صندوق الدماغ : شرائح متعددة المهام قد تضاهي دماغ الإنسان – Brain box: Multitasking chips that can match the human mind
بقلم: ليزبيث فينيما Liesbeth Venema
ترجمة: عبدالوهاب أحمد الحجي
مكوِّن كهربائي كان يعتقد أنه مستحيل يقوم اليوم ببناء أدمغة آلية لها القدرة على التفكير المستقل
Brain box-Multitasking chips that can match the human mind
هناك شيء يجري خارج نافذتك – مستطيلات لامنتظمة الشكل تمر مسرعة، أحدها يتمايل حتى يتوقف، ويخرج سلسلة من الأشكال الصغيرة غير المنتظمة بعدة ألوان. فأصوات عالية التردد تتسارع أثناء تجمع الأشكال الصغيرة بفوضوية لتشكل صفاً يقف خلف شكل أكبر.
وتمر أجزاء من الثانية ويتضح كل شيء: مجموعة من أطفال المدارس وصلوا في حافلة واصطفوا خلف مُعلِّمهم. قام مخك بأخذ فوضى من المدخلات الحسية وأنتج تجربة نقية – كما يفعل كل يوم خلال حياتك.
ليته كان باستطاعة الحواسيب القيام بالمثل. قد نتحدث عن الذكاء الاصطناعي وهو يتعلم الذكاء الإنساني مثل قيادة السيارة أو لعب البوكر، ولكن عندما يتعلق الأمر بالفهم السريع لمجموعة هائلة غير مرتبة من المعلومات، لا نستطيع بناء جهاز ذكاء اصطناعي يستطيع حتى الاقتراب من قدرة عقولنا. هذا يرتبط جزئياً بألغاز كيفية عمل الدماغ الإنساني التي يصعب علينا شرحها. ولكن يعود أيضاً إلى عنق زجاجة متأصل في تركيب كل حاسوب لمدة أكثر من نصف قرن.
الآن قد نكون على حافة التخلص من هذا التركيب بفضل نموذج حوسبة حديث وثوري، إذ يستخدم معدات تقوم بالوقت نفسه بتخزين ومعالجة المعلومات – بشكل مماثل لشبكة الخلايا العصبية في الدماغ . فإذا قام هذا التركيب بتلبية وعده فقد نستطيع استحداث أدمغة آلية تستطيع تفسير تدفقات كبيرة من المعلومات في الزمن الفعلي، و تتعرف على الأنماط التي قد تفوتنا، وربما تتعلم دون أي مساعدة من الإنسان.
الحواسيب المحمولة، الهواتف الذكية، الألواح الإلكترونية، أياً كانت: كلها تتشكل من تركيب يعود إلى زمن جون فون نيومان John von Neumann، أحد آباء الحوسبة. فقبل نحو 70 عاماً، اقترح نيومان أن الحواسيب يجب أن تتكون من وحدات منفصلة للمعالجة Processor والذاكرة Memory. قد لا يبدو هذا الاقتراح عظيماً، ولكنه عنى أنك لن تحتاج إلى تغيير توصيلات الحاسوب في كل مرة أردت تشغيل برنامج جديد. تقسيم الشغل هذا قد عمل بشكل جيد لنا منذ ذلك الوقت، وأتاح لنا صناعة حواسيب خارقة السرعة عن طريق بناء وتشغيل الذاكرات والمعالجات بالتزامن.
ولكن هناك ثمنا! فإن تركيب فون نيومان يعني أن المعالج عليه الدخول إلى الذاكرة في كل مرة يحتاج فيها إلى المعلومات؛ الأمر الذي يتطلب تدفق الإلكترونات ذهاباً وإياباً بين المكانين، مما يجعل المعالج خاملاً في أغلب الوقت وهو ينتظر المعلومات. هذا أحد الأسباب الذي ترجح وجود أكثر من “لب” Core واحد في حاسوبك المحمول – إذ تُضاف أكثر من وحدة معالجة ولكل منها طريقها الخاص إلى الذاكرة. هذا يعني أن كل هذه الألباب تستطيع طلب المعلومات بالوقت ذاته، مما يسرع الجهاز بشكل كلي.
