نظرية الوتر- الحلقة التي يمكن في النهاية أن تحل عقدة الكون
بقلم: جون كارترايت
ترجمة: أ. د. محمد ميرزا قيصرون
هل تستطيع نظريتان متنافستان تفسران تركيب الكون أن تكونا في الحقيقة الشيء نفسه؟ يمكن للشد على الخيوط أن يكشف واقعا أعمق
مع قرع الجرس للجولة الأخيرة، فإن كل واحدة من المتنافستين تقف في زاويتها. وتلهث البطلة على الحبال، بينما يسترخي خصمها الأضعف في الجهة المقابلة، مدماة إلا أنها مصممة.
ويتوقع الجميع نهاية مثيرة. فالمتحدية قدمت عرضا جيدا واستطاعت أن تصل إلى البطلة بعدة لكمات مباشرة، ويجب الاعتراف بأنها غشت بعض المرات لتجاهلها قواعد الفيزياء. إلا أن هذا لا يقارن بالخدعة الكبيرة للبطلة المفضلة: الرقص في سبعة أبعاد غير مرئية.
إن هذا ليس قتالا عاديا، إنه لنيل شرف تفسير التركيب الأساس للكون بنجاح. وبطلة الوزن الثقيل الحالية هي نظرية الأوتار String theory، وهي تركيب معقد ادعت لوقت طويل بأنها «نظرية كل شيء». بينما المتحدية الجديدة هي نظرية الجاذبية الكمّيّة الحلقية Loop quantum gravity التي لها تطلعات متواضعة ومع ذلك يمكنها أن تغير وجه الفيزياء كما نعرفه.
لقد اعتقد الفيزيائيون لزمن طويل أن عليهم تركيز آمالهم على منافس واحد فقط. ولكن مع عودة المتنافستين إلى الحلبة يحصل ما هو غير متوقع: تمد كل واحدة يدها لتصافح الأخرى. وإذا كانت الدلائل الأخيرة محقة، فإن هذا يعني أن النظريتين هما في الحقيقة النظرية نفسها متنكرة لها عواقب ذات مدى بعيد وواسع. ويقول لورينت فرايدل Laurent Friedel الفيزيائي النظري من معهد بريميترPerimeter Institute في مدينة واترلو بكندا: «إن الثورة الجديدة ستأتي من القادرين على تخطي الحدود.»
يدور هذا النزال في أصله حول أكثر قوة مربكة، وهي قوة الجاذبية. فقد أخبرنا آينشتاين في نظريته في النسبية العامة أن الجاذبية هي نسيج منتشر، زمكان Space-time، يلتف بسلاسة حول أجسام هائلة الكتلة. وهي نظرية ناجحة بشكل رائع في تفسير لأشياء مثل الكواكب والنجوم والمجرات، إلا أنها أقل نجاحا بكثير عند مستوى الأشياء الصغيرة.
وعليها هنا أن تجابه ذلك العملاق الآخر في الفيزياء الحديثة، النظرية الكمّية Quantum theory التي تخبرنا بأن كل شيء يأتي في أجزاء متقطعة. ويوحي هذا أن الزمكان، على أدق المقاييس، ليس ناعما بل مهترئا ومفتولا بشكل ما.
فالنظرية الكمية والنسبية ليستا متوافقتين بالأساس. وتصير المسألة أصعب ما يمكن حول الأحداث المنفردة Singularities، وهي مناطق ضئيلة في الزمكان ذات مجال جاذبية متجانس، كما يظهر عند الثقوب السوداء أو الانفجار الكبير. وهنا تفشل الفيزياء بالتحديد.
وهنا حيث تدخل بطلتنا للوزن الثقيل إلى الحلبة. فقد بدأت نظرية الأوتار في السبعينات من القرن الماضي كطريقة لوصف قوة واحدة في الطبيعة، هي القوة القوية Strong force التي تربط جسيمات تدعى كواركات داخل النوى الذرية. إلا أن طموحاتها توسعت في النهاية لوصف قوى الطبيعة الثلاث الأخرى أيضا بما في ذلك الجاذبية. وتهدف إلى الوصول إلى ذلك بوصف المادة والطاقة على أنها مؤلفة من أوتار مهتزة. وهذا يتعارض مع جوهر الفيزياء المقبولة التي ترى كل المادة مؤلفة من جسيمات أولية –إلكترونات وكواركات وفوتونات وغير ذلك – خالية من أي شكل أو تركيب أصغر.
