الحديثة ممكنة والتي تهدد حياتنا أيضا. إن النموذج المعياري(4) هو أحد أبرز النظريات الناجحة نجاحا لافتا التي ابتكرت حتى الآن. فهي تفترض في جوهرها، وجود صنفين من الجسيمات المادية غير القابلة للانقسام هما: الكواركات quarks واللّبتونات leptons. وتكوّن الكواركات بأنواعها المختلفة البروتونات والنترونات، وأن أكثر اللبتونات المألوفة هو الإلكترون. ويمكن للمزيج الصحيح من الكواركات واللبتونات أن يشكل أية ذرة، وإذا ما وسّعنا ذلك يمكن أن يشكل أي نوع من أنواع المادة الموجودة في الكون universe. وترتبط مكوّنات المادة هذه معا بأربع قوى – نوعين مألوفين: الثقالة gravity والكهرطيسية the electromagnetic، ونوعين أقل ألفة هما: القوتان النوويتان الشديدة والضعيفة. ويتوسط تبادل واحد أو أكثر من الجسيمات المعروفة بالبوزونات القوى الثلاث الأخيرة، لكنّ جميع محاولات معاملة الثقالة وفق هذا الواقع الميكروي باءت بالفشل. إضافة إلى ذلك، فإن النموذج المعياري يترك بعض الأسئلة الأخرى من دون أجوبة مثل: لماذا لدينا أربع قوى وليس عدد آخر؟ ولماذا يوجد نوعان من الجسيمات الأساسية وليس نوع واحد فقط يتناول كل شيء؟ فهذه مسائل تعدّ شائكة. ومع ذلك، فإن أحجية أخرى مختلفة لفتت انتباهي مدة طويلة كما لفتت انتباه العديد من الفيزيائيين الآخرين؛ إذ يَنظر النموذج المعياري للكواركات واللبتونات على أنها غير قابلة للتقسيم، مع أنه ويا للمفاجأة، تشير دلائل مختلفة إلى أنها مكونة هي نفسها من مركّبات أصغر منها. وإذا كانت الكواركات واللبتونات ليست أساسية أولية على الإطلاق وتوجد مكونات أصغر منها في الواقع، فإن وجودها يجبرنا على مراجعة نظرياتنا مراجعة موسّعة. وكما كانت الطاقة النووية غير قابلة للتصديق قبل اكتشاف <رذرفورد> بنية النواة عام 1911، كاشفا النقاب عن طبقة تحت ذرية(5)أخرى، فإن هذا سيكشف عن ظواهر لا نستطيع تصورها الآن. والبتّ في هذه القضية يتطلب من العلماء أن يصدموا جسيمات بعضها ببعض عند طاقات عالية جدا. ومنذ مشاهدتنا للكواركات في سبعينات القرن العشرين تنقصنا الأدوات التي قد تسمح لنا بالنظر داخل الكواركات بعمق. لكنه الآن مع وجود المصادم الهادروني الضخم (LHC) ا(6) في سيرن قرب جنيڤ – وهو الآلة نفسها التي وجدت مؤخرا دليلا على وجود بوزون هيگز Higgsboson، آخر الجسيمات غير الموثّقة في النموذج المعياري – ومع المكاسب المتسارعة لهذا المصادم؛ يمكن أن يكون المصادم بقدر هذه المهمة. فجوات بين الأجيال(**) ظهرت أول إشارة على وجود بنية الكواركات واللبتونات نتيجة البحث في سؤال شائك آخر – ما زال من دون جواب – يتعلق بعدد الأنواع المختلفة من الكواركات واللبتونات التي تم اكتشافها. وتتكون البروتونات والنترونات من نوعين من الكواركات يدعيان الكوارك العلوي up quark والكوارك السفلي downquark. ويمتلك الكوارك العلوي +2/3 (ثلثي) الشحنة الكهربائية الموجبة للبروتون، في حين يمتلك الكوارك السفلي -1/3 (ثلث) الشحنة السالبة للبروتون. ومع أن هذين النوعين من الكواركات فقط كافيان، إضافة إلى الإلكترونات، لتكوين مادة الكون، فقد شوهدت كواركات أخرى. فالكوارك الغريبstrange quark له شحنة الكوارك السفلي نفسها لكنه أثقل منه. وكوارك القاعbottom quark هو نوع أثقل من كليهما. وبالمثل، فإن الكوارك الفاتن charm quarkابن عم الكوارك العلوي أثقل منه، ومع كوارك القمة top quark الفائق الثقل تكتمل عائلة الكوارك العلوي. لقد شاهد فيزيائيو الجسيمات جميع هذه الكواركات، غير أن الكواركات الأربعة الثقيلة تضمحلّ (تتفكك)، في غضون أجزاء من الثانية لتعطي الكواركين الأخف.
