دليل الواقع: القوانين الأساسية لفيزياء الكم
دليل الواقع:
القوانين الأساسية لفيزياء الكم
هل تتشكل التموجات بفعل الموجات أم الجسيمات؟
بقلم: ستيوارت كلارك Stuart Clark وريتشارد ويب Richard Webb
ترجمة: همام بيطار
إنّ النظرية التي تحكم عمل الجسيمات تحت (دون) الذرية والقوى هي نظرية بالغة الغموض، لكن ما المبادئ التي جعلتها تبدو على ما هي عليه؟
تُشكل فيزياء الكم Quantum physics نظريتنا الأساسية فيما يتعلق بكيفية ممارسة القوى والجسيمات لعملها، وهي أساس النموذج القياسي الناجح جداً في فيزياء الجسيمات -أكثر النظريات التي تعرضت للاختبار على الإطلاق. لكن نظرية الكم بالغة الغموض، ولكي تقوم بعملها فعليك في بالبداية أن تفترض بعض الأشياء الأساسية والمنافية للبديهة بخصوص طريقة عمل الطبيعة عند الأحجام الأصغر. واستكمالاً لرحلتنا الكبيرة في الكون في دليل الواقع: القوانين الأساسية للكوزمولوجيا، نستكشف في هذا المقال قوانين العالم الكمومي.
القانون 4: التكميم
تأتي الأشياء على هيئة تكتلات صغيرة الحجم.
يعود أصل النظرية الكمية بكل معنى الكلمة إلى فترة المصباح الكهربائي. ففي عام 1900، كان ماكس بلانك Max Planck يحاول وصف الخرج الطاقي للمصابيح الكهربائية، مما يساهم في جعلها أفضل، وقد فشلت النظريات الموجودة حينها في مطابقة الواقع. وبعد بضع بدايات خاطئة، اكتشف بلانك أنه بإمكانه ردم الفجوة الموجودة عبر وضع افتراض جذري ينص على أن الطاقة الكهرومغناطيسية تصدر عن الجسم على شكل إشعاع وهي لا تصدر بشكل مستمر، وإنما على شكل حزم منفردة.
اعتقد بلانك في البداية أن تلك “الكمّات” quanta ما هي إلا قصور ناجم من النظرية، وليست أبداً وصفاً للواقع. لكن في عام 1905، برهن آينشتاين على أنه بالإمكان تفسير طريقة إصدار بعض المعادن للإلكترونات عند اصطدامها بالضوء -المفعول الكهروضوئي Photoelectric effect- عبر افتراض أن الضوء مكون من كمّات منفصلة شبيهة بالجسيمات. لم يكن ذلك إلا البداية فقط، ومع تطور نظرية الكم، أصبح من الواضح أن الطاقة ليست الوحيدة التي تأتي على شكل وحدات حجمها أصغر، وإنما يشمل ذلك الأمر الشحنةَ الكهربائية Electric charge والدوران المغزلي spin، أما لماذا يحدث ذلك، فلا أحد يعرف!
القانون 5: مبدأ الشك
هناك حدود لما يمكن لأي شخص منا معرفته!
عندما تركل كرة، فإنّ معرفتك لمكان وجودها لن يمنعك عن معرفة إلى أين ستمضي. لكن هذا لا ينطبق في حالة الجسيمات تحت (دون) الذرية، فكلما كنت أشد دقة في تحديد موقع الجسيم، ستكون دقة تحديدك لكمية عزمه (زخمه) أقل، والعكس صحيح.
هذا هو مبدأ الشك الذي اشتقه فيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg في أواسط عشرينات القرن الماضي، ولا يربط هذا المبدأ بين الموضع وكمية الحركة فقط، وإنما بين الطاقة والزمن، وبين كل الكميات الأخرى التي تأتي على شكل أزواج. ولا ينتج مبدأ الشك من دقة أجهزة القياس، وإنما كما يبدو فهو قيد أساسي يُفرض على مقدار ما يُمكننا معرفته عن العالم.
ويُشكل هذا المبدأ عالمنا بطرق لا تدعو للريبة أبداً، فهو يسمح للجسيمات بأن تمر كما لو كانت تمر من خلال “نفق” في خضم عوائق لا يمكن اجتيازه -بغير ذلك- من الطاقة، على سبيل المثال كي تُشعل تفاعل الاندماج النووي Nuclear fusion داخل الشمس. كما أنّ هذا التأثير يُمكِّن تلك الجسيمات من الخروج بشكلٍ مستمر إلى الفضاء الفارغ لفتراتٍ قصيرة من الزمن، وهي قدرة تُعتبر جوهرية جداً لتفسير كيفية عمل القوى الكمومية التي تُؤلف الواقع.
