حلقات زحل العملاق
اكتشف علماء الفلك نظاما حلقيّا كوكبيا هائلا، وربّما أيضا قمرا تابعا يدور حول نجمٍ آخر
بقلم: ماثيو كينورثي
الرسم التوضيحي: رون مولر
ترجمة: همام بيطار
في سطور
الباحثون اكتشفوا نظاما حلقيّا حول كوكب عملاق يدور حول نجم بعيد في مجرة درب التبانة، وهذا النظام أكبر بنحو 200 مرة من النظام الموجود حول زحل.
باستخدام عمليّات رصد حديثة وبيانات مؤرشفة، تمكن فلكيون هواة ومحترفون من ضم قواهم إلى دراسة نظام الحلقات هذا بتفصيل أكبر.
تقترح نماذج الحلقات احتضانها لقمر بحجم المريخ؛ وإذا ما تمّ تأكيد ذلك، فإنّ هذا القمر سيكون أول قمر مكتشف خارج نظامنا الشمسي، وتعد الدراسات المستقبلية لهذا النظام الفريد بالكشف عن تفاصيل جديدة وغير مسبوقة ترتبط بكيفية تشكّل الكواكب والأقمار حول النجوم الأخرى.
ماثيو كينورثي
Matthew Kenworthy
أستاذ مساعد في علم الفلك في مرصد لايدن-هولندا. يدرس كينورثي الكواكب الموجودة حول النجوم الأخرى، كما يُنتج صورا إكليلية بصرية Optical coronagraphs للمساعدة على التقاط صور هذه الكواكب. أما في وقت فراغه، فيقوم بتحضير الخبز، أو التجول مع عائلته في الريف الهولندي.
الكثير من علم الفلك يجري في المكاتب والمراصد حيث يعمل العلماء؛ لكن إذا أردت العثور على أكثر النظريات إثارة، فيجب أن تذهب إلى حيث يكون عدد الحُرّاس أقل ويكون بإمكان الأفكار الأكثر جموحا التجول بحرية. فليس من قبيل المصادفة أن تكون إحدى أفضل الحانات موجودة في توكسون بآريزونا (ذلك المعروف بـ 1702 نسبة إلى عنوان شارعه) بالقرب من مرصد ستيوارت في جامعة آريزونا University of Arizona.
هناك أراني زميلي إيريك ماماجيك Eric Mamajek من جامعة روشستر University of Rochester شيئا دفعنا إلى البحث عن أولى الكواكب ذات الحلقات الموجودة خارج نظامنا الشمسي، وهو سُعيٌ يستخدم كلاًّ من أحدث تلكسوبات العالم، وعمليات رصدٍ فلكية امتدت طوال قرنٍ كامل. وعلى طول الطريق لم نجد فقط نظام حلقات أكبر من ذلك الذي يمتلكه زحل، وإنما أيضا بدا لنا ذلك قمرا حديث الولادة.
رصد الحلقات
تبدأ هذه القصة عام 2011، عندما كان ماماجيك وزميله مارك بيكو Mark Pecaut الطالب المتخرج من روشستر، يعدّان فهرسا لنجوم شابة جدا قريبة من الأرض.
ولتخمين أعمار أولئك المرشحين، قام ماماجيك وبيكو بفحص معدلات دوران النجوم؛ إذ تدور Spinالنجوم الشابة حول نفسها بسرعة أكبر من النجوم الأقدم، يُمكن قياس تلك السرعات عبر تسجيل البقع النجمية Star spots- وهي مناطق أبرد وأكثر عتمة موجودة فوق سطح النجم- تلوح في المشهد وتختفي منه.
أحد أولئك المرشحين الموجودين في المسح، لم يكن له اسم وإنما مجرد رمز مشتق من اسم الأدوات التي رصدته وسجلت موقعه في السماء في كوكبة قنطورس Centqurus، ألا وهو النجم 1SWASP
J140747.93-394542.6. وندعوه الآن اختصارا النجم J1407. هذا النجم وغيره العديد من النجوم أبعد كثيرا من أن نتمكن من رؤية بقعها مباشرة. وعوضا عن ذلك، فحص ماماجيك وبيكو منحنى الضوء Light curve للنجمJ1407 – رسمٌ يبين تغير لمعان النجم مع مرور الزمن- بحثا عن انخفاضات صغيرة تحصل جراء دخول البقع إلى حقل الرؤية، مما يؤدي إلى نقصان الضوء النجمي Starlight.
