بزوغ السماوات القصيّة
بزوغ السماوات القصيّة (*)
تعجُّ مجرتنا بالكواكب، ويبذل العلماء جهودا جبارة في البحث عن علامات
على وجود حياة في أجواء الكواكب الكائنة خارج المجموعة الشمسية.
<D .M. ليمونيك>
باختصار
كان ثمة اعتقاد شائع في السابق مفاده أن من المستحيل تقريبا دراسة أجواء الكواكب غير الشمسية البعيدة لأن سطوع النجوم التي تدور حولها شديد جدا. لكن بعد أن بدأ العلماء بدراسة الكواكب غير الشمسية أثناء مرورها خلف نجومها، أدركوا أن التغير الحاصل في السطوع النجمي يمكن أن يوفر فكرة عما تتكون منه تلك الأجواء. يستعمل الفلكيون الآن هذه التقنيات المتطورة لاكتشاف ذرات وجزيئات أجواء الكواكب غير الشمسية. وهم يأملون بتوسيع بحثهم قريبا ليشتمل على جزيئات سوف توفر دليلا على حياة نائية.
|
ليس من بين من كانوا هناك في ذلك الوقت، من العلماء الأكثر تمرسا في الفيزياء الفلكية إلى أقل المراسلين العلميين خبرة، مَن يمكن أن ينسى مؤتمرا صحفيا عقد أثناء الاجتماع الشتوي للجمعية الفلكية الأمريكية في San Antonioبتكساس في الشهر 1/1996.
فهناك أعلن <W .G. مارسي>، حينما كان يعمل راصدا في جامعة سان فرانسيسكو الحكومية، أنه وزميله في الرصد <P .R. بتلر> [وكان آنذاك في جامعة كاليفورنيا ببيركلي] قد اكتشفا ثاني وثالث ثلاثة كواكب وجدت حتى ذلك الوقت، تدور حول نجوم شبيهة بالشمس. صحيح أن اكتشاف أول كوكب من هذا النوع، وهو 51 Pegasi b، كان قد أعلن من قبل <M. ماير> و <D. كويلوز> [من جامعة جنيڤ] قبل بضعة أشهر، لكن الاكتشاف المنعزل قد يكون حدثا عرضيا أو مجرد غلطة. أما الآن، فقد أصبح بمقدور <مارسي> أن يقول بكل ثقة إن اكتشافه لم يكن أيا من الحالتين. وقد قال للحضور: «إن الكواكب ليست نادرة في الواقع.»
وأحدث الإعلان هزة في عالَم علم الفلك. فلم يكن أحد آنذاك تقريبا يبحث عن كواكب، لأن العلماء كانوا مقتنعين بأن العثور عليها عملية صعبة جدا. أما الآن، وبعد سبر بضعة نجوم فقط، اكتشف الفلكيون ثلاثة عوالم توحي أن ثمة البلايين منها بانتظار العثور عليها.
ولو أن ما قام به <بتلر> و <مارسي> هو مجرد حل لمسألة تتعلق بنظرية تكون الكواكب، لما حظي اكتشافهما بتلك الأهمية البالغة. لكنه بيَّن بطريقة قاطعة أن ما تسمى الكواكب غير الشمسية extrasolar planets موجودة فعلا، وأنه يوجد معها احتمال الإجابة عن سؤال طالما حير الفلاسفة والعلماء واللاهوتيين منذ حقبة قدماء الإغريق وهو: «هل نحن وحدنا الموجودون في العالم؟»
وبعد الاحتفال الأولي بالاكتشاف، بدأ العلماء بتخمين الطريقة الدقيقة التي ينبغي اتباعها للبحث عن شكل، ولو بدائياً، للحياة على كوكب يدور حول شمس غير شمسنا. وبعد مدة قصيرة من التقاط بث إذاعي من خارج المجموعة الشمسية، وجدت <جودي فوستر>(1) في فيلم «التماس» Contact ا(2) أن الطريقة الوحيدة لاستكشاف ذلك هي البحث عن وجود بصمات بيولوجية في أجواء الكواكب غير الشمسية، وذلك باعتبارها أدلة على جزيئات نشطة جدا، مثل الأكسجين، سرعان ما تختفي ما لم يقم نوع ما من المتعضيات المستقلبة(3)بالتعويض عن النقص الحاصل.