ومثلما يختلف صوت الموسيقى الصادر عن وتر الكمان عن صوت التشيلوCello، فكذلك يحدد نمط اهتزازات وتر في نظرية الأوتار نوع الجسيم الذي تعطيه على أنه: يمكن أن «يسمع» مثل كوارك أو إلكترون أو فوتون. ومن بين هذه الأنماط الاهتزازية لهذه الأوتار شيء لا يبدو مثل الجسيمات المعهودة بل مثل غرافيتون Graviton -جسيم كمي ينقل الجاذبية ويعطي هيكلا للزمكان.
وقد تكون نظرية الأوتار ناجحة إلا أنها مثل منافساتها القديمات لها نصيب من المعوقات. إذ يجب أن تهتز الأوتار في أحد عشر بعدا، ولذا يؤمن أنصارها بأنه للوصول إلى ذلك العدد، بدءا من الأبعاد الثلاثة التي نراها، يجب أن تكون الأبعاد الإضافية مطوية حول الأوتار بإحكام بحيث لا يمكننا رؤيتها وبالفعل لا تستطيع أي تجربة يمكن تصورها أن تتحسس هذه الأبعاد. وحتى لو استطعنا ذلك فيمكن أن تحدث عملية الطي بطرق كثيرة، بحيث إن الكون ليس كبيرا بالشكل الكافي لكتابة ذلك العدد، ولذا لن نعرف عن ماذا سنبحث.
وقد تسبب كل هذا في أن تنال نظرية الأوتار سيلا جارفا من الانتقادات التي توحي أن افتقارها إلى قدرة التنبؤ يستبعدها عن المنافسة العلمية.
لكن هذه النظرية تقدم بالفعل تنبؤا واحد: التناظر الفائق Supersymmetry. فتناظر المرآة الانعكاسي Mirror symmetry في نظرية الأوتار يعني أنه يجب أن يكون لكل جسيماتنا المألوفة توأم ثقيل فائق التناظر. إلا أننا فشلنا حتى الآن في اكتشافها باستخدام أقوى مولدات الجسيمات في العالم وهو مصادم الهادرونات الكبير قرب جنيف في سويسرا. ويقول كارلو روفيلي Carlo Rovelli، من مركز الفيزياء النظرية Centre of Theoretical Physics في مدينة مرسيليا بفرنسا، إنه من المحتمل أن غياب جسيمات فائقة التناظر لم يقتل نظرية الأوتار إلا أنه حقنها بجرعة تواضع ويتابع قائلا: «لم يقل هذا أحد بعد لأن الناس خائفون من قوله.»
وروفيلي رائد ونصير للنظرية الضعيفة، الجاذبية الكمية الحلقية التي دخلت في المنافسة في الثمانينات من القرن الماضي، وبعد عقد من الزمن من نظرية الأوتار، لكنها بالشكل نفسه وعدت أن تتصدى للتناقض بين النسبية العامة والنظرية الكمية.
وفي حين أشاد بعض الفيزيائيين النظريين بنظرية الأوتار لطموحها الجريء، انحاز آخرون إلى زمكان حلقي لتواضعه. فهو لا يحاول أن يفعل أكثر مما هو مطلوب للتوفيق بين النظرية الكمية والنسبية العامة –وهذا أسلوب بطيء ودائم يرى البعض أنه سيربح على الأرحج في النهاية.
وعلى الرغم من أن الحلقات بقيت نظرية، كالأوتار، إلا أن مُنظِّرين، مثل روفيلي، توصلوا إلى تنبؤات يمكن التحقق منها (انظر الإطار: إغلاق الحلقة). وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك عقبة. لأن صلابة رغوات الدوران المغزلي (الفتل) Spinfoams كبيرة لدرجة لا تلتزم فيها بصورة آينشتاين للكون، حيث ينضغط ويمتط الفضاء والزمن بحسب الشخص الذي ينظر إليهما.
ويوفر زمكان حلقي وأوتار مهتزة تصورين مختلفين تماما لتركيب الكون. وأكثر شيء يمكن أن يتفق عليه أشد أنصار أي فريق هو تاريخ طويل من عدم التكلم مع بعضهم. ويقول لي سمولين Lee Smolin، وهو رائد آخر للجاذبية الكمية الحلقية من معهد بريميتر: «قلة من الناس قد عملوا بالتفصيل على المسارين معا، ويجهل معظم العاملين على أسلوب واحد ما يقوم به الفريق الثاني، وعندهم سوء فهم عنهم.»
ويؤمن فريديل بأن الاختلاف يعود في الواقع إلى الإغريق القدماء وولادة العلم. ويقول إن الاختزاليين Reductionists يقفون على طرف وهم، مثل علماء نظرية الأوتار، يعتقدون أنه يجب أن نفهم مكونات الطبيعة الأصغر فالأصغر، وفي المقابل هناك من يعتقد أن التقدم يأتي من فهم الصورة الأكبر وطبيعة الفضاء، كما يفعل مُنظِّرو الحلقات. ويتابع قائلا: «لقد بقيت الفيزياء ناجحة لمدة 2000 سنة من دون أن ترأب هذا الصدع.»