يمكن أن تتسبب الكواكب أيضا بمثل هذه الانخفاضات عندما تعبر أمام نجومها عند النظر إليها من الأرض. لقد وجد ماماجيك وبيكو منحنى ضوء النجم J1407 في بيانات مسح لكاميرا متعقبة للكواكب، تعرف بالكاميرا SuperWASP التي اكتشفت حتى اليوم أكثر من مئة كوكب عابر أثناء رصدها لـ 31 مليون نجم.
لقد اقترح منحنى الضوء أنّ النجم J1407 كان نجما شابا، لكن هذاالمنحنى كان يفصح عن معلومات أكثر إثارة. فقد أظهرت نظرة عابرة على منحنى ضوء النجم J1407 من الكاميرا SuperWASP أن هذا النجم، الذي ما كان ليكون ملفتا للنظر لولا ذلك، ظل على مدار العديد من الليالي يومض بنمط غير متنبّئ به. وبعد ذلك خفت أكثر فأكثر ليصير غير مرئي تقريبا لمدة أسبوع، ليعود في النهاية إلى لمعانه الاعتيادي. ولم تُظهر بيانات الأعوام الأخرى مثل هذا التغير في لمعان هذا النجم. في عام2007، لم يترك هذا الحدث الغريب أي انطباع كبير، وبعد ذلك ذوى المنحنى في الأرشيف دون أن يلحظه أحد. لكن بعد أن شاهده ماماجيك عام 2011 لم يستطع نسيانه قطّ.
أخبرني ماماجيك في حانة توكسون متذكرا: «وضعت نسخة لصورة من منحنى الضوء على جدار في مكتبي، ونظرت إليها على مدار أسابيع. كانت كل من البنية والتفاصيل الجنونية فريدة من نوعها. وظللت أتساءل عما قد يتسبب في مثل هذه التغيرات السريعة في لمعان النجم؟»
وسرعان ما بدأنا بالعمل معا بعد النقاش لحل هذا اللغز. استبعدنا بعض المُتهمين الواضحين مثل وجود مشكلات في كاميرات SuperWASP أو ظروف الرصد الضعيفة؛ لكن بعد القليل من البحث شعرنا بأن مصدر الخفوت الغامض في النجم J1407 لم يكن موجودا فوق الأرض.
استنتجنا في الحال أن شيئا ما سريعا وكبيرا جدا يجب أن يتسبب في كسوف النجم J1407 وجعله يُومض ويخفت بهذه الطريقة. اقترحت سرعة الاهتزازات الحاصلة في اللمعان أن الجسم الذي يتسبب في الكسوف كان يمضي أمام وجه النجم بسرعة تصل إلى 30 كيلومترا في الثانية، ومع ذلك فإنّ الكسوف استمر 65 يوما! وتعني هذه الفترة الطويلة أن للجسم قطرا يصل إلى 180 مليون كيلومتر تقريبا.
هناك العديد من التفسيرات المنطقية لما يمكن قد تُكوِّنه مثل هذه البنية الكبيرة جدا. بدأنا بالنظر فيها واحدة بعد الأخرى، ومن ثمّ رفضناها. هل يُمكن أن يكون ذلك حزاما من الغبار الذي يدور بالقرب من النجم؟
كلاّ، إذْ لم يكن هناك توهج في المجال تحت الأحمر Infrared glow حول النجم J1407 المتوقع رؤيته من غبار دافئ. هل كان نظاما ثنائيا Binary system يضم نجما عملاقا أحمر يتسبب في كسوف مرافق أصغر حجما: مثل قزم أبيض White dwarf، أو نجم نيوتروني Neutron star، أو ثقب أسود Black hole؟ كلاّ، إذ تميل مثل هذه الأنظمة إلى إصدار كمية أكبر بكثير من الأشعة السينية x-rays مقارنة بما كنّا نراه، ولم يظهر لنا أنّ النجم J1407 على أنه نجم عملاق. هل يُمكن أن يكون هذا الوميض مصادفة نتجت من ظل شيء ما يطفو في الفضاء بين النجمي Interstellar بين الأرض والنجم، أو قد يكون النجم J1407 عبارة عن نظام نجمي ثلاثي معقد Triplet-star system يُوجد فيه مرافق يتسبب بالكسوف، وله قطر يصل إلى 180 مليون كيلومتر تقريبا؟ كلاّ، لا يتطابق أي من تلك الاحتمالات مع البيانات. في النهاية، الشرح الأبسط الذي يتلاءم مع كل المشاهدات المرصودة كان شيئا غريبا جدا. فالانخفاضات الموجودة في منحنى الضوء قد تكون ناتجة من نظام حلقات عملاقة Giant ring system أكبر بنحو 200 مرة من نظام زحل، ويدور هذا النظام من الحلقات حول كوكب غير مرئي عبر بين الأرض والنجم J1407 عام2007.