لكن <مارسي> و<ماير> وزملاءهما لم يروا سوى التأثير الثقالي(4) للكواكب في النجوم التي تدور حولها؛ فلكشف بصمة بيولوجية، لا بد من إجراء تصوير مباشر للكواكب من خارج جو الأرض. ولفعل ذلك، وضعت الوكالة ناسا NASA خطة لإطلاق سلسلة من المقاريب(5) الفضائية المتزايدة القدرات، وذلك ضمن برنامج سوف يبلغ أوجه بإطلاق مقراب يدور حول الأرض، يسمى مقياس التداخل الباحث عن كواكب شبيهة بالأرض(6)، ويمكن أن تصل تكلفته إلى بلايين الدولارات، وذلك في وقت ما من عشرينات هذا القرن. وباختصار، فقد أدرك الفلكيون أنهم لن يحصلوا على أي معلومة عن أجواء كواكب غير شمسية(7) في أي وقت قريب.
لكنهم كانوا مخطئين. فقد ألهم اكتشاف تلك الكواكب غير الشمسية القليلة الأولى جيلا كاملا من العلماء الشبان الانخراطَ فيما صار فجأة أهم تخصص في الفيزياء الفلكية. وأقنع ذلك كثيرا من زملائهم، الأكبر سنا، بالتحول إلى علم الكواكب غير الشمسية(8). وأنتج هذا التدفق المفاجئ للقدرات الفكرية أفكارا جديدة لدراسة أجواء الكواكب غير الشمسية، وسرَّع الأمور كثيرا. وبحلول عام 2001، توصل الرُّصاد observers إلى وجود الصوديوم في جو أحد الكواكب غير الشمسية. ومنذئذ اكتشفوا وجود الميثان وثنائي أكسيد الكربون وأحادي أكسيد الكربون والماء أيضا. حتى إنهم عثروا، خلال فحصهم لأجواء الكواكب غير الشمسية، على تلميحات غير مباشرة إلى أن بعض الكواكب قد يكون مكوَّناً جزئيا من الماس النقي. ويقول <H. كنوتسُن> [الاختصاصي بالفيزياء الفلكية من معهد كاليفورنيا للتقانة الذي شارك في كثير من هذه الأرصاد الرائدة]: «لقد تعلمنا حتى الآن شيئا عن أجواء نحو 30 إلى 50 كوكبا، من بينها كواكب لم يُنشر عنها أي شيء بعد.»
كسوف شمسي: يمكن لمقراب سپيتزر الفضائي(9) اكتشاف التغير البالغ الصغر في السطوع الذي يحصل حينما يمرّ كوكب خلف النجم الذي يدور حوله. |
لكن تلك الاكتشافات ما زالت بعيدة جدا عن توفير أدلة على وجود حياة، وهذا ليس مفاجئا لأن معظم العوالم التي يتحدث عنها <كنوتسن> هي كواكب حارة كالمشتري تدور على مدارات قريبة من نجومها أكثر من قرب مدار كوكب عطارد الناري من الشمس. بيد أن <كنوتسن> ورصّادا آخرين قد بدؤوا، بوتيرة متزايدة، بسبر أجواء كواكب أصغر، تسمى الأراضي الفائقة(10) super-Earths، وهي أضخم من أرضنا بـ2 إلى 10 مرات، وهذا شيء لم يكن يتصوره أحد قبل مجرد عقد من الزمن. ومثَّل الإعلان في الشهر 4/2013 عن أن مقراب كپلر الفضائي(11) اكتشف كوكبين حجم كل منهما أقل من ضعف حجم الأرض، وكلاهما يسبحان في مدارين قد تسمح درجات الحرارة عندهما بوجود الحياة، تلميحا إضافيا إلى أن العوالم التي يمكن أن توجد عليها حياة كثيرة إلى درجة شبه مؤكدة. ومع أن هذين الكوكبين، اللذين سُميّا كپلر 62e وكپلر 62f، بعيدان جدا إلى درجة أنه تصعب دراستهما بالتفصيل، فإن الفلكيين مقتنعون بأنه لن تمر سنوات كثيرة قبل أن يتمكن الرصَّاد من البحث عن بصمات بيولوجية في أجواء كواكب هي توائم لأرضنا من حيث الجوهر.
مقراب في موقف للسيارات(**)
لقد اعتقد الفلكيون أنه سوف تنقضي عقود قبل البدء برصد أجواء الكواكب، لأن اكتشاف بضعة الكواكب غير الشمسية الأولى كان بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال تأثير كل منها في النجم الذي يدور حوله. فالكواكب ذاتها كانت غير مرئية، لكن نظرا لأن كل نجم وكوكبه يدوران حول مركز ثقل مشترك، فإن الجرّ الثقالي the gravitational tug للكوكب يجعل النجم يتأرجح في موقعه. وعندما يتحرك نجم باتجاهنا، فإن ضوءه ينزاح نحو الطرف الأزرق من طيف الضوء المرئي. وعندما يتحرك مبتعدا عنا، ينزاح الضوء نحو الطرف الأحمر. وتنبئ درجة الانزياح الرصاد بمقدار السرعة القطّرية للنجم(12)، أي سرعة اقترابه من الأرض أو ابتعاده عنها، وهذا ينبئنا بضخامة الكوكب غير الشمسي.