“عنق زجاجة تأصل في تركيب الحاسوب لسبعين عاماً”
في هذه الأيام، فإن عنق الزجاجة بدأ بإعاقتنا بالفعل. فهناك معلومات للنقل أكثر منذ أي وقت مضى، خصوصاً مع سيطرة ثورة المعلومات الكبيرة Big data. وبدأنا بالفعل نشهد نهاية ميعاد عنق الزجاجة: مثلاً، هناك خوارزميات تقوم بتوقع من سيصاب بنوبة قلبية بشكل أفضل من الطرق المعتمدة لتقييم الدماغ في المنظومة الطبية الحالية. فهذه الخوارزمية التي صمّمها باحثون في جامعة نوتينغهام البريطانية، حققت هذا الإنجاز عن طريق تحليل السجلات الطبية الإلكترونية لما يقارب 400 ألف شخص، وهي عملية هائلة في معالجة المعلومات. و بهيمنة ما يسمى بإنترنت الأشياء Internet of things الذي يحتوي على أدوات يومية أكثر مما مضى – من إشارات المرور حتى الثلاجات – سيكون للأجهزة نطاق أكبر لتوفير المعلومات والفوائد المتعلقة بحياتنا.
قد يكون هذا الأمر رائعاً إذا أُدير ذلك بالشكل الصحيح. ولكن الحواسيب بالفعل ترتفع حرارتها تحت ضغط الحجم المهول للمعلومات. وفقاً لتقرير من وزارة الطاقة الأمريكية، ما بين 5 إلى 15 في المئة من طاقة العالم تستهلكها الحوسبة، أغلبها يهدر في تحريك المعلومات. ولهذا السبب يجب توسيع عنق زجاجة فون نيومان، أو الأفضل التخلص منها بشكل كلي.
وقد أُجريت عدة محاولات للتخلص منها. مثلاً، بتطوير لغات برمجة تقوم بترميز المعلومات بكفاءة أكبر، مما يقلل من عدد الإلكترونات التي تحتاج إلى التنقل ذهاباً وإياباً. وفي ثمانينات القرن العشرين، فكر العلماء الفوتونات بدلاً من الإلكترونات لترميز المعلومات. لإن الفوتونات تمرّ خلال الأسلاك الضوئية بسرعة أكبر من الإلكترونات، لذا نقلّل وقت نقل المعلومات. وأراد آخرون أن يبقوا مع الإلكترونات ولكن أن يدخلوا معلومات أكبر في الإلكترون نفسه عن طريق ترميزه بخاصية ميكانيكية كمية تدعى الدوران المغزلي Spin. ولكن حتى الآن لم تنفع أي من الطريقتين، خصوصاً أن تطبيقهما معقد جداً لدرجة أن مقدار العمل الذي سيتطلبه ذلك يفوق أي مكاسب تحقق من حيث السرعة.
باختصار، أجهدنا أدمغتنا لعقود من الزمن بحثا عن حل – مما يدعو إلى السخرية لأن أدمغتنا نفسها هي حواسيب خارقة قادرة على مهام عظيمة ولا تحتاج إلى قوة تزيد على مصباح كهربائي ذي 20 وات. لا تحتوي أدمغتنا على عنق زجاجة فون نيومان، بالطبع، لأن شبكة الخلايا العصبية ذاتها هي التي تخزن وتعالج المعلومات.
إذن، كيف ننسخها؟ هنا تكمن الصعوبة. ليست لدينا صورة كاملة عن طريقة عمل الدماغ، ولكن هناك على الأقل ثلاث خصائص أساسية نحتاج إليها لنحاكي ما يقوم به دماغ الإنسان.
أولاً، يتكون الدماغ من شبكة واسعة من الخلايا العصبية (العصبونات) Neurons المتصلة بصلات كثيرة تدعى المشتبكات العصبية Synapses. ثانياً، هذه الصلات تتمتع بسمة التشابك اللدن (المرن) Synaptic plasticity؛ ما يعني أنه من الممكن تقويتها أو إضعافها. ونحن نعرف أن التعلم ينشأ على شكل تقوية الصلات الموجودة بين مجموعات الخلايا العصبية.