ويمتلك الإلكترون أيضا أولاد عمومة ثقيلين غير مستقرين هما: الميون themoun واللبتون تاو tau lepton الأثقل من كليهما، ويمتلك كل منهما الشحنة نفسها التي يمتلكها الإلكترون. وتتضمن وحوش الجسيمات المعروفة ثلاث نسخ من نترينوهات neutrinos، جميعها فائقة الخفة ومعتدلة كهربائيا. وهذا المنعطف قاد الفيزيائيين بصورة طبيعية إلى السؤال التالي: إذا كان الكوارك العلوي والكوارك السفلي والإلكترون هو كل ما نحتاج إليه من الجسيمات بالضرورة لبناء كون، فلماذا تمتلك هذه الجسيمات مثل هذا العدد الكبير من أولاد عمومتها؟ ويمكن للسؤال أن يُغلَّف بغلاف كتعليق الفيزيائي الفائز بجائزة نوبل <I .I. رابي> الذي كثيرا ما يَستشهد به عندما علم باكتشاف الميون: «من نظّم هذا؟» فقد كانت إحدى طرائق العلماء في معالجة غموض عائلات الجسيمات المشهورة هي إنشاء خريطة تبرز جميع سمات الجسيمات الأولية المعروفة [انظر للإطار “النوذج المعياري”] بصورة مشابهة لجدول العناصر الكيميائية الدوري. وقد عرض الجدول الدوري على الفيزيائيين أولى الإشارات على أن العناصر الكيميائية قد لا تكون أساسية وأن الأنماط المنهجية لبنية الذرات الداخلية قد تفسر الخواص المتشابهة بين العناصر، وعلى الخصوص الأسطر والأعمدة فيه.
ويمتلك جدول الكواركات واللبتونات ثلاثة أعمدة تدعى أجيالا generations(التي هي سبب تسمية غموض تضاعف الجسيمات الآن على أنها مسألة الأجيال). إذ يتضمن الجيل I، أقصى اليسار، الكوارك العلوي والكوارك السفلي إضافة إلى الإلكترون ونترينو الإلكترون electron neutrino – وهذا كل ما نحتاج إليه لتفسير عالمنا المألوف. ويحوي الجيل II نسخا أثقل إلى حدٍّ ما من الجسيمات نفسها: في حين يمتلك الجيل III أثقل الجسيمات جميعا. ويعامل النموذج المعياري الكواركات واللبتونات كجسيمات شبه نقطية من دون بنية داخلية على الإطلاق. غير أن الأنماط ضمن الجدول، كما هي الحال في الجدول الدوري الكيميائي، تبرز احتمال وجود اختلافات بين الأجيال منشؤها تشكيلات لقوالب بناء للمادة أصغر منها ضمن الكواركات واللبتونات. مع حلول القرن العشرين، ظهرت سابقة تاريخية مماثلة قد تكون لها علاقة بالبحث عن البنية المرجوة للكواركات، وهي اكتشاف الاضمحلال (التفكك) الإشعاعي. فعبر عملية لم تكن مفهومة حينها يمكن لعنصر أن يتطافر إلى عنصر آخر. إذ إننا نعرف الآن أنه من الممكن تحقيق هدف خيميائيي alchemistsالعصور الوسطى في تحويل الرصاص إلى ذهب بتغيير عدد البروتونات والنترونات