إشارات مستجدة
ولكن، مع عدم تمكن الأوتار أو الحلقات من إنزال ضربة قاضية، فإن الأشياء تتغير. وقد بدأ المُنظِّرون وبخاصة اليافعين منهم، بالتحرك بين الفريقين لأول مرة، باحثين عن تواصل بينهما. ويقول روفيلي: «إنني مندهش بهذا التغير في السنوات الأخيرة.»
وقد ظهرت أولى الإشارات بوجود شيء مشترك عام 2011 عندما أعاد نوربيرت بوديندورفير Norbert Bodendorfer وزملاؤه في جامعة وارسو University of Warsaw كتابة نظرية الأوتار وجسيماتها فائقة التناظر على الزمكان الموصوف في الجاذبية الكمية الحلقية، مبرهنين على أنه يمكن لإطارين مختلفين تماما أن يتعايشا على الأقل.
وبرزت إشارة أخرى بعد ثلاث سنوات في مقالة لكل من رودولفو غامبيني Rodolfo Gambini، عالم نظرية الحلقات من جامعة ريببلك University of the Republic في مدينة مونتفيديو بالأورغواي، وخورخي بولين Jorge Pullin من جامعة ولاية لويزيانا في مدينة باتون روج. وقد جادلا في مقالتهما في أنه لجعل النسبية والجاذبية الكمية متوافقتين تماما يتعين عليهما أن يحددا مدى الجسيمات المحتملة باستخدام حيلة مستعارة من نظرية الأوتار.
ولم تُفرز هذه التحقيقات الانفرادية إلا النزر اليسير. إلا أن سلسلة من الدراسات التي أجريت مؤخرا اقترحت رابطا أكثر متانة – رابطا اكُتشفت أسسه صدفة في أوائل التسعينات من القرن الماضي. في ذلك الوقت اقترح الفيزيائي الهولندي جيرارد تي هوفت Gerard ‘t Hooft الحائز على جائزة نوبل، وليونارد سسكند Leonard Suskind، وكلاهما من جامعة ستانفوردStanford University في ولاية كاليفورنيا، بأنه من المحتمل أن يكون العالم ثلاثي الأبعاد الذي نعيش فيه وتأثير الجاذبية فيه ليس أكثر من إسقاط لأشياء تحدث على حدوده المسطحة ثنائية الأبعاد.
وليس الجزء الأكبر من الكون وفق هذه الصورة المتطرفة أكثر «واقعية» من الهولوغرام Hologram ثلاثي الأبعاد الموجود على الوجه الخلفي لبطاقة ائتمان Credit card. فالواقع هو الحدُّ المسطح وكل شيء آخر وهم.
ومن حينها نضج مبدأ الهولوغرام ليصير مجالَ بحث رئيسيا في نظرية الأوتار. ومن وجهة نظر على الحدَّ تُصبح الفيزياء الصعبة بشكل مخيف أكثرَ منطقية. لكن يبدو حاليا أنه من المحتمل أن يوفر الحد مكانا لنظرية الأوتار لتتشابك مع الجاذبية الكمية الحلقية. ويقول روفيلي: «إن كل واحد من الطرفين يتقدم خطوة نحو الآخر، وهناك أرضية مشتركة تقع على الحد.»
وفي نوفمبر من العام الماضي وجد فيزيائيا الحلقة النظريان فالينتين بونزوم Valentin Bonzom، من جامعة باريس نورث University of Paris-North في فرنسا، وبيانكا ديتريش Bianca Dittrich، من معهد بريميتر أنه يمكن التوصل إلى حساب جاذبية الهولوغرام الذي قام به آخرون ضمن مفهوم نظرية الأوتار، باستخدام الجاذبية الكمية الحلقية وبالنتائج نفسها تماما. وتوصل بوديندورفير بعد شهر إلى اكتشاف مهم آخر. فعادة عندما تستخدم نظرية أوتار الهولوغرام لحساب الجاذبية، فإنها تعلق عند تلك المنفردات المزعجة مثل الثقوب السوداء. إلا أن بوديندورفير بين أنه يمكن لرياضياته الحلقية أن تصحح تلك المنفردات. ويقول: «إن ما عندي كان مقترحا للكيفية التي يمكن أن تتوأم فيها الجاذبية الكمّيّة ضمن نظرية الأوتار.»