الخاصية الثالثة تسمى اللدونة المعتمدة على وقت الجهد Spike-time-dependent plasticity. فهذه الفكرة، وهي أقل خصائص الدماغ فهما، فحواها أن المشتبكات العصبية لا تقوى إلا إذا قُدحت Fire الخلايا العصبية في أوقات متماثلة. أما إذا قُدحت في أوقات مختلفة، فيُضْعَف المشتبك العصبي. وعلى المدى الطويل، هذه العملية تبني صلات قوية بين الخلايا العصبية التي تعمل معاً على نقل الرسائل، كما تُضعف العمليةُ الصلاتِ التي لا تبدو ذات أي أهمية. ويعتقد أن هذه العملية أساسية للطريقة التي يستطيع بها دماغنا أن يتعلم باستقلالية. تخيل أنك رأيت إشارة مرور خضراء؛ تعلم فوراً أنها تعني “اذهب” لأن سلسلة الخلايا العصبية المرتبطة بهذه الفكرة قامت بتكوين صلات قوية عبر السنوات.
“حتى وصول الذاكرة المقاومة ’الممريزتور‘، لم نستطع قطُّ أن نقلد المشتبك العصبي.”
في الحقيقة حاولنا استكشاف طريقة عمل الدماغ لوقت طويل. وهذا المجال، المعروف اليوم بالحوسبة العصبونية Neuromorphic computing، قد أحرز تقدماً مميزاً.
وأحد جهودنا الأولى كان ذا الاسم المجيد مارك 1 برسبترون Mark 1 Perceptron، الذي أُطلق في عام 1958 من قبل باحث يدعى فرانك روزنبلات Frank Rosenblatt. ومنظومة الإلكترونيات هذه -التي كانت بحجم خزانة- رُتِّبت في شبكة مستوحاة من الخلايا العصبية. فقد قام روزنبلات بعرض بطاقات عليها شكل دوائر أو مثلثات أمام كاميرا الجهاز لتقوم بالتعرف على الشكل، وقام بتصحيح أخطائها. وعند الوصول إلى المحاولة الخمسين، كان برسبترون قد تعلم أن يُظهر إشارة معينة للدوائر، وإشارة أخرى للمثلثات.
كان برسبترون محدوداً بالهندسة الكهربائية لعصره، لذا لم تكن شبكته العصبية عالية التعقيد، ولم تكن قدراتها بتلك الروعة. ولكن الأمور تغيرت بشكل كبير. اليوم، الشبكة العصبية الخاصة بديب مايند DeepMind من غوغل تستطيع أن تقوم بمهام مثيرة للإعجاب، مثل تفوق برنامجه AlphaGo على أفضل لاعب إنسان للعبة Go في السنة الماضية.
ولكن المشكلة هي أن الشبكة العصبية لديب مايند تُجرى محاكاتها كليا باستخدام برمجيات Software، ويتم ذلك باستخدام إلكترونيات السيليكون القياسية. إذن، على االرغم من تعلم النظام بأسلوب مماثل للشبكة العصبية للإنسان، إلا أنه لا يتجاوز معضلة عنق زجاجة فون نيومان.
أما شريحة ترو نورث TrueNorth من شركة IBM، التي ظهرت في عام 2014، فتمضي إلى أبعد من ذلك. تتفاخر الشريحة بـ5.5 بليون ترانزستور سيليكون مرتبة في تركيب يشبه دماغ الإنسان يتكون من مليون “خلية عصبية” متشابكة. تستطيع الشريحة أن تتعرف فورياً على الأشياء مثل السيارات والدراجات في الفيديوات، باستخدام قوة تقارب ما يستهلكه الهاتف الذكي في وضعية السكون. يبدو ذلك مثيراً للإعجاب، ولكن إذا كبرنا الشريحة لتماثل المئة بليون خلية عصبية الموجودة في دماغ الإنسان، ستستهلك طاقة أكبر من الدماغ بـعشرة آلاف ضعف. «في الحقيقة، إنها في الحقيقة مقاربة تؤدي إلى الهدر،» كما يقول جياكومو إنديفيري، وهو مهندس حوسبة عصبية في جامعة زيورخ University of Zurich بسويسرا.
