مُتمِّمات التسلسلات الجينية تنقذ الأطفال الرضع من مرض قاتل
- – الطب الحيوي
– أخبار بالتفصيل
مُتمِّمات التسلسلات الجينية تنقذ الأطفال الرضع من مرض قاتل
دواء للضمور العضلي نخاعي المنشأ قد يُبشِّر بعلاجات للأمراض الدماغية الجينية الأخرى
بقلم: ميريديث وادمان
ترجمة: د. عبدالرحمن سوالمه
في مجال الطب الحيوي يحلم الباحثون الذين يتعاملون مع الأمراض الجينية بالوصول إلى خط واضح ومستقيم يربط بين الطفرة التي يكتشفونها وبين فهم آلية المرض الذي تحدثه هذه الطفرة وبين تطوير دواء شافٍ للمرض. ولكن هذا الأمل غالبا ما تثبطه تعقيداتُ علم الأحياء. ولكنّ امتلاك هؤلاء الباحثين لفهم عميق لأساسيات علم الأحياء الكامن وراء مرض ما، قد مكنهم الآن من البدء بالسير في الطريق الصحيح، الذي يوصل إلى ما يبدو وكأنه تقدم منقطع النظير في علاج الضمور العضلي نخاعي المنشأ Spinal Muscular Atrophy، والذي يعرف اختصارا بالمرض SMA. فهذا المرض هو اضطراب عصبي متزايد في الشدة ومسبب للموت؛ حيث يقتل ضحاياه المصابين بالمرض عندما يكون شديدا جدا في سنوات مبكرة من العمر، أي عندما يكونون رضعا أو حديثي المشي. فالعلاج الجديد، والذي يحمل الاسم نوسينيرسين Nusinersen، على وشك الفوز بمصادقة المُنظّمين خلال الأسابيع أو الأشهر التالية، كما قد يكون بادئة للنجاح في علاج الاضطرابات العصبية الموروثة القاتلة، كداء هنتنغتون Huntington disease، أو بعض أنواع التصلب الجانبي الضموري Amyotrophic lateral sclerosis.
ويقول عالم الأعصاب الجزيئية جي. باول تايلور J. Paul Taylor: “هذا إنجاز عظيم في مجالنا، فلم يكن هناك من قبل علاج يغير من مسار الأمراض التنكسية العصبية.”. وجي. باول تايلور من مستشفى القديس يهوذا البحثي للأطفال St. Jude Children’s Research Hospital في ممفيس بتينيسي، ولا تربطه أي علاقة بالدواء ولا الشركات المُطوِّرة له.
ويعتبر هذا الدواء واحدا من مجموعة من الأدوية غالبا ما توصف بأنها مخيبة للآمال، واسمها مجموعة “متممات التسلسل” Antisense التي تستخدم قِطعا من التسلسلات الجينية لتصحيح الأخطاء في عملية تحويل الحمض النووي الريبوزي RNA إلى بروتينات [ومتممات التسلسل هي أحماض نووية تشكل قواعدُها النيتروجينيةُ متممات لتسلسل القواعد النيتروجينية في الـmRNA أو طليعة الـmRNA، بحيث تبطل مفعولها أو تعدل من فاعليتها]. وبذلك، قد يفتح النوسينيرسين الباب لعلاجات مشابهة للأمراض التنكسية العصبية الأخرى. وتقول لورين إينغ Loren Eng، رئيسة مؤسسة الضمور العضلي نخاعي المنشأ SMA Foundation في مدينة نيويورك، وأم لفتاة في السادسة عشرة من العمر مصابةٍ بالمرض: “غيّر النوسينيرسين من قواعد اللعبة؛ فهو دواء يعالج مرضا لم يعالجه أحد من قبل، كما أنه نموذج لكيفية صناعة الأدوية وجعلها تصل لنهاية مراحل التصنيع مبكرا.”
ويعتبر الضمور العضلي نخاعي المنشأ السببَ الجينيَّ الأول للموت في مرحلة الطفولة، ويدمر العصبونات الحركية في الحبل الشوكي وجذع الدماغ بلا رحمة. ووظيفة العصبونات الحركية هي إتاحة الحركة بشكل عام، بما في ذلك البلعُ والتنفسُ. ويوجد تقريبا واحدٌ من كل 50 بالغا حاملٌ دون أعراض Asymptomatic للخلل الجيني الذي ينتقل بصفة متنحية ويسبب المرض، وهو خلل في الجين SMN1 [ اختصار العبارة: Survival Motor Neuron 1]. وبالنسبة إلى الأطفال الذين يرثون نسختين من الجين المختل (نحو 1 من كل 8000 إلى 1 لكل 12000 رضيع) يكون الجين SMN مفقودا في أغلبه، مما يقود إلى موت العصبونات الحركية. أما الأطفال حديثو المشي المصابون بالمرض بشدة كبيرة، فإنهم في النهاية يختنقون عندما تنهك عضلاتهم التنفسية.