بيد أنه للعثور على الكواكب كان هناك أيضا خيار آخر. فإذا كان خط النظر بين الأرض والنجم موجودا في مستوي المدار غير المرئي للكوكب الذي يدور حول النجم، فإن الكوكب يمر أمام النجم مباشرة في ظاهرة تسمى عبوراًtransit. لكن في زمن تلك الاكتشافات الأولى قبل قرابة عقدين من الزمن، لم يكن سوى القليل من علماء الفيزياء الفلكية يفكر في ظاهرة العبور من حيث المبدأ، ويعود ذلك ببساطة إلى أن البحث عن الكواكب كان نفسه شيئا هامشيا(13).
وبعد بضع سنوات، في عام 1999، قام <W .T. براون> الذي كان آنذاك في المركز القومي لبحوث الجو و<D. شاربونو> الذي كان آنذاك خريجا حديثا في جامعة هارڤرد، ببناء مقراب صغير بحجم مقاريب الهواة، وذلك في موقف للسيارات في بولدر بكولورادو، ورأيا من خلاله عبور كوكب غير شمسي لأول مرة. وهذا الكوكب هو HD 209458b وهو الذي كان قد اكتشف سابقا باستعمال تقنية السرعة القُطْرية(14). وبعد بضعة أسابيع، شاهد <W .G. هنري> [من جامعة تينيسي الحكومية، الذي كان يعمل مع <مارسي>] الكوكب نفسه وهو يعبر أمام نجمه. وقد نسب الفضل في هذا الاكتشاف بالقدر نفسه إلى الفريقين، لأن الاكتشافين نُشرا في آن واحد.
ولم يوفر اكتشاف العبور الناجح طريقة ثانية للفلكيين للعثور على كواكب غير شمسية فحسب، بل زودهم أيضا بطريقة لقياس كثافتها. فقد مكنت تقنية السرعة القطرية من حساب كتلة الكوكب HD 209458b. ويعرف الفلكيون الآن حجمه لأن مقدار الضوء النجمي الذي يحجبه الكوكب يتناسب مباشرة مع مقاسه(15).
[كيفية العمل] ردة فعل كوكبي متأخرة(***) تحاول عمليات البحث الحديثة عن كواكب غير شمسية العثور عليها من خلال تقدير الانخفاض المميز في السطوع الذي يحدث حينما يمر كوكب أمام نجمه الذي يدور حوله (في اليمين). لكن إذا أردت معرفة مكونات جو الكوكب، فعليك أن تراقب الانخفاض الثاني الأصغر الذي يحدث عندما يمر الكوكب خلف نجمه. فهذا الكسوف يحجب ضوء النجم المنعكس؛ وبدراسة هذا الانعكاس، يستطيع الفلكيون تحديد التركيب الجزيئي للجو (في الأسفل). بحثا عن كوكب
بحثا عن جو
|
وبحلول هذا الزمن، كان عدد من علماء الفيزياء الفلكية قد أدرك أن العبور جعل أيضا دراسة أجواء الكواكب غير الشمسية ممكنة، وذلك من خلال ما سماه <كنوتسن> «مجازة مختصرة ذكية رائعة.» وحتى قبل إعلان العبور الأول في الواقع، كانت <S. سيگر> [اختصاصية في الفيزياء الفلكية بالمعهد M.I.T. ا(16)، وكانت آنذاك طالبة دراسات عليا بإشراف <شاربونو> في جامعة هارڤرد] قد نشرت مقالة بمشاركة المشرف عليها <D .D. ساسيلوڤ> تنبآ فيها بما يجب أن يراه الراصد حين مرور الضوء الصادر عن نجم عبر جو كوكب عندما يمر ذلك الكوكب أمام النجم(17). فمنذ مدة طويلة عرف الفيزيائيون أن الذرات والجزيئات المختلفة تمتص الضوء عند أطوال موجية مختلفة. وإذا نظرت إلى كوكب عند طول موجي يوافق الجزيء الذي تبحث عنه، فإن جو الكوكب الذي يحتوي على ذلك الجزيء سوف يمتص الضوء. وعندئذ يصبح الجو الكوكبي غير الكثيف معتما، جاعلا الكوكب يبدو أكبر حجما.