لكن لماذا اعتقدنا أنه نظام حلقي؟ الميزة الأكثر بروزا في منحنى الضوء كانت مستوى التفاصيل الذي يُمكن رؤيته عند كل من درجات القياس الزمني Timescales – استمرت عمليات الكسوف لمدة 56 يوم، لكن أمكن رؤية تغير سريع حصل خلال فترة زمنية قصيرة وصلت إلى 20 دقيقة. أشارت هذه السرعات إلى جسم عملاق يتسبب بالكسوف يمتاز بالكثير جدا من الهياكل الفرعية Substructure؛ واقترح شكل منحنى الضوء المتناظر تقريبا أن الجسم يمتلك هندسة دائرية أو على هيئة قطع ناقص Elliptical –يُشبه كثيرا نظام حلقات زحل المألوف بالنسبة إلينا. وإذا كنا على صواب، فإنّ هذه الحلقات الكوكبية الضخمة ستكون الأوُلى المكتشفة خارج نظامنا الشمسي.
اصطياد الكوكب
لو كان هذا حقا عبارة عن نظام حلقي عملاق، فيجب أن يكون هناك كوكب عملاق حول النجم J1407 ليحني الحلقات في مكانها؛ ولذلك مضينا في البحث عن الكوكب، الذي سميناه الكوكب J1407b وقمنا بذلك باستخدام معدات متطورة موجودة على اثنين من أكبر المراصد في العالم: تلسكوب كيك 2 Keck II telescope ذو القطر 10 أمتار في هاواي، والتلسكوب الكبير جدا Very Large Telescope ذو القطر 8.2 متر في تشيلي.
إنّ أكثر الكواكب كبرا ولمعانا خافِت جدا مقارنة بالنجوم المضيفة ومن الصعب رؤيتها؛ لكنّ النجم J1407 شاب جدا، وبالنظر إلى عمره التقديري – نحو 16 مليون سنة فقط- فإنّه بالإمكان رؤية أي كوكب عملاق غازي Gas giant planet موجود حوله لأنه سيكون متوهجا في المجال تحت الأحمر من الضوء وذلك نتيجة لحرارة تشكله. وبالاعتماد على المسافة التي تفصلنا عن النجم J1407، فإن مُرافقه المُتنبَّأ به سيظهر، عند النظر إليه من الأرض، بشكل منفصل عن النجم بنحو 50 ميلي ثانية قوسية Milliarcseconds –ويعادل هذا المسافة بين قائمي مرمى ملعب كرة قدم موجودة على سطح القمر. وعلى الرغم من وجود هذا التحدي، إلا أنّ عملية الرصد كانت في مجال الممكنات.
على مدار عامين، سعينا إلى تصوير الكوكب أثناء البحث عن الانزياحات الدورية الحاصلة في حركة النجم والناتجة من السحب الثقالي جرّاء الحركة الدورية لذلك العالم المداري غير المرئي. وجندنا أيضا شبكة من الفلكيين المحترفين والهواة (بما في ذلك الجمعية الأمريكية لراصدي النجوم المتغيرة American Association of Variable Star Observers) لمراقبة لمعان النجم J1407 كل ليلة بحثا عن خفوت سيُشير إلى بدء كسوف آخر.
لم نجد شيئا. لكن هذه النتيجة لم تعن أن الكوكب لم يكن موجودا، فحتى ولو كان ذلك الكوكب أضخم من المشتري باثنتي عشرة مرة، فسيكون من السهل ألا نتمكن من رصده؛ فربما قد نكون نظرنا في الزمن الخطأ، أي عندما كان الكوكب خلف نجمه وغير مرئي بالنسبة إلينا. وعلى الرغم من ذلك فعمليات الكشف عديمة الجدوى هذه لم تسمح لنا باستبعاد بعض من احتمالات وجود نجوم مرافقة منخفضة الكتلة تكون سببا لخفوت النجم J1407.