في النواة. إن مجال التطافرات الممكنة أعم من هذا بكثير، ويمكن لخيميائي نووي أن يقلب النترون إلى بروتون (أو العكس) بتغيير هوية الكواركات المركبة له. ويحدث هذا التحويل عن طريق القوة النووية الضعيفة التي يمكنها تطفير اللبتونات، مع أنه من غير الممكن تحويل الكواركات إلى لبتونات أو العكس بالعكس. وبالضبط كما يعكس قلب عنصر إلى آخر عَمَلَ الداخلِ المعقد للذرة، فكذلك يمكن للتحول النظري المرتقب للكواركات واللبتونات أن يزودنا بدليل آخر على ما يحدث داخل هذه الجسيمات جزء وجسيم(****) لقد ظهر العديد من قوالب البناء الافتراضية للكواركات واللبتونات ولكل منها اسم مختلف، لكن المصطلح «بريون» preon صُكَّ ليضعها جميعها. وفي معظم الحالات ينطبق الاسم نفسه على مركّبات الجسيمات الحاملة للقوى الفاعلة في مكونات المادة هذه. وكمثال يوضح ذلك، لننظر في نموذج قدّمه <H. هراري> الذي كان يعمل في مركز مسرّع ستانفورد الخطي عام 1979، كما قدمه مستقلا عنه في الوقت نفسه <A .M. شوب> الذي كان يعمل في جامعة إيلينوي بأوربانا- شامبين، وقد وسّعه <هراري> وطالبه <N. سيبرگ> عام 1981 اللذان كانا يعملان حينذاك في معهد وايزمان للعلوم بريڤوهوت [انظر للإطار “البريونات للمبتدئين”]. فقد افترضوا وجود نوعين من البريونات: واحد منهما يحمل شحنة كهربائية قدرها +1/3 وآخر يحمل شحنة قدرها صفر؛ وإضافة إلى ذلك، يوجد لكل نوع منهما مرافق مادّي مضاد ذو شحنة معاكسة: -1/3 وصفر على الترتيب. وهذه البريونات هي فرميونات – جسيمات مادة – ويحتوي كل كوارك أو لبتون على مزيج فريد من ثلاثة بريونات ينفرد به. وعلى سبيل المثال، يصطنع الكوارك العلوي من بريونين شحنة أحدهما +1/3 وشحنة الآخر صفر، بينما يحتوي المرافق المادي المضاد للكوارك العلوي على بريونين شحنة كل منهما -1/3 وآخر شحنته صفر. في حين أن البوزونات الحاملة للقوة تتألف من تراكيب متفردة من ستة بريونات. فللبوزون W الموجب الشحنة، على سبيل المثال، الذي يحمل القوة النووية الضعيفة التي تتفاعل بها الكواركات واللبتونات كلتيهما، ثلاثة بريونات +1/3 وثلاثة أصفار. لقد افترض <هراري> و<شوب> بتطبيق سلسلة من الافتراضات المعقولة، أن البريون يتسع لجميع جسيمات الجيل الأول. كما يمكن لقوالب البناء نفسها أن تأخذ بالحسبان الگلوونات gluons، تلك الجسيمات تحت الذرية(7) التي تتوسط القوة النووية الشديدة؛ فتربط الكواركات معا داخل البروتونات والنترونات، إضافة إلى البوزونات حاملة القوى الأخرى.