واقترحت <سيگر> و<ساسيلوڤ> أن الصوديوم سهل الكشف بوجه خاص. ويقول <شاربونو>: «الصوديوم كرائحة الظربان(18) الكريهة، وقليل منها ينتشر إلى مسافات بعيدة.» وهو يعرف ذلك أكثر من أي شخص آخر: ففي عام 2001، عاد <شاربونو> و<براون> وزملاؤهما إلى كوكبهم العابر الأصلي HD209458b، ليس بمقراب الهواة الصغير، بل بمقراب هَبل الفضائي the HubbleSpace Telescope. وبالتأكيد، كانت إشارة الصوديوم هناك، كما توقعوا.
[إحصاءات كوكبية] كوننا المكتظ(****) إن الباحثين عن الكواكب منشغلون. فمنذ عام 2011، اكتشف الفلكيون ثلاثة كواكب غير شمسية وسطيا كل أسبوع – قلة ثمينة منها موجودة في المنطقة «الصالحة للحياة» حيث يمكن للماء أن يكون في الحالة السائلة. ويمثل هذا المخطط جوارنا الكوني المعروف والمؤلف من 861 كوكبا، مرتبة وفقا لمسافاتها من شمسنا. لكن، على الرغم من نجاحات الباحثين، فإنهم لم يستطيعوا العثور إلا على نسبة صغيرة جدا مما هو موجود بعيدا هناك. فالفلكيون يقدرون أن مجرتنا، درب التبانة، تحوي أكثر من 100 بليون كوكب.
|
كسوف كلي(*****)
أدرك الفلكيون أيضا أن ثمة طريقة متممة أخرى لتفحص أجواء الكواكب العابرة. فعند مرور كوكب عابر أمام نجمه، يكون جانبه المظلم باتجاه الراصد. وفي الأوقات الأخرى، يظهر جزء على الأقل من وجهه المضاء. وقبل أن يذهب الكوكب إلى ما وراء نجمه مباشرة، يكون وجهه المضاء مواجها للأرض. ومع أن النجم يكون حينئذ أشد سطوعا بكثير من الكوكب، فإن الكوكب نفسه يتلألأ، غالبا في مجال الضوء تحت الأحمر.
بيد أن هذا التلألؤ سرعان ما يختفي حينما يصبح الكوكب خلف النجم، حيث يتلاشى إسهامه في مجمل الضوء الصادر عنه وعن النجم معا. وإذا كان بمقدور علماء الفيزياء الفلكية إجراء مقارنة للضوء قبل الاختفاء وبعده، أمكنهم استنتاج شكل الكوكب وحده [انظر للإطار “كيفية العمل”]. ويقول <كنوتسن>: «وذلك يغير طبيعة المسألة. فبدلا من أن يكون عليك تحري شيء باهت جدا قريب من شيء ساطع جدا، فإن كل ما عليك عمله هو أن تقيس إشارات متغيرة مع الزمن». وفي عام 2001، وجَّه <D .L. ديمينگ> [وكان آنذاك في مركز گودارد الفضائي التابع لناسا] مقرابَ ضوء تحت الأحمر، في المرصد Mauna Keaبهاواي، نحو الكوكب HD 209458b سعيا إلى رؤية ما يُسمى كسوفا ثانوياsecondary eclipse، لكنه، كما يقول، لم يتمكن من اكتشاف شيء.
غير أنه كان يعرف أن مقراب سپيتزر الفضائي Spitzer Space Telescope، الذي حُدد موعد إطلاقه في عام 2003، سوف يكون قادرا حتما تقريبا على إجراء رصد كالذي أجراه <شاربونو>. وقد تقدم هذان الفيزيائيان الفلكيان، اللذان لا يعرف أحدهما الآخر، بطلب لحجز وقت لهما لاستعمال مقراب سپيتزر بغية إجراء تلك الأرصاد. وحصل كل منهما في الوقت المطلوب على بياناته. ويذكر <ديمينگ> أنه استقبل في أحد أيام مطلع عام 2005 الرسالة الصوتية التالية: «<ديمينگ>، أنا <شاربونو> من جامعة هارڤرد. لقد سمعت أنك أجريت أخيرا أرصادا مثيرة للاهتمام، وقد يكون من المفيد أن نتحدث معا.»