كشف الحُجب عن الحلقات
بصرف النظر عن الارتياب الموجود، فقد باشرنا محاولة تلخيص هندسة الحلقات التي اعتقدنا بأنها تلتف حول الكوكب J1407b؛ فعلى مدار العديد من الأشهر طوّر فريقنا نماذج حاسوبية تستخلص معلومات حول التركيب والبنية ثلاثية الأبعاد لحلقات الكوكب J1407b اعتمادا على منحنى ضوئه.
بالوقوف أمام لوح أبيض، والتكلم حول المسألة مع بضعة زملاء، توصلنا فجأة إلى فكرة. فعلى الرغم من أننا لا نعرف بشكل تام ما هو العدد الصحيح للحلقات وموقعها، إلا أن الانحدار الشديد لأجزاء منحنى الضوء تُعطينا أدلة على الهندسة العامة لنظام الحلقات، ويتضمن ذلك على سبيل المثال محاذاتها لنجمها. باستخدام هذه المعلومة الإضافية، تمكنا الآن من إنهاء نموذجنا الحاسوبي للحلقات، وتوليد منحنى ضوء اصطناعي يعتمد على عدد القمم والانحدارات الافتراضية المختلفة للحلقات. وبمقدار كاف من التأكيد، فإنّ أحد التشكيلات الذي اختبرناه تطابق مع الانخفاضات والارتفاعات المنفصلة التي نراها في بيانات النجم J1407!
مُسلحين بهذه المعرفة، تمكنا من وضع خريطة للمسافات المختلفة التي تفصل الحلقة عن الكوكب الكوكب J1407b؛ ففي كل مرة يتغير فيها ميل منحنى الضوء، يُشير ذلك التبدل إلى عبور أو انتهاء عبور حلقة. وعبر إحصاء هذه النقاط على منحنى الضوء، شاهدنا على الأقل 24 حلقة –مع أنه عند أخذ الفجوات الحاصلة في البيانات جرّاء شروط الرصد الضعيفة أحيانا، قدّرنا أنه من المرجح أن يمتلك هذا النظام على الأقل 100 حلقة.
لقد كُنا محظوظين برؤية نظام حلقات الكوكب J1407b في هذه المرحلة من تطوره، ولفهم ذلك، انظر إلى زحل المألوف بالنسبة إلينا، وإلى كيفية تطور نظام حلقاته بمرور الزمن. إن المنظر الثابت لحلقاته خادع في الواقع، فالحلقات تتألف من جسيمات من الجليد تتبع مدارات دائرية حول الكوكب. وبمجملها، نُحتت هذه الجسيمات من قبل أقمار صغيرة Moonlets تدور في الداخل وتمر مباشرة عند حافتها الخارجية.
جرى الاعتقاد أن زحل امتلك في زمن ما حلقات أكبر، لكنّ جسيمات أكبر كانت موجودة على الحواف الخارجية للنظام تجمعت معا جراء الجاذبية المتبادلة فيما بينها وشكلت بعضا من أقمار زحل المألوفة لنا الآن. لا بدّ وأنّ هذا المشهد كان جميلا بقدر ما كان عابرا –سيكون أي راصد محظوظا جدا إذا عاش في الزمن الكوني الصحيح لرؤية ذلك.
ومثل نظام حلقات زحل منذ زمن بعيد، يبدو أن نظام الكوكب J1407b موجود اليوم في حالة عابرة. تقترح نماذجنا أن النظام يحوي فجوة كبيرة، ومن المحتمل أنها تشكلت جرّاء شيء لم يره علماء الفلك في السابق: قمر- قمر خارجي Exomoon حديث الولادة- يدور حول الكوكب J1407b؛ كما أن حساباتنا تطرح فكرة أنّ هذا القمر الخارجي يحتاج إلى عامين ليدور مرة واحدة حول الكوكب J1407b، وقد تكون كتلته مساوية لكتلة المريخ. على الرغم من أنّ هذه الفجوة الكبيرة ليس بإمكانها وحدها أن تُؤلف اكتشافا قاطعا لقمر خارجي، لكن إذا ما تمّ تأكيد وجود الكوكب J1407b ونظام حلقاته، فستشكل الفجوة حتى تاريخنا هذا، أفضل الأدلة على وجود هذه الأجسام المراوغة التي طالما خمنّا وجودها.