قد تكون هذه النتائج عفوية إلا أن دراسات أعمق تساهم الآن في هذا. كما عاد فريديل مع زميلين آخرين في شهر نوفمبر من العام الماضي إلى الأساسيات: فقد حاول وصف منطقة صغيرة من الفضاء محاطة بحدٍّ مستخدما النسبية العامة فقط. وقد تبين أن الكميات الرياضياتية التي تُعرِّف حدَّه تشبه كميات في كل من نظرية الأوتار والجاذبية الكمية الحلقية، على الرغم من أنه لم تكن أي من النظريتين هي نقطة انطلاق.
وخلال ذلك اشترك مُنظِّر الحلقات موكسن هان Muxin Han، من جامعة فلوريدا أتلانتك في مدينة بوكا راتون، مع مُنظِّر الأوتار لينغ يان هانغ Lin Yan Hung، من جامعة فودان في مدينة شنغهاي بالصين، في محاولة لحساب احتمال تطور إحدى فقاعات الفتل (الدوران المغزلي) Spinfoam إلى أخرى في الجاذبية الكمية الحلقية. وتتطور فقاعات الفتل، مثل فقاعات الصابون التي تنتفخ خلال الاستحمام، من تلقاء نفسها، لكن فقط حساب الكيفية التي تتطور بها قد لا يكون سهلا. ولجعل حساباتهم على فقاعات الفتل أكثر سهولة عينها هان وهانغ على حد. ومرة أخرى برزت سمات رياضياتية تذكر بنظرية الأوتار بشكل مريب. ويقول هانغ: «إن هذا يعلم كلا من نظريي الأوتار ونظريي الجاذبية الكمية الحلقية شيئا لم يأخذوه بعين الاعتبار سابقا.» فبدلا من أن تكونا متنافستين، يحتمل أن نظرية الأوتار والجاذبية الكمية الحلقية، على الأقل فيما يختص بالحد، هما الشيء نفسه.
وهذا يثير أسئلة حول: ما هو وأين يقع هذا الحد تماما. وقد بدأت نظرية الهولوغرام ذلك بتخيله عند طرف الكون، إلا أن مُنظِّري الأوتار والحلقات حاليا ليسوا بهذه الصرامة ويفكروا في حدٍّ على أنه في أي موضع في الفضاء. ويمكن أن تظهر فيزياء جزء -حلقة وجزء -وتر، التي يعمل عليها هان وهانغ وغيرهما، على أدق المقاييس، إذا أخذت شريحة عشوائية عبر الزمكان.
إلقاء الظل نفسه
يقول روفيلي إن هذا قد يبدو عشوائيا، إلا أنه عندما تفكر في الموضوع فإننا نضع حدودا دائما، كبوابات نلاحظ العالم من خلالها. فنحن نضع ميزان حرارة على طرف جسم لقياس درجة الحرارة، ونلتقط فوتونات تصطدم بالسطح المستوي لفيلم فوتوغرافي لتسجيل ضوء. والنقطة المهمة هي أنه يحتمل أن تكون هذه الصورة المسطحة نتيجة أكثر من حادثة واحدة، بالطريقة نفسها التي يمكن بها أن ينتج ظل يشبه الفراشة من فراشة حقيقية أو من ربط سبابة يدك بسبابة اليد الأخرى وهز أصابعك. فقد تبدو نظريتا الأوتار والجاذبية الكمية الحلقية مختلفتين في المجمل عندها، لكن يحتمل بشكل ما أن تلقيا الظل نفسه.
وإذا كان هذا صحيحا، فيحتمل أن يجعل نتائج التجارب مبهمة. إذ يمكن أن توفر ملاحظة جسيمات فائقة التناظر مثلا برهانا على نظرية الأوتار الحلقية أو نظرية الأوتار المعروفة، ولا يمكن التفريق بين الاثنتين على كاشف مستوٍ. هذا بفرض أنه يمكن الربط التام بين الأوتار والحلقات في المقام الأول. ويقول روفيلي: «لا يوجد نظرية أوتار – حلقات بعد. ورأيي الشخصي هو أنه لا تزال لدينا نظريتان مختلفتان. يمكن أن تكون إحداهما صحيحة والثانية غير صحيحة، ويمكن أن تكون كلتاهما خطأ.»
ويحتمل أن هذا صحيح. إلا أن هناك إثارة حقيقية بين الفيزيائيين الأصغر سنا إلى الوجهة التي يمكن أن تؤدي إليها المصالحة بين الحلقات والأوتار. وحتى لو لم تصل إلى إجابة محددة لكنها يمكن أن تدل على الاتجاه نحو واقع أعمق، واقع يمتلك تنبؤاته الذاتية الفردية. وفي تلك الحالة، فإن إيجاد مكان تستطيع فيه نظريتا الأوتار والحلقات ترجمة لغتهما الأم بينهما قد لا يكون شيئا سيِّئا. فالدبلوماسية تتطلب قبل كل شيء أن يتوقف الخصمان عن القتال.