إن الفلكيين مقتنعون بأنه لن تمر سنوات كثيرة قبل أن يستطيع الرصّادُ البحثَ عن بصمات بيولوجية في أجواء كواكب هي توائم لأرضنا من حيث الجوهر. |
وتبين أن <ديمينگ> (الذي كان يعمل مع <سيگر>) و<شاربونو> قد اكتشفا، كل على حدة، ولأول مرة في التاريخ، الكسوف الثانوي في وقت واحد عمليا، باستعمال المرصد نفسه. وأعلنت المجموعتان نتائجهما الخاصة بنجمين مختلفـين في آن واحــد، هما الكوكب HD 209458b، الذي خضع لأعمال كثيرة في حالة <ديمينگ>، وكوكب آخر سُمِّي TrES-1 في حالة <شاربونو>. وبعدئذ بعام، اكتشف فريق <ديمينگ> الكسوف الثانوي لكوكب سُمِّي HD 189733b. وكتبت <سيگر> و<ديمينگ> في عام 2010 في مقالة مراجعة(19) ما يلي: «لقد أطلق ذلك فيضا من الاكتشافات الرصدية لحوادث كسوف ثانوي باستعمال مقراب سپيتزر… ولن نكون مجانبين للصواب إذا قلنا إن ما من أحد توقع المقدرة الهائلة والمفعول المذهل لمقراب سپيتزر الفضائي بوصفه أداة لتطوير حقل دراسات أجواء الكواكب غير الشمسية.» وفي الحقيقة، تقول <سيگر>: «نحن نستعمل مقرابي هبل وسپيتزر بطرق لم يصمما لها قطُّ، ووصلنا إلى منازل عشرية لم يُصمم للوصول إليها البتة.»
طبقات جوية(******)
وقد بينت تلك الدراسات بضعة أشياء، تقول <سيگر>: «قد يبدو هذا تافها إلى حد ما، لكننا علمنا أن الكواكب الحارة الشبيهة بالمشتري هي حارة. لقد قسنا سطوعها ودرجات حرارتها،» وما رصده العلماء منسجم مع توقعاتهم لطريقة تسخين النجوم لكواكبها. وتتابع: «ثانيا، لقد اكتشفنا جزيئات. والآن، هل ما وجدناه كان مختلفا جدا عما توقعناه؟ كلا، ليس مختلفا.» وتقول <سيگر> إنه يمكن للفيزيائيين أن يصنعوا كرة من الغاز المكوَّن من مجموعة من العناصر عند درجة حرارة معينة، وأن يطرحوا السؤال عن نوع الجزيئات التي سوف تتكوَّن، وتقول: «إن قوانين الفيزياء والكيمياء هي عامة universal.»
غير أن <سيگر> وفيزيائيين فلكيين آخرين عرفوا أنه على الرغم من التشابه العام بين أجواء الكواكب غير الشمسية، فإن الكواكب يمكن أن تختلف إفراديا من نواح عدة، إحداها هي كيفية تغير درجة الحرارة مع تغير الارتفاع. فبعض الكواكب، من مثل المشتري وزحل في منظومتنا الشمسية، تُظهر انقلابات في درجات الحرارة التي تزداد مع الارتفاع، بدلا من أن تنخفض. وتغيب هذه الظاهرة عن كواكب أخرى. ويقول <كنوتسُن>: «تكمن المشكلة في أننا لا نعرف ما يسبب الانقلاب، ولذا ليس بمقدورنا التنبؤ بالكواكب غير الشمسية التي تتسم بهذه الظاهرة، وتلك التي لا تتسم بها». ويرى بعض الفيزيائيين الفلكيين أن الكواكب غير الشمسية التي تتصف بتلك الانقلابات قد تحتوي على نوع من الجزيئات التي تمتص الحرارة، كأكسيد التيتانيوم، لكن هذا ما زال حتى الآن مجرد فرضية.
وثمة سؤال آخر عما إذا كان بعض الأجواء الكوكبية مؤلفاً من خليط من جزيئات يختلف عن الخليط المكون لأجواء الكواكب الأخرى. وقد حلل <N. مادهوسودهان> [وهو حاليا في جامعة ييل] بصمات الضوء المرئي وتحت الأحمر لكوكب يسمى WASP-12b واستنتج أن جوّه غني جدا بالكربون، وبقدر مساوٍ تقريبا من الأكسجين.
وتوحي البحوث النظرية أن نسبة الكربون إلى الأكسجين التي تزيد على 0.8، إذا وجدت على كواكب صغيرة أخرى في المنظومة النجمية نفسها (وهذا أمر مرجح بافتراض أن الكواكب في المنظومة النجمية تتكثف من قرص واحد من الغاز والغبار)، فإن هذا سوف يؤدي إلى «صخور» من الكربيد carbides، وهي فلزات غنية بالكربون، بدلا من الصخور السليكاتية الغنية بالسليكون والموجودة في منظومتنا الشمسية. وإذا صح ذلك، فقد يحتوي كوكب بحجم الأرض في المنظومة WASP-12 على قارات مكونة من الألماس.