إن الحيلة الدقيقة لصياغة أية بنية مطلوبة للكواركات وللبتونات وللبوزونات المعروفة جيدا، هي ضرورية حتى يمكن تفسيرها لجميع التآثرات الهائلة العدد بين تلك الجسيمات والقوى. وبالفعل، يمكن للبريونات أن تزودنا بلغة معقولة لوصف العمليات تحت الذرية. وعلى سبيل المثال، لننظر في كوارك علوي يتصادم بمضاد مادي لكوارك سفلي معطيا البوزون W موجب الشحنة الذي يضمحلّ فيعطي مضادا ماديا للإلكترون، أو بوزيترون، ونيوترينو الإلكترون. فوفق نموذج البريون الذي ابتكره <هراري> و <شوب>، فإن الكواركات القادمة مع مركباتها الثلاثة لكل منها تتآلف عند التصادم لتولّد البوزون W الذي يحوي الآن ثلاث شحنات +1/33 و ثلاث شحنات صفرية. ومن ثم، يتفكك البوزون W لافظا تشكيلة مختلفة للبريونات الستة نفسها: بوزيترون واحد (مع ثلاث شحنات +1/33) ونيوترينو الإلكترون (مع ثلاث شحنات صفرية). ناقشتُ، حتى الآن، ما يمكن تسميته تعداديات numerology الكواركات واللبتونات. فهذا ليس إلا لعبة عدّ تشبه موازنة معادلات كيميائية أو رياضياتية، غير أنها موازنة جدّية مهمة ممكنة. ولكي يكون نموذج البريون ناجحا يجب أن يُفسر الكواركات واللبتونات بعدد قليل من قوالب البناء ومعها بضع قواعد حاكمة لها. فالأمل المستهدف هو إيجاد ترتيب مناسب يوحّد الجسيمات المختلفة توحيدا ظاهريا وليس منظومة تعاريف خاصة بهذه المسألة تفسر خواصها وفق قاعدة كل حالة على حدة. وقد أنجزت البريونات هذا التفسير وفق نموذج <هراري> و<شوب> والنماذج الأخرى الناجحة المنافسة له. غير أنه يمكنك ملاحظة أن المناقشة حتى الآن تتناول الجيل الأول من الكواركات واللبتونات. إذ تصبح الأشياء أكثر قتامة عندما نحول انتباهنا إلى الجيلين الثاني والثالث. فضمن نموذج <هراري> و<شوب> المقترح، تُفترَض الأجيال العليا بأنها حالات مثارة لتشكيلات جسيمات الجيل الأول. تماما كما هي الحالة عندما يقفز إلكترون من مستوى طاقة أول إلى مستوى طاقة آخر في الذرات، ويظنّ أن آلية غير معروفة تربط البريونات معا بطريقة تسمح بوجود أجيال مضاعفة من الجسيمات المكوّنة نفسها. وإذا بدا لك أن هذا التفسير يشبه الحياكة باليد، فهو فعلا كذلك. إذ إننا لم ننجز العديد من التفصيلات. وإن الدراسات النظرية التي اقترحت فكرة الكواركات للمرة الأولى كان لها مستوى التعقيد نفسه. فلم تُوصف رياضياتيا القوةُ الشديدة التي تربط الكواركات معا لتكوّن البروتونات والنترونات إلّا متأخراً. ومع ذلك، تبقى مسألة الأجيال مختبئة غير مفسّرة، لذلك فقد اقترح عدد من الفيزيائيين نماذج متنافسة، بما فيها نموذج يحمّل أحد البريونات عددَ جيلٍ، إضافة إلى عدد شحنة جديد يدعى اللون الفوقي(8) يربط البريونات داخل الكواركات واللبتونات. مع أنني وصفت نظرية واحدة للبريونات، لذا عليك ألا تنخدع بالتفكير في أنها النظرية الوحيدة الموجودة. إذ إن زملائي النظريين أذكياء وخلاّقون جدا. وبالتحديد فقد كتبت مئات النشرات تقترح نماذج أخرى للبريونات، مع أن هذه النماذج تكون غالبا تغييرات طفيفة لنماذج أساسية محدودة العدد لها الإيقاع نفسه. فبعضها يفترض أن للبريونات شحنة مقدارها 1/6 وليس 1/3 كما في نموذج <هراري> و <شوب>. وآخرون يفترضون وجود خمسة بريونات في الكواركات واللبتونات مقابل