باختصار، قد نكون حاولنا أن نقلد بعض خواص الدماغ، ولكننا لم نستطع قطُّ أن ندمج الخصائص الثلاث في نظام ملموس. شريحة ترو نورث، على سبيل المثال، تحتوي على الكثير من “الخلايا العصبية” عالية الاتصال ولكنها لا تستطيع تعديل قوة الصلات بين هذه الخلايا، إلا باستخدام البرمجيات.
هذا الفشل يعود إلى حقيقة أن الإلكترونيات التقليدية لم تنتج جهازاً يستطيع تقليد المشتبكات العصبية بدقة. ولكن لدينا طريقة لنخرج بها من هذه المعضلة، بفضل فكرة ظهرت قبل نحو نصف قرن.
في عام 1971، ليون تشوا، مهندس كهربائي من جامعة كاليفورنيا University of California ببيركلي، كان ينظر في المعادلات المتعلقة بمركبات الدارة الأساسية Basic circuit التي يتعلم عنها الطلبة – المقاومة Resistor والمكثف Capacitor والموصّل Inductor – عندما لاحظ أن هناك طريقة أخرى لتترتب الشروط. أنتج هذا معادلةً لمكون رابع تتغير قيمة مقاومته حسب شدة التيار. وقد أطلق تشوا عليه اسم الذاكرة المقاومة أو الممريزتور Memristor لأنه بدا أن مقاومته تعرض ذاكرةً. ولكن بلا مادة أو جهاز معروف يتصرفان بهذه الطريقة، نُسيت الفكرة.
في داخل مخ اصطناعي Inside an artificial mind
شبكات عصبية تحقق إنجازات عظمى من خلال تقليد طريقة المعالجة في الدماغ
للخلية العصبية البيولوجية زوائد شجيرية Dendrites تقوم بتجميع إشارات الإدخال Input. وإذا تعدت قواها المجتمعة مستوىً معيناً، ترسل الخلية إشارة إلى نهايات ليفة تسمى المحور Axon، حيث تتشكل إشارة الإدخال لآلاف من الخلايا العصبية الأخرى. فالخلايا العصبية الاصطناعية تقلد هذا التصرف باستخدام الأجهزة أو البرمجيات أو كلتيهما.
ترسل الإشارة إذا تجاوز المجموع مستوى معينا اجمع الخلايا العصبية الاصطناعية لتكوّن شبكة، وستستطيع كل من طبقاتها أن تتمسك بمفاهيم أكثر تعقيداً – مع تطبيقات مثل التعرف على الجمادات في الصور.
ومن ثم، قبل نحو عقد من الزمن، فقد كان أحد الفرق في هيوليت-باكارد -يقوده ستان ويليامز Stan Williams- يعمل على نوع جديد من الذاكرة التي تستطيع -على العكس من الحاسوب المكتبي- أن تحتفظ بمعلوماتها عند إطفاء الكهرباء. كان الباحثون يعملون بشكل أساسي مع أجهزة قائمة على أشرطة رقيقة من التيتانيوم عندما لاحظوا أن مقاومة الأشرطة كانت تتغير بطرق غريبة اعتمادا على شدة التيار الكهربائي المار خلالها. وفي النهايةً، اكتشفوا أن الجسيمات المتحركة خلال الأشرطة لم تكن مجرد إلكترونات، ولكن أيضاً ذرات كاملة؛ مما يغير تدريجياً وبشكل متذبذب من تركيب المادة ومن ثم مقاومتها. وبكلمات أخرى، اخترع الفريقُ الذاكرةَ المقاومة للمهندس تشوا بلا قصد. (Nature, vol 453, p 80).