وقد نشرت <سيگر> وآخرون بحوثا نظرية تقترح أنه ليس هناك ما يمنع وجود كواكب مكونة في معظمها من الكربون، أو حتى من الحديد. لكن ذلك قد لا يكون صحيحا في حالة المنظومة WASP-12. إذ يقول <كنوتسن>: «إن <I. كروسفيلد> [من معهد ماكس پلانك لعلم الفلك في هايدلبرگ بألمانيا] قد وجد أخيرا أن الضوء الوارد من المنظومة WASP-12 ملوث بضوء أبهت آت من نجم مضاعف(20) في الخلفية، ويبدو أن بياناته تلقي ظلالا من الشك على تفسير هذا الكوكب بالتحديد.»
عالم ماء(*******)
لقد كان أكثر الأرصاد كثافة موجها بمعظمه إلى كوكب يسمى GJ 1214bويدور حول نجم صغير لونه ضارب إلى الحمرة على شكل قزم من النوع Mا(21)، ويبعد عن الأرض بنحو 40 سنة ضوئية. وقربه من الأرض قد جعل دراسته سهلة نسبيا، وجعل منه قطره الصغير، الذي يساوي 2.7 مرة فقط من قطر الأرض، كوكبا أكثر شبها بالكرة الأرضية منه بالكواكب الحارة الشبيهة بالمشتري التي عُثر عليها في السنوات الأولى من التفتيش عن الكواكب. «إنه الأرض الفائقة المفضلة لدى الجميع» حسب قول: <L. كرايدبرگ> [طالبة الدراسات العليا في جامعة شيكاغو التي تقود تحليل البيانات في واحد من مشاريع الرصد التي من هذا النوع].
في عام 2009 اكتُشف الكوكب GJ 1214b في إطار ما يسمى مشروع الأرضMEarth Project، الذي أحدثه <شاربونو> للبحث عن كواكب حول الأقزام M. فقد كانت الفكرة أن العثور على كواكب عابرة صغيرة حول تلك النجوم الصغيرة الباهتة أسهل من العثور عليها حول نجوم أكبر، ويعود ذلك إلى عدة أسباب: أولها أن الكوكب الذي حجمه قريب من حجم الأرض يحجب نسبة كبيرة نسبيا من ضوء النجم الصغير. ويطبق الكوكب من هذا النوع جرًّا ثقاليا على النجم أقوى نسبيا، وهذا ما يسهل تحديد كتلة الكوكب، ومن ثم كثافته. والمنطقة الصالحة للحياة حول نجم صغير بارد قد تكون أقرب كثيرا مما هي حول نجم حار شبيه بالشمس، وهذا ما يزيد من احتمال اكتشاف العبورات (لأن مدار الكوكب القريب من نجمه لا يجب أن يكون مارّا بدقة من أمام النجم). وأخيرا، يوجد عدد من الأقزام M في درب التبانة the Milky Way أكبر كثيرا من عدد النجوم الشبيهة بالشمس: يوجد نحو 250 من الأولى ضمن مسافة نحو 30 سنة ضوئية من الأرض، مقابل 20 فقط من الأخرى.
وليس الكوكب GJ 1214b أرضا ثانية تماما: فقطره أكبر من قطرها بـ 2.7 مرة، وكتلته أكبر من كتلتها بـ 6.5 مرة، وهذا يعني أن كثافته الإجمالية تقع بين كثافتي الأرض ونپتون Neptune. لكن المؤسف، وفقا لما أدركه <شاربونو> وآخرون بعد اكتشاف هذا الكوكب مباشرة، أن هذه الكثافة يمكن أن تكون نتيجة لأسباب مختلفة. فمثلا، يمكن للكوكب GJ 1214b أن يحتوي على نواة صخرية صغيرة محاطة بجو شاسع مكون بمعظمه من الهدروجين. ومن الممكن أيضا أن تكون نواته كبيرة ومحاطة بمحيط عميق من الماء يعلوه جو غير سميك غني بالماء. ومن المستحيل أن نميز بين هاتين الإمكانيتين بناء على الكثافة وحدها، مع أن المحيط المائي أكثر إثارة بالطبع، لأن الماء السائل يمثل متطلبا أساسيا للحياة التي نعرفها، إن لم يكن ضمانة لها.