ويمكن للأطفال المصابين بدرجة خفيفة من المرض أن يعيشوا حتى سن البلوغ، ولكن عليهم أن يتعاملوا مع ضعف متزايد الشدة وأحيانا يكون مسببا لشّل الحركة بشكل عام. أما عن مسار المرض، فإنه يعتمد على كمية النُسخ التي يحملها الأشخاص من جين مختلف قليلا، وهو الجين SMN2، والذي ينتج كميات قليلة من البروتين SMN. مع العلم أن هذا البروتين في الغالب يتدمر سريعا، لأنه وبعد نسخ الجين SMN2، تقتطع الخلايا جزءا مهما من التسلسل الجيني المُزمِّز للبروتين، والذي يدعى الإكسون 7، مما ينتج منه نسخة مقتطعة من البروتين.
أما النوسينيرسين، وهو قصاصة من حمض نووي معدل شبيه بالحمض RNA، فيمكنه الحفاظ على هذه العصبونات الحركية المهمة على قيد الحياة. وظيفة هذا الدواء المكون من تتابع جيني قصير أنه يتمم جزءا من طليعةٍ Precursor لحمض نووي ريبوزي مرسال (mRNA) ينتجها الجين SMN2، ويرتبط هذا التتابع الجيني بالجزيء ويغير من طريقة معالجته بحيث يصير الإكسون 7 متضمَّنا في الحمض RNA النهائي، ويَنتج عندنا جين مكتمل يُرمِّز لبروتين فاعل فعالية كاملة (انظر الشكل).
وتتضح فعالية الدواء من النتائج عالية الإيجابية من دراستين في المراحل السريرية المتأخرة، واللتين لمّا تنشر نتائجهما بعد. ففي 7 نوفمبر، أوقفت تجربة للدواء كانت أجريت على 84 طفلا يستخدمون الكراسي المتحركة للتنقل بسبب أن منافع العلاج صارت واضحة جدا لدرجة أنه صار من غير الأخلاقي منعُ علاجات متممات التسلسل عن الاثنين وأربعين طفلا في مجموعة المقارنة. وقد فحص الباحثون الأطفال على 33 مقياسا للحركة كالجلوس والوقوف والخطوات ووجدوا أن هناك “تحسنا إحصائيا ملحوظا بشكل كبير” في الأطفال الذين عولجوا. وفي يوليو أوقفت دراسة مماثلة أجريت على 121 طفلا رضيعا مصابين بأشد صورة من بالمرض، والذين كان من المقدر أن يموتوا خلال عدة سنوات، وقد أوقفت هذه الدراسة أيضا للسماح للأطفال الرضع في مجموعة المقارنة أن يبدؤوا بأخذ النوسينيرسين. وبعدها بقليل، منحت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، ووكالة الأدوية الأوروبية هذا الدواء بما يعرف بـ “المراجعة ذات المسار السريع” [وهي عملية هدفها التسريع من تطوير الدواء، والتعجيل من مراجعته؛ من أجل توفير العلاج للأمراض الخطيرة – المترجم].
ومن الواضح أن النوسينيرسين أنقذ كاميرون هاردينغ من تشارلستون Cameron Harding، في كارولينا الجنوبية، والذي شُخِّص بضمور العضلات نخاعي المنشأ عندما كان بعمر 5 أسابيع، بعد أن لاحظ الأبوان أن وليدهما لم يكن يستطع التحرك، وأنه كان يكافح لأخذ النفس. وبدأ بأخذ الدواء في تجربة سريرية على عمر 7 أسابيع وهو مستمر بأخذ الدواء حتى الآن. وفي نهاية هذا الشهر سيصير عمره 3 سنوات. وخلال ذلك الوقت، تبدلت حالته من الاستلقاء بلا حراك، إلى تحريك ذراعيه، ومسك الألعاب، ومن ثم الوقوف بلا مساعدة، ومن ثم الجلوس بمساعدة، وفي النهاية إلى السير بكرسي عجلات خفيف يحركه بذراعيه. وهنا يقول والد كاميرون، روب هاردينغ: “من الموكد أنه لم يكن ليكون حيًّا من دون هذا الدواء. ولم يكن ليستمر حيا أكثر من 6 أشهر.”
ويضيف أن تحسن كاميرون لايزال مستمرا. “كنا خائفين جدا أنَّ تَقدمه سيصل إلى مرحلة الاستقرار، وأن الأمر سينتهي عند ذلك، ولكن اتضح أنها ما فتئ يصير أقوى فأقوى.”