ساعد عمل ويليام على شرح السبب الذي لم نر فيه الذاكرة المقاومة من قبل؛ إذ إنها لا تظهر إلا على مقاييس متناهية في الصغر. ولكن مع كشف ذلك، تعرفنا إلى مدى كبير من المواد الأخرى التي تتصرف كذاكرة مقاومة “ممريزتور”، بما فيها بعض البوليمرات.
إن ولادة الممريزتورات في الحياة الحقيقية أثارت حماس الباحثين لأسباب عدة، بما فيها إمكانية الحوسبة بلغات أكثر تعقيدا وأكثر كفاءة من لغة 0 والـ1 (انظر:ما بعد الثنائية).
لكن سرعان ما بدأت تظهر تحركات جديدة في مجال الحوسبة-العصبونية. فبعد اكتشاف ويليام، خطى وي لو -المهندس من جامعة ميشيغان University of Michigan- خطوة شديدة الأهمية، إذ بيّن أن الممريزتورات قد تتصرف بلدونة عصبية. فاستخدم جهازاً مصنوعا من عدة طبقات رقيقة من السيليكون، إحداها مملوءة بأيونات الفضة، وأظهر أن هذا الجهاز يستطيع تقليد تلك الخاصية الثانية لدماغ الإنسان. وشرح لو لاحقاً أن الممريزتورات تستطيع تمثيل الخاصية الثالثة أيضاً؛ فيمكن تقوية المشتبكات العصبية للممرستور أو إضعافها بناءً على التوقيت المحدد لإطلاق الشوكات الكهربائية Electrical spikes.
وهذا العمل يظهر أنه «زمن شيق فعلاً بالنسبة إلى الهندسة العصبونية،» كما تقول إنديفيري. بياتريز نوهيدا Indiveri.Beatriz Noheda -هي عالمة فيزياء من جامعة غروننغين University of Groningen بهولندا، توافقه الرأي. «لقد حان الوقت للتخلي عن ترانزستورات السيليكون،» كما تقول، والتركيز على تطوير شبكات عصبية كاملة مبنية على الممريزتورات.
“شبكات الممريزتور تحقق خصائص الدماغ الثلاث الأكثر أهمية”
قد يبدو الأمر وكأن المطلوب هو مجرد توسعة مدى عمل لو. فعلى بالرغم من احتواء عمله على مجرد مشتبك عصبي واحد مع خلية عصبية لكل من الإدخال والإخراج، إلا أنه أظهر أن الممريزتورات تحقق خصائص الدماغ الثلاث الأكثر أهمية. الطريق للأمام هو أن نبني شبكات تحتوي علي طبقات أكثر وأكثر من الخلايا العصبية المشبوكة بالممريزتور؛ ومع كل طبقة نضيفها، تستطيع الشبكة أن “تفكر” في أساليب أكثر تعقيداً (انظر الرسم البياني).
«لكن ليس بتلك السرعة»، كما يقول جيفري بور Geoffrey Burr في مختبر المادن للأبحاث Almaden research lab التابع لشركة IBM بكاليفورنيا. يقول إن اللدونة المعتمدة على وقت الجهد التي بيّنها لو تعمل بشكل ممتاز على مقياس صغير، ولكن علماء الأعصاب ليسوا متأكدين من طريقة مساهمة هذه الخاصية في تعلم دماغ الإنسان على المقياس الكبير. «لا بد أن التعلم يحدث بطريقة ما. ولكننا لسنا حتى قريبين من فهمها بعد ،» كما يقول بور. هذا يعني أن تطبيقها على شبكة عصبية اصطناعية كبيرة لا يضمن أننا سنقترب من الحوسبة على طريقة دماغ الإنسان.
ويفضّل بور التقيّد بالشبكات التي لا تحتوي على اللدونة المعتمدة على وقت الجهد. فالشبكة التي يستخدمها تشبه التي تشغل الشبكات العصبية للحاسوب DeepMind من غوغل، وهي تحتوي على مشتبكات عصبية تتحكم بها برمجيات حاسوبية. ولكن بتشغيل هذه البرمجيات على الممريزتور بدلا من الترانزستور فقد يستهلك طاقة كهربائية أقل بآلاف المرات.