لكن عندما رصد <J. بين> [الفلكي في جامعة شيكاغو] هذا الكوكب بأطوال موجية مختلفة، آملا برؤية اختلاف في حجمه الظاهري يدل على سمك جوه، لم ير شيئا. وهذا يمكن أن يعني واحدا من أمرين: فقد يوجد في الكوكب جو سميك من الهدروجين، لكنه ممتلئ بالغيوم والضباب، وهذا ما يجعل اكتشافه صعبا، أو أنه ذو جو مائي رقيق جدا إلى درجة يصعب عندها تصويره بالمقاريب المقامة على الأرض. فهذه الحالة يمكن أن تكون «كالنظر إلى سلسلة جبال من بعد، لكن إذا كنت بعيدا جدا، فقد تبدو لك أشبه بخط مستقيم؛» وذلك حسب قول <كرايدبرگ> التي بدأت العمل مع <بين> في عام 2013.
وفي محاولة لحل هذه المسألة، مُنح <بين> وزملاؤه 60 دورة من دورات مقراب هبل الفضائي على مداره. وقد بدؤوا فعلا بإجراء أرصادهم. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يرصد فيها فلكيون الكوكب GJ 1214b بواسطة مقراب هبل، ولكن هذه المحاولة هي أكثف برنامج ينفذ حتى الآن، وسوف يستفيد من الكاميرا الجديدة ذات القدرات الكبيرة وحقل الرؤية العريض Wide Field Camera3 التي رُكِّبت خلال آخر مهمة تخديمية للمقراب في الشهر 5/2009. وإذا ما حالف الحظ هذه الحملة الرصدية، فإنها سوف تحل في نهاية المطاف مسألة كون الكوكب GJ 1214b عالَما من ماء أم لا.
البحث عن الأكسجين(********)
والآن، بعد أن انشغل الفلكيون بالتفتيش عن الكواكب بعض الوقت، فقد بدؤوا يعثرون على عدد أكبر من الكواكب ذات الأدوار المدارية الطويلة. وتلك الكواكب بعيدة عن نجومها، ولذا تكون أبرد من مجموعة الكواكب الحارة السابقة الشبيهة بالمشتري. ويقول <كنوتسن>: «ظللنا مدة طويلة مقتصرين على أشياء درجات حرارتها تقع ما بين 1500 و 2000 درجة كلڤن وتلك درجات حرارة عالية حقا. وفي تلك الظروف، يكون معظم كربون الجو متحدا بالأكسجين لتكوين أحادي أكسيد الكربون. والشيء المثير فعلا والذي يحدث عندما تهبط درجات الحرارة إلى ما دون نحو 1000 درجة كلڤن، هو أن الكربون ينتقل إلى تكوين الميثان بدلا من ذلك.»
والميثان مثير للاهتمام بوجه خاص، لأنه قد يكون مؤشرا إلى نشاط بيولوجي، مع أنه مؤشر غامض، لأنه من الممكن إنتاج الميثان من عمليات جيوفيزيائية صرفة. أما الأكسجين، وخصوصا الأوزون، وهو جزيء شديد التفاعل مكون من ثلاث ذرات من الأكسجين، فيمكن أن يكون أعلى احتمالا بكثير من حيث الدلالة على وجود حياة. ومن الممكن أن يكون اكتشافه من الصعوبة بمكان أيضا، لأن بصمته الطيفية(22) مخادعة، وبخاصة في الجو الصغير نسبيا المحيط بكوكب بحجم الأرض.
ومع ذلك، وبسبب جميع الأنشطة الدائرة حول الأراضي الفائقة المتوسطة الحرارة، مازال الفلكيون مركزين اهتمامهم في الجائزة الكبرى. وتقول <سيگر>: «ليس كل هذا أكثر من مجرد تمرين. وما أعنيه هو أن ذلك مثير للاهتمام بحد ذاته، لكن بالنسبة إلى أشخاص مثلي، فهو ليس سوى خطوة نحو متى في نهاية المطاف نتحول من الأراضي الفائقة إلى دراسة أجواء الشبيهات بالأرض(23).»
ومن المحتمل ألا يحدث ذلك قبل إطلاق مقراب جيمس وب الفضائي JamesWebb Space Telescope إلى مداره، ربما في عام 2018، وبدء جيل جديد من الأجهزة الضخمة المقامة على الأرض، ومن ضمنها مقراب ماجلان العملاقGiant Magellan Telescope ومقراب الثلاثين مترا Thirty Meter Telescope، بالعمل الفعلي في عام 2020 تقريبا. وحتى باستعمال هذه التجهيزات القوية، تقول <سيگر>: «سوف نحتاج إلى مئات ومئات من ساعات الرصد». وليس من الواضح، حتى في ذلك الوقت، أنه سوف يكون بالإمكان كشف بصمة للحياة من دون لبس؛ لذا قد يكون الرُصاد بحاجة إلى الباحث الأرضي عن الكواكبTerrestrial Planet Finder، الذي قُلِّص تمويله إلى حد جعل أي أمل بتحديد تاريخ لإطلاقه الفعلي محض تخمين في الوقت الراهن.