هذه الصورة الوليدة لهذا النظام الديناميكي الغريب ليست بأقل من كونها مذهلة؛ فعند التحليق في الفضاء بين النجمي، ستشاهد توهج النجم الأولي يطغى على التوهج الباهت لكوكبه المرافق والأبرد، الذي لا يزال على الرغم من ذلك كوكبا أحمر ساخنا. وبالاقتراب من الكوكب من الأعلى، فيمكن للمرء أن يرى الحلقات على شكل تموجات لامعة منتشرة إلى الخارج ضمن خلفية فضائية مظلمة. مكلّلا بالحطام الناتج من التصادمات، سيكون مستوي الحلقات مغمورا بموجات من المواد المتكتلة؛ وسيتحطم بعض من تلك الموجات عند الفجوة العظيمة الناشئة عن أكبر التكتلات –قمر بحجم المريخ- الموجودة بين حلقتين.
إذا ما كان القمر يدور خارج مستوي الحلقات بقليل، من ثم يُمكنك عبر الوقوف على سطحه رؤية الحلقات المحيطة وهي تتقوس داخل السماء المحيطة بك؛ ولو امتلك ذلك القمر غلافا جويا، لاحترقت الجسيمات الشاردة القادمة من الحلقات جرّاء التسخين بالاحتكاك أثناء عبورها للغلاف الجوي لتملأ السماء برذاذ ساحر من الشهب المحترقة؛ وفي الأعلى سيكون هذا الكوكب J1407b كجوهرة صغيرة وسط توهج الضوء المتشتت على حلقاته مترامية الأطراف، والمتقاطعة سحب معتمة، وأخرى متوهجة بشكل مشابه للفحم المشتعل.
يُقدم هذا النظام لعلماء الفلك مشهدا جميلا جدا أكثر مما كان محتملا بكثير. فاكتشاف الكواكب الغازية العملاقة، التي تدور بالقرب من أنجمها، يظل سهلا مقارنة بغيرها الواقعة خارج نظامنا الشمسي؛ لكنّ افتقارها إلى أسطح صلبة (يابسة) يجعل احتمال استضافتها للحياة، كما نعرفها، ضعيفا. إنّ وجود قمر كبير حول مثل هذا الكوكب سيكون حالة مختلفة كليا لأنه سيطرح إمكانية وجود سطح صخري حاضن للماء وصديق للحياة نسبيا. وفي حال كان نظامنا الشمسي شيئا عاديا، فقد تحتوي مجرتنا على تريليونات من الأقمار الكبيرة التي تدور حول كواكب عملاقة؛ وسيؤدي إثبات وجود أقمار حول عمالقة غازية خارج النظام الشمسي إلى زيادة احتمالات وجود الأمكنة التي قد تُوجد فيها الحياة.
منذ سنوات عديدة يبحث فريق صغير من الباحثين بمثابرة وحماس عن الأقمار الخارجية، ويجري ذلك بشكل رئيسي بالاعتماد على تأثيرات غير مباشرة يُمكن أن تؤثر في حركات كواكبها الأم. وتُبدي الكواكب العابرة خفوتا دوريا ودقيقا للمعان نجمها الأم، لكنّ وجود قمر خارجي كبير الكتلة وغير مرئي قد يتسبب في انحراف إضافي في جدول الكسوف، الذي سيكون منتظما في حالة عدم وجود ذلك القمر. وقد أجرى فلكيون، مثل ديفيد كيبينغ David Kipping من جامعة كولومبيا Columbia University، عمليات بحث مكثفة عن الأقمار الخارجية عبر تقصّي وجود الإشارات الدالة على ذلك في منحنىات ضوء العوالم العابرة المُكتشفة من قبل صائد الكواكب القمر الصناعي كبلر Kepler satellite التابع لناسا؛ وحتى يومنا هذا، لم يكتشفوا أي قمر خارجي، لكن احتمال وجود قمر حول الكوكب J1407b يقترح أن عمليات البحث الجارية لن تبقى غير مثمرة لفترة طويلة.
مع ذلك، فحتى الآن لايزال كلٌّ من الكوكب وقمره افتراضيين، إذ إن أكبر التلسكوبات وأكثر الأجهزة حساسية فوق الأرض ليست قادرة اليوم على إيجاد أدلة قطعية تؤكد وجودهما. وعوضا عن ذلك، قد تأتي تلك الأدلة من البيانات المؤرشفة، التي جمُعت بواسطة تكنولوجيا أقدم على مدار الأعوام الماضية –كتلك المجموعة الموجودة في مركز سميثسونيان لعلم الفلك Smithsonian Center for Astrophysics في هارفارد.