في عام 2014، بنى بور مثل هذه الشبكة مع ما يقارب 165 ألف مشتبك عصبي. ودرّبها على قاعدة بيانات للرسائل المكتوبة بخط اليد، وأظهر وقتها أنها تستطيع التعرف على الرسائل بدقة. وقد صنعت ممريزتورات بور من الزجاج الكالكوجيني Chalcogenide glass، وهي مادة تستطيع التغير من مرحلة إلى أخرى من حالات يكون فيها ذراتها أكثر أو أقل ترتيبا، مما يغير من قدرتها على توصيل التيار الكهربائي. هذه الممريزتورات متغيرة-المراحل Phase-change memristors باتت أكثر وأكثر صلادة لدرجة أن مصنّع الشرائح إنتل بدأ هذه السنة ببيع أجهزة الذاكرة القائمة عليها.
يعتقد آخرون أن الممريزتورات قد تقود إلى أجهزة تستطيع التعلم كلياً بنفسها. ومن ضمن هؤلاء تيمس برودروماكس Themis Prodromakis، وهو باحث نانوإلكترونيات في جامعة ساوثهامبتون University of Southampton البريطانية. بدأ عمله على مستوى بسيط، فبنى في السنة الماضية شبكة من أربع خلايا عصبية للإدخال وخليتين للإخراج تتصل فيما بينها بمشتبكات عصبية من للممريزتور. استطاع أن يدخل إشارات كهربائية من مثل “1001” أو “0110” – بشكل يشابه عرض الدوائر والمثلثات في برسبترون الخمسينات. ولكن على النقيض من تلك الآلة التي احتاجت إنساناً يقول لها إذا خمنت الشكل الصحيح، فإن شبكة برودروماكس تقوم على اللدونة المعتمدة على وقت الجهد، وتعلمت بشكل مستقل كلياً أن تطلق إشارة لخلية واحدة عند استلام “1001”، وإشارة إلى الخلية الأخرى عن استلام “0110.” وتحقق الشيء نفسه حتى مع إشارات الإدخال مشوّشة، وهو فوز مهم نظرا لأن البيانات في العالم الحقيقي هي ذات طبيعة فوضوية.
أخيراً، يبدو أننا تمكنا -باستخدام الممريزتورات- انتاج ما يفعله الدماغ جوهريا عندما تنظر خارج نافذتك. وهذا تعلُّم مستقل من دون أن يكون هناك عنق زجاجة.
عندما يُكبَّر مداها بشكل مناسب، فإن هذه الأنظمة مستقلة التعلم ستتمكن من استعراض البيانات في الوقت الفعلي، مثلاً، مراقبة تصرف السيارات ذاتية القيادة أو سلامة الجسور أو محطات الطاقة النووية. هذا قد يقلل من احتياجنا إلى مراكز البيانات التي تزداد في الحجم أصلاً، مثل تلك التي تخزن بيانات شبكات التواصل الاجتماعي. تُبنى هذه المراكز عادةً بالقرب من القطب الشمالي لأنها تحتاج إلى تبريد هائل. ولكن إذا خزّنا بياناتنا وعالجناها في الوقت نفسه بواسطة شبكات الممريزتورا فقد لا نحتاج إلى هذه المراكز.
وللحواسيب المصنوعة من الممريزتورات فائدة محتملة أخرى، لأنها تعمل بشكل مشابه لأدمغتنا: قد تكون أسهل للتعامل معها من قبل الإنسان. فهناك فعلا أجهزة قائمة على السيليكون تستطيع التعرف على أنماط النشاط الدماغي وأن تعيد تطبيقها لأشياء موجودة في العالم الحقيقي – مثل تلك التي تمكّن المصابين بالشلل من التحكم في الأطراف الاصطناعية، أو تمكّن الفرد من التحكم في الحاسوب وهو يحلم.