القانون 6: ثنائية الموجة-الجسيم
تُوجد الأجسام الكمومية في العديد التجليّات في الوقت نفسه!
إن الاكتشاف الذي حصل في وقتٍ مبكر من القرن العشرين والذي نص على أنّ الضوء مقسم إلى تكتلات منفصلة وموضعية -ما يُعرف بالجسيمات- طرح لغزاً مهماً، فالضوء يتداخل مع نفسه، وينعرج، وفي أحيانٍ أخرى يتصرف كما لو أنه موجة غير موضعية Non-localised wave.
اقترح لويس دو بروغلي Louis de Broglie عام 1924 أن هذا السلوك عالمي ويعمل في الاتجاهين. فإذا كان بمقدور الضوء الشبيه بالموجة التصرف كجسيم، فإنه سيكون حينها من الممكن للإلكترونات وجسيمات المادة الأخرى أن تتصرف كموجات.
وفي هذه الصور الثنائية المعتمدة على ثنائية الموجة-الجسيم، يُوجد الجسيم الكمومي على شكل “تراكب” Superposition شبه موجي ومؤلف من جميع المواقع أو الحالات المحتملة، ويستقر هذا الجسيم في حالة محددة عند قياسه فقط. وقد سخر إرفين شرودنيغر Erwin Schrödinger من هذه الفكرة في تجربته الذهنية عن القطة الحية والميتة في الوقت نفسه. لكن، ومنذ ذلك الحين ركّبت العديد من التجارب تجمعات من الجسيمات المنفردة على شكل كرات “بوكيبول Buckyballs” -جزيئات مكونة من 60 ذرة كربون- وقد تداخلت تلك الذرات وانحرف مسارها أيضاً في تجربة العبور عن الشقين كما لو أنها موجة، ويُعتبر التراكب أحد الأسس التي ستُبنى عليها طاقة معالجة المعلومات المعززة في الحواسيب الكمومية Quantum computers المستقبلية.
ميكانيكا الكم
إذا كانت النسبية العامة هي النظرية التي نصف من خلالها الكون عند الأحجام الكبيرة، فإنّ ميكانيكا الكم تحكم عالم المقاسات الصغيرة. فهذه النظرية المشتقة أساساً من مبادئ التكميم Quantisation، والشك، وثنائية الموجة-الجسيم، هي مُتَنبئ منقطع النظير بعمل الجسيمات تحت الذرية، على الرغم من أن المبادئ الكامنة غالباً ما تبقى غامضة ومنافية للبديهة. ومثل النسبية العامة، تُعتبر ميكانيكا الكم إطار عمل أيضاً. وقبل أن يكون بوسعك تطبيقه على عمل الجسيمات الحقيقية التي غالباً ما تتحرك بسرعة قريبة من سرعة الضوء، يجب أن تتم مزاوجته بطريقة ما مع النسبية الخاصة.
التشابك
لم يفكر آينشتاين كثيراً في هذه النتيجة لميكانيكا الكم عندما اقترحها مع عالميين فيزيائيين آخرين في عام 1935. وتنص هذه الفكرة على أن حالات جسيمين كميّيّن كانا مترابطين في وقت ما ستبقى كذلك حتى لو فصلت بينهما مسافة طويلة جداً. فالتدخل في أحد الجسيمين له تأثير لحظي في حالة الجسيم الآخر. فقد رفض آينشتاين هذه النتيجة واصفاً إياها بأنها “فعل شبحي عن بعد” spooky action at a distance، وأصر على وجود بعض التأثيرات الفيزيائية غير المرئية التي يُمكنها تنظيم التشابك، وذلك يعني أن ميكانيكا الكم نظرية غير مكتملة.
لم تتوصل العديد من التجارب التي أجريت منذ ذلك الوقت إلى أي أثر لذلك التأثير الفيزيائي. فإذا كان موجوداً، فإنه يجب أن يتحرك بسرعة أكبر من سرعة الضوء بـ 10 آلاف ضعف على الأقل، وهو تحدٍ صارخ لنسبية آينشتاين الخاصة. ويبلغ الرقم القياسي الحالي للمسافة المسجلة بالنسبة إلى التشابك 143 كيلومترا بين فوتونين موجودين فوق جزيرتين مختلفتين من جزر الكناري، وتوجد خطط لتوسيع الاختبارات نحو الفضاء الخارجي.