وعلى مدى العقدين الماضيين، كان النجاح الذي حظيت به أدوية متممات التسلسل أقل كثيرا من هذا الدواء، بحيث لم تصل إلا قلة منها إلى المصادقة للبيع في السوق. بل إن الدواء الأخير منها كان الأكثر عرضة للنقد؛ ففي سبتمبر، حازت شركة ساريبتا للصناعات العلاجية Sarepta Therapeutics من كامبريدج، في ماساشوستس، على مصادقة من إدارة الغذاء والدواء على دواء “إيتيبليرسين” eteplirsen، والذي هدف إلى علاج الأولاد المصابين بطفرة معينة تتسبب في مرض موروث آخر متزايد في الشدة ومسبب للموت في النهاية، وهو الحثل العضلي الدوشيني Duchenne muscular dystrophy. أما آلية عمل الإيتيبليرسين على المستوى الجزيئي فهي معاكسة تماما للنوسينيرسين؛ فهي تزيل الإكسون الذي يعرقل قراءة طليعة الحمض mRNA الخاص ببروتين الديستروفين، وهو بروتين تحتاج إليه العضلات. ولكنَّ البروتين الناشئ مقتَطَعُ البُنية، ومنقوصُ الفعالية. وقد هاجم النقاد إدارة الغذاء والدواء بحجة أنها صادقت على الدواء فقط بسببٍ من الضغط الذي مارسه الساسة وآباء الأطفال المصابين، فارضين سلطتهم على مستشاري موظفي إدارة الغذاء والدواء، ومعتمدين على نتائج التجارب التي لا يمكن وصفها بأكثر من أنها غير حاسمة.
مع أنه ما من أحد يتوقع أن تُشن حروب مماثلة على النوسينيرسين، باعتبار النتائج السريرية المذهلة، إلا أن هذا الدواء ليس دواء مثاليا. فمع أن الدواء لم ينتج أعراضا جانبية خطيرة، إلا أنه لا يمكن أن ينقذ العصبونات الحركية التي ماتت لتوها، ما يعني أنه لا يستطيع استعادة الوظيفة الحركية للمرضى المصابين بضمور العضلات نخاعي المنشأ الأكبر عمرا. ومن المؤكد أن الهدف هنا هو أن يُبدأ بالعلاج حتى قبل أن يطور الأطفال الرضع أعراض المرض، ومن المتوقع أن ينادى لفحص أولي للمواليد الجدد على مستوى عالمي بعد أن يصادَق على الدواء. ويقول ستانلي كروك Stanley Crooke، المدير التنفيذي لشركة أيونيس للصناعات الدوائية Ionis Pharmaceuticals في كارلسباد بكاليفورنيا، والتي طورت النوسينيرسين وبعدها رخصت بالدواء لشركة بيوجن Biogen في كامبريدج: “كلما عجلنا في العلاج، كان الأثر أفضل”.
لقد حولت إينغ وزوجها، ديناكار سينغ، ما يزيد على 110 ملايين دولار إلى بحوث الضمور العضلي نخاعي المنشأ عن طريق المؤسسة التي أنشآها في 2003، وتقول إن حكاية النوسينيرسين تُجسد كيف أن الأمر يحتاج إلى “مجتمع” من العلماء، والأطباء، والشركات، والمؤسسات غير الربحية، والعائلات من أجل تطوير ناجح للدواء. فعلى سبيل المثال، ساعدت مؤسستهما بتمويل أدريان كرينر Adrian Krainer، وهو عالم بالكيمياء الحيوية، وخبير بعمليات وصل الحمض RNA في مختبر كولد سبرينغ هاربر في نيويورك. وبعد ثماني سنوات من اكتشاف الجينات SMN في 1995، بدأ كرينر بتطوير النوسينيرسين عندما قام بهندسة قصاصة من شيفرة جينية وظيفتها التعديل من وصل طليعة الحمض mRNA الناتجة من الجين SMN2، بحيث يحتوي الحمض RNA النهائي على الإكسون 7.
وفي مجال آخر، أقنعت إينغ باحثين تايوانيين بأن يبيعوا سلالة من الفئران المُصابة بالضمور العضلي نخاعي المنشأ بسعر معقول، بحيث يمكن تجربة النوسينيرسين وأدوية أخرى عليه. وبعدها، قدمت إينغ بعض مدراء شركة إيونيس إلى مدراء تنفيذيين من شركة بيوجن. وبحلول الوقت الذي صار فيه الدواء جاهزا لتجربته في تجارب المرحلة الثالثة التي تعتبر شديدة الأهمية، قامت الشركة، ومجموعات دعم المرض SMA والدفاع عنه، والأطباء بإقناع عدد كاف من آباء الأطفال المصابين بالضمور العضلي نخاعي المنشأ أن يشاركوا في تجربة قد لا يحصل فيها أطفالهم على الدواء الفعلي؛ إذ إن وجود مجموعة تعالج بالدواء الغفل أمر ضروري من أجل إثبات قيمة الدواء للمنظِّمين.