الثلاثة. كما يقترح البعض الآخر خليطا من بريونات فرميونية وبريونات بوزونية أو محتوى مختلفاً من البريونات للبوزونات عما هو عليه الجدول السفلي في الإطار “البريونات للمبتدئين”. في الواقع إن الاحتمالات غنية جدا، ونحتاج نحن الفيزيائيين إلى بيانات dataإضافية تساعدنا على تنقية البدائل. إن ما وراء الملاحظة المدهشة الذاتية القائلة بوجود قسيمات مادية قد تكون أصغر من أصغر الجسيمات الصغيرة المعروفة الآن، ويهتم العديد منا بالبريونات لسبب آخر. فإذا كانت موجودة قد يكون لها ما تقوله بخصوص مسألة غامضة بارزة أخرى في فيزياء الجسيمات. إذ يفترض النموذج المعياري أن حقل هيگز هو مصدر الكتلة للجسيمات الأساسية. فتشعر الجسيمات ذات الكتلة الكبيرة جدّا عبر تحركها في هذا الحقل الغامر بنوع من السَّحْبِ إلى الوراء، بينما تنزلق الجسيمات العديمة الكتلة كالفوتونات، خلاله من دون إزعاج. وإذا كانت البريونات التي تكوّن الجيلين الثاني والثالث هي نفسها التي تكوّن الجيل الأول، فإن ذلك سيدعو إلى الظن بمقدرة البريونات على جعل جسيمات الأجيال العليا تتآثر مع حقل هيگز تآثرا أقوى مما هو عليه في الجيل الأول، معطية بذلك الأجيال العليا كتلها الأكبر. ففي حين يمكن لآلية هيگز أن تفسر اكتساب الجسيمات لكتلها، فإنها لا تستطيع التنبؤ بقيمها. وحتى توضع نظرية جديدة أعمق من النموذج المعياري, يمكن تعيين كتل الجسيمات تحت الذرية بقياسها فقط واحدة تلو الأخرى. فمن حيث المبدأ، سنتعلم عبر فهمنا لبنية الكواركات واللبتونات واختلافات الأجيال الوصولَ إلى فهم أفضل لآلية هيگز. حفرٌ وتحويلات على الطريق(******) عليّ الإشارة إلى أن نظرية البريونات ليست خالية من مشكلاتها. فللمبتدئين نقول إن جميع الجهود التجريبية لرؤية البريونات باءت بالفشل. وهذا الفشل محبط، لكن يمكن أن يكون منشؤه ببساطة عدم كفاية التجهيزات المتاحة. وإذا وضعنا الأسئلة التجريبية جانبا، نجد بعض هموم النظرية الذاتية. إنها سمة طبيعية «لنظريات الحصر»، وهي تدعى كذلك لأن البريونات محصورة داخل فضاء الكواركات واللبتونات، لأن الكتل المقابلة تكون متناسبة تناسبا عكسيا مع حجم الحصر. وبما أن الكواركات واللبتونات أصغر بكثير من البروتونات، فإن ما تعنيه هذه القاعدة أن الكوارك المكوّن من البريونات المحصورة ستكون كتلته أكبر من كتلة البروتون الذي يتكون هو نفسه من كواركات. ومن ثم، فإن البروتون برمّته سيكون أقل من مجموع أجزائه وأقل بالفعل من الأجزاء الإفرادية نفسها. مع أن هذه المسألة تبدو غير ممكنة التجاوز، فقد تمكّن الفيزيائيون من الاستدارة حول معضلة مماثلة مرتبطة بالبوزونات. ويمكن لكوارك ومضادّ الكوارك مثلا تكوين بوزون يدعى الميزون پاي pi meson، حيث يمكن لمتطلب الحصر أن يكون لغزا. غير أنه باستعمال فكرة وضعها <J. گولدستون> عام 1961 الذي كان يعمل في سيرن آنئذ، تبين للنظريين منذ أمد طويل أنه يمكن للتناظرات في نظرية قيد الدراسة تجاوز هذه الصعوبة. لذلك، لم تكن خفة كتلة البوزون پاي مفاجئة حقا. غير أنه لسوء الحظ، فإن هذه المقاربة تصح للبوزونات فقط ولا تصح للفرميونات مثل الكواركات. مع ذلك، وفي عام 1979 وضع <G. هوفت> [من جامعة أوترخت بهولندا] مقاربة مرتبطة بتلك المقاربة تعمل في حالة