لكن من اللافت أن <سيگر>، المتقدمة على أي برنامج حلِم به أحد في تسعينات القرن العشرين، يمكن أن تتحدث عن إمكان واقعي للعثور على بصمات بيولوجية. إننا لم نعد مكتفين بمجرد الأمل بأن مدنية غريبة سوف تكشفنا وترسل إلينا رسالة بطريقتنا. فنحن نقوم باستكشاف نشط للهواء الذي يحيط بعوالم بعيدة، باحثين في سماواتها عن علامات تدل على وجود شيء يعيش عليها.
المؤلف
Michael D. Lemonick | |
<ليمونيك> كاتب في الموقع الإخباري غير الربحي Climate Central، ومؤلف كتاب «الأرض المرآتية: البحث عن توأم كوكبنا» Mirror Earth: The Search for Our Planet’s Twin (الذي صدر في عام 2012). وظلّ كاتبا علميا لمجلة Time طوال 21 عاما. |
مراجع للاستزادة
Planets We Could Call Home. Dimitar D. Sasselov and Diana Valencia in Scientific American, Vol. 303, No. 2, pages 38–45; August 2010.
Exoplanet Atmospheres. Sara Seager and Drake Deming in Annual Review of Astronomy and Astrophysics, Vol. 48, pages 631–672; September 2010.
The Kepler exoplanet-detection mission: http://kepler.nasa.gov
(*)THE DAWN OF DISTANT SKIES
(**)THE PARKING-LOT PLANET
(***)A PLANETARY DOUBLE TAKE
(****)Our Crowded Cosmos
(*****)TOTAL ECLIPSE
(******)ATMOSPHERIC LAYERS
(*******)WATER WORLD
(********)THE HUNT FOR OXYGEN
(1) Jodie Foster: ممثلة ومخرجة ومنتجة أفلام أمريكية.
(2) فيلم أمريكي مقتبس من رواية لـ<كارل ساگان>، تسعى فيه البطلة (الممثلة <جودي فوستر>) إلى تفسير رسالة واردة من منظومة نجوم ڤيگا.
(3) metabolizing organisms
(4) the gravitional effect
(5) telescopes
(6) the Terrestrial Planet Finder Interferometer
(7) exoplanets
(8) exoplanetology: هو علم متعدد التخصصات لدراسة الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية، ويشتمل على علم الأحياء الفلكية والفيزياء الفلكية وعلم الفلك وعلم الكواكب والكيمياء الأرضية والكيمياء الفلكية والجيولوجيا الفلكية.
(9) the Spitzer Space Telescope
(10) الكواكب (الشبيهة بالأرض) الفائقة = super-earths تكون من ضعف إلى عشرة أضعاف كتلة الكرة الأرضية.
(11) the Kepler Space Telescope
(12) the star’s radial velocity
(13) ثمة استثناء وحيد جدير بالذكر، هو <J .W. بوروكي> [من مركز بحوث إيمز التابع لناسا]، الذي قد تعثر المركبة الفضائية كپلر Kepler، التي يتولى قيادة برنامجها، في نهاية المطاف على أجسام عابرة تعد بالآلاف.
(14) the radial-velocity technique
(15) لقد بيّنت قِسمة كتلة الكوكب HD 209458b على حجمه أنه أكبر من المشتري بنسبة 38 في المئة، مع أن كتلته أكبر من كتلة المشتري Jupiter بنسبة 71 في المئة فقط، وهذه نتيجة غير متوقعة يسميها <AA. بروز> [عالم الفيزياء الفلكية في جامعة پرنستون] «مسألة قائمة تحتاج إلى تفسير.»
(16) the Massachusetts Institute of Technology
(17) [انظر: “Planets We Could Call Home,” by Dimitar D. Sasselov – Diana Valencia;Scientific American, August 2010]
(18) skunk: من الثدييات الصغيرة التي تعيش في أمريكا وتشتهر برائحتها النتنة.
(19) review article
(20) double star: يتألف النجم المضاعف من نجمين قريبين جدا من بعضهما.
(21) M-dwarf: تصنف النجوم وفقا لأطيافها الضوئية التي تُرمَّز بالأحرف O، B، A، F، G، K، M، L، T، حيث يشير الحرف O إلى الطيف الأزرق (نجوم عملاقة زرقاء)، ويشير الحرف TT إلى الطيف الأحمر الغامق (أقزام بنية).
(22) spectral signature
(23) الكواكب الشبيهة بالكرة الأرضية : Earths كوكب شبيه بالأرض كتلته = كتلة الكرة الأرضية إلى ضعفها.