وبسبب أن أدوية متممات التسلسل لا تعبر الحائل الدموي الدماغي Bblood brain barrier، حُقِن الدواء قريبا من قاعدة العمود الفقري في السائل الذي يغمر الدماغ والحبل الشوكي، حيث توجد العصبونات الحركية المصابة. أما في مجموعة الدواء الغفل، فقد وُخز الأطفال والأطفال الرضع الذين اختيروا عشوائيا بالإبر [لكن من دون دواء] في أعمدتهم الفقرية. ويعلق كرينر قائلا: “كان من الصعب جدا “التفرج” على التجارب التي حقن فيها الأشخاص بدواء غفل وعدم تقديم الدواء لهم.” ويضيف قائلا إن نتائج المرحلة الثالثة هي “أفضل الأخبار التي يأمل المرء بأن يسمعها.”
وفي ورقة بحثية نشرت في دورية ذي لانسيت The Lancet الطبية الأسبوع الماضي تصف تجربة للنوسينيرسين في المرحلة الثانية تبين أن الحقن في العمود الفقري بهذه الطريقة يوصل الدواء إلى هدفه. كما بيّنت عينات التشريح بعد الموت لعدة أطفال رضعٍ ماتوا خلال التجربة أن الدواء سافر إلى العصبونات الحركية المستهدفة في الدماغ والحبل الشوكي. وفي عينات من نسيج الحبل الشوكي لأطفال رضع، كانت نسبة بروتين الـSMN مكتملِ الطول مرتفعة مقارنة بالأطفال الذين لم يعالَجوا.
وحتى تستمر منافع النوسينيرسين، على الأرجح أن مرضى الضمور العضلي نخاعي المنشأ سيحتاجون إلى حُقن بالعمود الفقري مرتين إلى ثلاث مرات في السنة. ولكن هذا لن يمنع ظهور الأعراض الناتجة من فقدان البروتين SMN في الأنسجة والأعضاء الأخرى، لأن الدواء لا يسافر إلى أبعد من الحائل الدموي الدماغي.
ومع ذلك، فقد أثار نجاح النوسينيرسين وطريقة إيصاله إلى العصبونات حماسة أولئك الذين يعملون في الأمراض التنكسية العصبية الموروثة الأخرى والتي تسببها عيوب جينية يمكن، نظريا، أن يتغلب العلماء عليها بأدوية متممات التسلسل التي تتلاعب بطريقة معالجة الحمض RNA. ويقول والتر كوروشيتز Walter Koroshetz: “هناك الآن الكثير من الإثارة حول علاجات متممات التسلسل. إذا حُلت مشكلة وصول علاجات متممات التسلسل إلى العصبونات والخلايا الدبقية، فإن هناك إمكانية أن تحصل عدة أمراض جينية المنشأ على علاجات فعالة”، ووالتر كوروشيتز Walter Koroshetz هو خبير بداء هنتنغتون، ومدير للمعهد القومي للاضطرابات العصبية والسكتات الدماغية في بيثيسدا بماريلاند.
وتخوض شركة إيونيس الآن تجارب سريرية للأدوية متممة التسلسل التي توصَل بطريقة مشابهة، وذلك لعلاج داء هنتنغتون، وأحد أنواع التصلب الجانبي الضموري. كما تُختبر أدوية الشركة أيضا على نماذج حيوانية لمتلازمتي ريت وآنجلمان Rett and Angelman syndromes، وهما اضطرابان عصبيان ينتجان من طفرتين منيعتين عن العلاج بمتممات التسلسل.
أما جيفري روثشتاين Jeffrey Rothstein -عالم أعصاب في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز Johns Hopkins University في بالتيمور بماريلاند، ولم يكن مشتركا بتجارب النوسينيرسين، فيرى أن نجاح الدواء هو درس عملي في أهمية فهم أسس المرض. ويقول بهذا الصدد: “إنها قصة معبرة عن الانتقال من العلوم قبل السريرية المدهشة إلى تطوير هذا الدواء. وهذا يثبت أنك عندما تصل إلى المشكلة المبدئية، فإنه بإمكانك حقا أن تُغير من مسار المرض.”
The ©2016 American Association for the advancement of Sciences. All right reserved.