الفرميونات. ويبقى ما إذا كان مفهوم <هوفت> يصح في حالة الجسيمات الحقيقية غير واضح، إلاّ أن أفكاره بيّنت على الأقل أن معوقات طريق كتل الكواركات النظرية ليست عصية على التجاوز كما ظهرت للوهلة الأولى. لم تكن البريونات الساحة الوحيدة التي حاول الفيزيائيون اكتشافها آملين بإيجاد حلٍ لمسألة الأجيال. فمن البدائل البارزة فكرةُ الأوتار الفائقة التي فيها قوالب بناء المادة النهائية ليست الجسيمات تحت الذرية، وإنما أوتار مهتزة مرهفة جدا. ومجازيا، يمكن النظر إلى كل جسيم من جسيمات النموذج المعياري على أنه وتر يعزف نغما مختلفا وأن كل الحقيقة عبارة عن أوركسترا من الأوتار الفائقة تعزف سمفونية الكون العظيمة. ولحسن الحظ، يمكن للبريونات والأوتار الفائقة أن توجدا معا وجودا وديا، لأن مقياس حجم الأوتار الفائقة أصغر بكثير من حجوم الكواركات واللبتونات. وإذا كانت الأوتار الفائقة موجودة، فيمكنها أن تصنع ليس فقط الكواركات واللبتونات بل البريونات أيضا وحتى ما قبل البريونات بل ما قبل قبل البريونات، معتمدة على عدد طبقات البصل المادية غير المكتشفة.
وفي عام 2005، ظهرت فكرة بديلة أخرى لفكرة البريونات الطبيعية لجسيمات أيضا، مع أنها غير مكتشفة، عندما ابتدع <S. بيلسون – تومسون> [من جامعة أديلايد في جنوب أستراليا] طريقة تصف البريونات كجدائل ملتفة من الزمكان space-time. وما زال هذا النموذج في طفولته، ولكن الفيزيائيين يكتشفون مضامينه، أقلها بسبب أنه يعرض طريقا آخر محتملا لمكاملة نظرية الثقالة الكمومية مع النموذج المعياري التي طال انتظارها. برهان في مهلبية البريونات(*******) إن الفيزياء في النهاية علم تجريبي. فمهما كانت جودة النظرية وفشلت في اتفاقها مع القياسات، فذلك يعني أنها خاطئة. لذلك ماذا يستطيع التجريبيون فعله للبرهان على صحة وجود البريونات أو عدمه؟ ويصف النموذج المعياري بنجاح الكواركات واللبتونات والبوزونات في الكون دون إقحام البريونات، وعليه، يجب على الفيزيائيين البحث عن انحرافات دقيقة لتنبؤات النموذج المعياري – شقوق صغيرة في صرح الفيزياء الحديثة. ويبدو لنا أنه يوجد وجهان للنموذج يجذبان بصورة خاصة مساحتين للاكتشاف بعمق. الأول منهما هو الحجم، إذ يعامل النموذج المعياري الكواركات واللبتونات على أنها أشباه نقاط – أي إنها جسيمات حجمها صفر وليست لها بنية داخلية. وإن إيجاد حجم غير الصفر لهذه الجسيمات سيزودنا بدليل واضح على وجود البريونات. وقد بيّنت القياسات أن للبروتونات والنترونات نصف قطر يقارب -15م10 متر. وقد بحثت تجارب مصادم الجسيمات الرائد الأول في العالم، في الماضي والمستقبل، عن دليل يظهر أن للكواركات وللبتونات حجما قابلا للقياس. وحتى الآن تتفق جميع البيانات مع حجم يساوي الصفر أو مع حجم غير معدوم يقع ما بين 0.0002 و 0.001 مرة أصغر من حجم البروتون. ولكي نميز بين هاتين الإمكانيتين (حجم يساوي الصفر مقابل حجم صغير صغير جدا) نحتاج إلى القيام بقياسات أكثر دقّة مما لدينا الآن. إن المصادمLHC هو آلة اكتشافات، وإن كمية البيانات الضخمة المتوقعة من التصادمات الجارية حاليا ومن تحسينات على طاقة المصادم المخطط لها هما طريقتان يمكننا أن نتوقع منهما تعرّف حجم الكواركات واللبتونات معرفة أفضل من الحالية.