العودة إلى المستقبل
يحتضن المركز العديد من الباحثين، كما أن مكاتبه وأروقته مشغولة دوما بأشخاص يستغرقون في قراءة ودراسة البيانات الواردة من تلسكوبات الفضاء، وكتابة الأوراق العلمية، وإجراء عمليات المحاكاة، وتحضير النقاشات. أما على بعد أمتار قليلة من هذا المبنى المليء بالنشاط، توجد مجموعة لوحات هارفارد Harvard Plate Stacks داخل مرفق هادئ -ذي جدران من الطابوق- حيث يجرؤ القليل من الأشخاص على مغامرة الخوض فيها. إذ يُوجد في جناح واحد مجموعة من مغلفات ورقية على طول رفوف طويلة تملأ جدران المبنى المؤلف من ثلاثة طوابق وصولا إلى السقف. إنك قد تعتقد أنّ ذلك عبارة عن مخزن للسجلات المستعملة، لكن بدلا من أسطوانات الفينل، فهذه المغلفات تحتوي على أكثر من مليون لوحة فوتوغرافية من مراصد متعددة –ما يُشكل نحو ربع الصور الفلكية الموجود في العالم. إنها سجل لقرن من عمليّات رصد سماء الليل.
يجري حاليا مسح هذه اللوحات الفوتوغرافية عبر مشروع Digital Access to a Sky Century @ Harvard، الذي يهدف إلى توفير البيانات الموجودة -على الشرائح الزجاجية الهشة تلك- كمعلومات رقمية وتحميلها جميعا وتخزينها. لقد قدّرنا أن النجم J1407 سيظهر في نحو 700 من تلك اللوحات، وأيضا في صور التُقطت بي ن الأعوام 1901 و1984. وبوجود بيانات تلك اللوحات، فسنكون قادرين على البحث عن المزيد من عمليات الكسوف إلى درجة قد تُمكننا من معرفة موعد حصول الكسوف التالي.
أما الآن، فتشير أفضل توقعاتنا إلى أنّ ذلك سيحصل في وقت ما خلال العقد التالي. وفي انتظار ذلك، فسنظل نسعى وراء الحصول على برهان قاطع على وجود الكوكب وحلقاته، وسيستمر الفلكيون المتفانون في هذه المهمة في مراقبة النجم J1407 كل ليلة تقريبا؛ باحثين عن خفوت في الضوء النجمي ناجم عن بدء الحلقة الخارجية بالعبور أمام النجم. وعندما يحصل ذلك، فسيمكن حينها تسجيل العديد من المشاهدات الرصدية لدراسة الحلقات بتفصيل أكبر؛ فخلال تحرك الحلقات أمام النجم، نستطيع استخدام راسمات الطيف Spectrographs الموجودة على أكبر تلسكوبات العالم، لجمع بعض الضوء النجمي الذي يسطع حول وخلال الحلقات وذلك بهدف معرفة تركيبها الكيميائي، وكيف يتغير ذلك التركيب مع تغير المسافة الفاصلة عن النجم J1407.
لكن الأمر الأكثر أهمية هو أنّ النجم J1407 نجم لامع نسبيا ومرئي من نصف الكرة الجنوبي للأرض، وهو قابل للرصد بسهولة حيث يستطيع فلكيون مجهزون بتلسكوبات صغيرة تتبع الاهتزازات في لمعان النجم في الزمن الحقيقي، ومن تقديم تغطية مستمرة على مدار 24 ساعة من جميع أرجاء العالم.
سيكون غوصنا العميق في الحلقات العملاقة للكوكب J1407b البداية فقط لسلسلة طويلة من الأبحاث المرتبطة بكيفية تشكل الأنظمة الشمسية؛ إذ يُعتقد أن الكواكب العملاقة حديثة الولادة هي من يتسبب في ظهور الأقراص الكوكبية الدائرية التي تتكاثف على شكل أقمار وحلقات، ونتوقع أن نكتشف المزيد من هذه الأنظمة قريبا جرّاء الظلال التي تُلقيها في كافة أرجاء المجرة. الآن ونحن نعرف ما الذي نبحث عنه، ينطلق السباق لإيجاد المزيد من الأنظمة الحلقية العملاقة والأقمار الخارجية، مثل تلك المتوقع وجودها حول الكوكب J1407b. وفي الواقع ننظر أنا وزملائي حاليا في قاعدة بيانات جديدة بحثا عن إشارات دالة على وجود كواكب أخرى تحتوي على حلقات، وموجودة في أنظمة أخرى. وقريبا قد يحظى نظام زحل الرائع بمنافسة شرسة من قبل أنظمة موجودة حول نجوم أخرى.