ولكن، ما زالت هناك تحديات عديدة. فسلوك الخلايا العصبية في الدماغ سلوك بالغ التعقيد، والواجهات العصبية Neural interfaces الموجودة حالياً يصعب عليها التعامل مع هذه البيانات. «إن الإلكترونيات التي تعالج كل هذه البيانات الغنية وذات النطاق الترددي العالي High-bandwidth أصبحت لا تطاق،» كما يقول برودروماكس. وقد تكون الممريزتورات هي الحل الأمثل لأنها لا تسجل إلا الإشارات المرتفعة، متجاهلة الخلفية الضوضائية. هذا الأمر يثير حماس برودروماكس، الذي بدأ مؤخراً بتطوير واجهات عصبية قائنة على الممريزتور بالتعاون مع شركة بيوإلكترونيات جلفاني Galvani Bioelectronics، وهي شركة بريطانية تأسست السنة الماضية بشراكة 540 مليون جنيه إسترليني بين غلاكسو سميث كلاين GlaxoSmithKline وإحدى الشركات التابعة لغوغل.
أحد أكبر الأسئلة التي تثار حول شبكات الممريزتور هو ما إذا ما كان في إمكاننا تصنيعها بكفاءة. فإن دارات السيليكون تُنتج بكثافة من مصانع مهيئة جدا لمثل ذلك؛ فهل من الممكن إنشاء شيء من هذا القبيل لانتاج الممريزتور؟ أول خطوة في الإجابة عن هذا السؤال هو أن نحدد أفضل المواد التي نصنع منها الممريزتورات؛ وتعكف نوهيدا الآن على إنشاء مركز في غروننغين للقيام بهذا بالتحديد. فإذا نجحت هي و أبطال الممريزتور الآخرون فإن حواسيب المستقبل قد تبنى من مكوِّنٍ اعتقدنا لأربعين عاماً أنه غير موجود أصلا.
ما بعد الثنائية Beyond binar
الحواسيب تتكلم بلغة بسيطة تدعى اللغة الثنائية. ويتألف قاموسها من مجموعات رقمية من 0 و 1، لذا فإن حرف الـ”C” يُمثَّل بشيفرة تفصيلية هي: 01000011.
جزئيا، يعود السبب في شيوع اللغة الثنائية إلى أن الحواسيب تقوم على الترانزستورات، وهي مفاتيح كهربائية إما أن تتيح للتيار الكهربائي بالعبور أو لا، ولا شيء بين الحالتين. وهاتان الحالتان المُعرّفتان تعريفا دقيقا تُمثَّلان بالتمييز بـ “0” و “1”.
ولكن هناك مُركَّبا كهربائيا جديدا يدعى الممريزتور (انظر: للمقال الأساسي). هذه المُركَّبات تصبح أكثر وأكثر فائدة في الحواسيب المبنية لتقليد دماغ الإنسان، وهي أكثر مرونة من الترانزستور. بدلاً من: إما تعمل أو لا تعمل، بإمكانها اتخاذ عدد أكبر من حالات المقاومة. ففي العام الماضي، تمكن باحثون يقودهم فيكاس رانا Vikas Rana من معهد بيتر غرونبيرغ Peter Grünberg Institute في يوليخ بألمانيا من جعل مجموعة من الممريزتورات تنفذ حسابات دقيقة للغة ثلاثية تستخدم المعادل الرقمي لـ0، 1، و 2. هذا يعني أن الممريزتورات تتيح للحواسيب أن تحوسب بأسلوب أكثر كفاءة. وليس من الضروري التوقف عند ثلاثة أْعداد؛ فعلى أقل تقدير، بإمكان الممريزتورات أن تتبنى لغة تتألف من سبعة أعداد، بل ومن المحتمل من أكثر من ذلك من الحالات المتاحة لقيمة المقاومة.
ليزبيث فينيم Lisebeth Venema محررة أولى في مجلة نيتشر.
نشرت المقالة في مجلة نيوساينتيست، العدد 3137، 5 أغسطس 2017.
@ حقوق الترجمة العربية محفوظة لمؤسسة الكويت للتقدم العلمي