وتوجد طريقة أخرى لإيضاح وجود بنية لجسيمات تحت ذرية – في حالة اللبتونات على الأقل – هي التحقق من مفهومي السبين والعزم المغنطيسي المرتبطين ارتباطا وثيقا بالحجم. إذ يمكن النظر إلى الإلكترون نظرة شاعرية معينة على أنه كرة تلفّ باستمرار، ويرفق الفيزيائيون تلك الخاصية كميا بالعدد الكمومي السبيني. وللإلكترون، مثل جميع الفرميونات، سبين يساوي 1/2. وبما أن الإلكترون مشحون كهربائيا، فإن تركيب السبين والشحنة يؤدي إلى عزم مغنطيسي، الذي هو طريقة عجيبة للقول إنها تحوّل الإلكترون إلى مغنطيس مألوف، له قطبان شمالي وجنوبي. وبافتراض أن اللبتون جسيم شبه نقطي مع سبين 1/2، فيجب أن يمتلك عزما مغنطيسيا محدّدا وحيدا. لذلك، إذا أدى قياس لإلكترون أو ميون إلى عزم مغنطيسي يختلف عن المتنبأ به، فإن هذه النتيجة ستقترح بقوة أن تلك الجسيمات ليست شبه نقاط، ومن ثم يمكن أن تكون مركّبة من بريونات. لقد عرف الفيزيائيون منذ أمد بعيد أن للإلكترون وللميون عزوما مغنطيسية تبتعد قليلا عما هو لجسيم شبه نقطي. وليس لهذا الابتعاد الصغير علاقة بالبريونات، وما زال يمكن تفسيره ضمن النموذج المعياري. إذ تحيط بكل لبتون وفق هذا النموذج غيمة متخامدة مما تدعى بالجسيمات الافتراضية(9)، حيث تومض داخلة خارجة من الوجود. وبما أن لهذه الغيمة حجما، فإنها تغير العزم المغنطيسي للبتون تغيرات طفيفة جدا – بما يقارب جزءا من ألف جزء. وإن آثار البريونات ستكون أصغر من ذلك بكثير لكنه قابل للكشف. وتلوح في الأفق قياسات مطروحة حاليا في مختبر فيرمي Fermilab لتجربة الميونg-2 ا(10) التي ستكون دقتها أفضل بأربع مرات من الدقة المتوفرة حاليا. وقد نقّب الفيزيائيون أيضا ضمن بيانات المصادم بحثا عن اضمحلالات (تفككات) جسيمات متوَقّعة، إذا كانت البريونات موجودة، إذا كانت أجيال الجسيمات العليا هي ببساطة حالات مثارة للجيل الأول. وكانت إحدى تلك العمليات هي اضمحلال الميون الذي يولد إلكترونا وفوتونا. ولم يلاحظ هذا الاضمحلال حتى الآن؛ وإذا ما صودف حدوثه فإنه سيحدث باحتمال واحدٍ من مئة بليون. وينسجم كل قياس مباشر أجري حتى الآن مع افتراض أن الكواركات واللبتونات هي فعلا أشباه نقاط لها سبين 1/2. فقد كانت العقود الأخيرة محبطة، مخيبة آمال من يعتقد منا أن الأجيال المشاهدة من الجسيمات تحت الذرية، هي مؤشر كيدي لفيزياء غير مكتشفة. ولكن لدينا الآن فرصة حقيقية لاستكشاف ساحة أفق جديد. ففي عام 2011 قام المصادم LHC بصدم حزمٍ من البروتونات طاقتها سبعة تريليونات إلكترون ڤلط (7 TeV)، طاقة أكبر ثلاث مرات ونصف من القيمة العالمية المسجلة (التي أنجزها تيڤاترون ومختبر فيرمي واحتفظ بها لأكثر من ربع قرن). وفي العام نفسه ولّد المصادم LHC بيانات تعادل في غزارتها نصف ما ولّده التيڤاترون(11) من تصادمات خلال عمر تشغيله كله البالغ 288 سنة. وفي عام 2012 رفعت سيرن CERN طاقة المصادم LHC إلى 8 TeV متوقعة تضاعف البيانات أربع مرات قبل أن يبدأ إغلاقه مؤقتا لمدة سنة ونصف لإجراء إصلاحات وتحسينات عليه. وسيستأنف المصادم LHC عمله أواخر عام 20144 أو أوائل عام 2015 