نظريات الحقل الكمومي
النسبية الخاصة وميكانيكا الكم يرتبطان!
الكتلة والطاقة قابلتان للتبادل وفقاً للنسبية الخاصة. ويُمكن للجسيمات أن تظهر إلى حيز الوجود من العدم -كما تقول نظرية الكم. وتُزاوج نظرية الحقل الكمومي هذه الأفكار لتصوّر جميع الجسيمات على أنها “إثارات” Excitations تظهر داخل حقول كامنة وراءها. فقد بدأ عالم الفيزياء البريطاني بول ديراك Paul Dirac بتحريك الأمور في وقتٍ متأخر من العقد الثاني من القرن الماضي، وذلك عندما وضع معادلته التي تصف كيف تتصرف الإلكترونات النسبية Relativistic electrons -ومعها أيضاً معظم الجسيمات الأخرى من المادة.
لمعادلة ديراك نهاية ليست سارة لأمر بدأ بداية طيبة، فهي تتنبأ بوجود جسيم مطابق للإلكترون من كل جانب عدا امتلاكه لشحنة كهربائية معاكسة. وقد اكتُشف البوزيترون Positron -أول جسيم من الجسيمات ضديدات المادة- في الأشعة الكونية بعد ذلك ببضعة أعوام، ومثّل أول الجسيمات في مجموعة متنوعة جديدة تماما اقترحها علماء الفيزياء النظرية مع تطور نظريات الحقل الكمومي، والتي بزغت جميعها فيما بعد في الواقع.
النموذج القياسي في فيزياء الجسيمات
النموذج القياسي في فيزياء الجسيمات، الذي يُعتبر نتاجاً للعديد من عقود العمل النظري الذي تم تأكيده تجريبياً وبدقة، يتناول آليات عمل ثلاث قوى من القوى الأربع في الطبيعة؛ فهو يصف تفاعلات الجسيمات الحاملة للقوة -البوزون Boson- مع الفيرميونات Fermions المُكوِّنة للمادة، وتقع في وسطها نظريتا حقل كمومي: الإلكترودنياميكا الكمّية QED وهي النظرية الموحدة “الكهروضعيفة” للكهرومغناطيسية مع القوة النووية الضعيفة، والكرموديناميكا الكمّية QCD وهي النظرية التي تصف القوة النووية الشديدة. و في عام 2012 جاء تتويج النموذج القياسي باكتشاف بوزون هيغز Higgs boson الذي تنبأت به النظرية قبل ذلك بخمسة عقود.
قوة كهرومغناطيسية
هذه القوة المحمولة بواسطة الفوتونات عديمة الكتلة، وهي القوة الكمّية التي نعرفها أفضل ما يكون، وهي تحكم في كل الظواهر الكهربائية والمغناطيسية.
قوة ضعيفة
تشمل القوة الضعيفة العملياتِ النووية مثل اضمحلال بيتا المشعة Radioactive beta decays، التي تعتبر جوهرية على سبيل المثال بالنسبة إلى عملية حرق الشمس لوقودها، وتنتقل هذه القوة بواسطة جسيمات تُعرف بالبوزونات Z وW.
قوة نووية شديدة
تربط هذه القوة القوية وقصيرة المجال والمحمولة بواسطة بوزونات تُعرف بالغلوونات Gluons الكواركاتِ مع بعضها البعض، لتؤلف بذلك جسيمات مثل البروتونات والنيوترونات.
بوزون هيغز
إن الكتلة هي الخاصية الأكثر تماسكا للمادة، وكتلة الجسيم الأساسي تُحددها درجة تفاعله مع بوزون هيغز. فوفقاً للنظرية التي اقترحت أول مرة عام 1964، فإن حقول تشبه “الدبس” ومرتبطة ببوزون هيغز تُشكِّل سَحْباً يتغير بتغير نوع الجسيم.
كما أنّ اكتشاف بوزون هيغز يعني أن النموذج القياسي نموذج كامل -وفي الوقت نفسه وبكل غرابة ليس بكامل. ولمعرفة المزيد عن ذلك اقرأ دليل الواقع: ست مسائل لا تستطيع الفيزياء شرحها.