ليصادم حزما بروتونية بطاقة 13 TeV أو 14 TeV وبخطوات أسرع بكثير. وقد تبدو الزيادة الصغيرة المتوقعة عام 2012 تعديلا طفيفا، لكنها ستعني الكثير لأبحاث البريونات. إذ إن التغير الصغير في طاقة الحزمة سيضاعف عدد التصادمات المسجلة عند الطاقات العليا خمس مرات؛ مما يسمح باختبار أصغر الحجوم، وهذه بالضبط الحوادث التي نحتاج إلى التحقق منها كدليل على البريونات. وستزودنا تحسينات عامي 2014 و 2015 بزيادة في إمكانات تأخذ الأنفاس. ويجري وفق برنامج مختبر فيرمي للأبحاث، إضافة إلى ما يجري في المصادم LHC، إعادة تكوين أساسية تتضمن مقدرة جديدة للبحث عن دليل مباشر يخص البريونات. وبما أن التيڤاترون قد فُكّك عام 2011، فلم تعد مسرّعات مختبر فيرمي هي الرائدة في جبهة الطاقة بفيزياء الجسيمات. وعوضا عن ذلك، فإن مختبر فيرمي يدفع باتجاه جبهة زيادة الكثافة بغية اكتشاف ظواهر فريدة بدقة غير مسبوقة. وستقيس تجربتان لهما علاقة وطيدة بالبحث عن البريونات العزمَ المغنطيسي للميون والتفتيش بحثا عن اضمحلال الميون المولّد لإلكترون وفوتون. إن مستقبل اصطياد بنية للكواركات وللبتونات أكثر إشراقا عما كان عليه لمدة طويلة. وفي غضون قراءتك لهذه المقالة أمشّط مع زملائي عبر بيانات المصادم LHC الضخمة التي تم الحصول عليها حتى الآن؛ باحثين عن بيّنة امتلاك الكواركات واللبتونات حجما لا يساوي الصفر. كما نفتش عن الجيل الرابع من الكواركات واللبتونات وعن دليل ما يؤدي إلى مفهوم أن جسيمات القوة تحمل أيضا أجيالا – أي أن للبوزونين W و Z اللذين يتوسطان فعل القوة النووية الضعيفة، أولادَ عمومة أثقل منهما. وستتّسم السنوات القليلة القادمة ببداية غزو جديد في العالم تحت الذري، رحلة كان آخرها ما صادفه الفيزيائيون منذ 25 عاما عندما بدأ التيڤاترون عمله. ومثل مغامري البارحة الجريئين يشق الفيزيائيون طريقهم قدما إلى الأمام مشيعين سبيلا إلى داخل الحدود الكمومية المتقدمة. المؤلف
مراجع للاستزادة
A Composite Model of Leptons and Quarks. Michael A. Shupe in Physics Letters B, Vol. 86, No. 1, pages 87–92; September 10, 1979. A Schematic Model of Quarks and Leptons. Haim Harari in Physics Letters B, Vol. 86, No. 1, pages 83–86; September 10, 1979. Preons: Models of Leptons, Quarks and Gauge Bosons as Composite Objects. Ian A. D’Souza and Calvin S. Kalman. World Scientific Publishing, 1992. The Quantum Frontier: The Large Hadron Collider. Don Lincoln. Johns Hopkins University Press, 2009.
(*)THE INNER LIFE OF QUARKS (**)GENERATION GAPS (***)THE PARTICLE LANDSCAPE (****)PART AND PARTICLE (******)POTHOLES AND DETOURS (*******)PROOF IN THE PREON PUDDING (********)ZOOMING IN
(1) the large Hadron Collider (2) the standard model of particle physics (3) the electromagnetic forces (4) The Standard Model (5) the subatomic (6) the large Hadron Collider (7) the subatomic particles (8) hypercolor (10) muon g-2 (11) the Tevatron |