البلورات الزمنية: حالة جديدة من المادة تدوم أكثر من الكون
بقلم: شانون باليس
ترجمة: همام بيطار
مادة مهتزة وغريبة ويبدو أنها تستمر بالعمل في حلقة لانهائية ربما صُنعت في المختبر، وقاومت القوانين الثابتة للديناميكا الحرارية
إنه كشيء انبثق من حلمٍ سيئ، فأنت عالقٌ وسط قاعة رقص وتمارس رقصة فالس أبدية. فالساعات تمر والرقص يستمر.
الساعات تنصهر في أيام، وسنوات، وقرون، وألفيات، وفي نهاية المطاف تمضي بلايين السنوات التي يتحول الكون خلالها إلى فراغ عديم الملامح يُوجد في داخله فقط أنت وزميلك راقص الفالس الذي لا يمل، تتابعان الرقص إلى الأبد.
فهذا المشهد سرياليٌ ومرعب، وهو بالمطلق ضد قوانين الفيزياء، فأي شيء يتكرر داخل حلقة ودون وجود مصدر خارجي للطاقة لتغذيته يبدو أنه يثني قوانين الديناميكا الحرارية Thermodynamics الصلبة والثابتة، والتي تدرس كيفية جريان الطاقة واستغلالها. لذلك قُوبل فرانك ويلتشيك Frank Wilczek، الحاصل على جائزة نوبل، قبل خمسة أعوام بالشك عندما تكّهن بطبيعة المادة التي سمّاها بلورات الزمن time crystals التي باستطاعة مركباتها ثني تلك القوانين، ويقول واصفاً ذلك: «لقد شعرت بالكثير من الحزن.»
ومنذ ذلك الحين، لقيت بنات أفكار ويلتشيك المناصرة، والتشويه، وإثبات استحالتها، والآن يبدو أنه تجري صناعتها في المختبر. إذا حصل ذلك، فإنه سيُمثل ولادة طور جديد كلياً من المادة، وهذا الطور غريب جداً ومربك ومن المحتمل أن يكون مفيداً. ربما بقيت البلورات الزمنية بانتظار الاختراع لو لم يكن ويلتشيك من ذلك النوع من الأشخاص الذين يصعب جعلهم يشعرون بالملل. فقد حصل ويلتشيك على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2004 عن عمله النظري المتعلق بطبيعة القوة النووية القوية Strong force، التي تشرح كيفية تفاعل الجسيمات الأولية داخل النوى الذرية. وقد وصف مرةً تجربة انتظار التحقق التجريبي لنظريته أنها مشابهة لمراقبة نمو العشب.
ولذلك عندما أسند إليه المعهد الذي يعمل لديه، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا Massachusetts Institute of Technology، مهمة تدريس منهج للطلبة الخريجين يتضمن بنية البلورات الصلبة، بَحَث مباشرةً عن طريقة لوضع التوابل على المنهاج الذي سيدرسه، ويُعلق على ذلك قائلاً: «الموضوع جميل، لكنه جاف ومبتور نوعاً ما الآن. لقد أردت الإشارة إلى شيء مختلف.»
انتهى الأمر بويلتشيك بطرح أفكار متعلقة بتناظر البلورات مع طالبه السابق الفريد شابير Alfred Shapere الذي يعمل حالياً في جامعة كنتاكي في ليكسنكتون University of Kentucky. وتتألف كل البلورات، انطلاقاً من بلورات الملح وحتى الألماس، من وحدة أساسية من الذرات التي تتكرر في الفضاء. ينبع إغراء هذا النمط من التفكير في أنه متناظر، لكن هذه البنية تُحطم في الواقع نوعاً من أنواع التناظر بالنسبة إلى الفيزيائيين والرياضياتيين.
ولمعرفة السبب، تخيل أن لديك عينات عشوائية من سجادة ما. فإذا كانت السجادة عادية (بلا نقوش)، فحينها سيكون من المستحيل التمييز بين أي زوجٍ من العينات.
لكن إذا كانت السجادة خاضعة لنمطٍ ما، فحينها سيكون من المرجح ألا تكون العينات متطابقة. فإذا وضعتها فوق بعضها البعض، فهي لن تتحاذى وهذه هي الحال تماماً إذا ما أخذت تكتلين عشوائيين من بلورة صلبة ودورية. وبعبارة فيزيائية، يُحطم كلٌ من السجادة والبلورات التناظر الانتقالي Translational symmetry في الفضاء.
كل شيء عادي حتى الآن، لكن شابير تحدى ويلتشيك بأن يفكر في جسم سيحطم التناظر الانتقالي في الزمن. أو بكلماتٍ أخرى، سيتكرر هذا الجسم بشكلٍ دوري ليس في المكان، وإنما في الزمن. لا توجد مثل هذه الأشياء بمفردها بشكلٍ اعتيادي. فالقلب قد ينبض بشكلٍ ثابت، وكذلك عقارب الساعة ستتحرك بشكلٍ مستمر طوال الوقت، لكنهما بحاجة إلى طاقة لتغذيتهما، ففي نهاية المطاف يتوقف القلب، وكذلك الساعات، عن العمل. ادّعِ بناء شيء يُمكنه العمل في حلقة غير نهائية ودون وجود مصدر للطاقة وللمدة التي ترغبها وحينها ستصبح سبباً للتفكه في مكتب براءة الاختراع، فما صممتَه هو محرك آلة دائمة الحركة، وهو جهاز مستحيل من وجهة نظر الديناميكا الحرارية، وهي فكرة فقدت مصداقيتها منذ فترة طويلة من الزمن، إذ لا يُمكن لجهاز أن يأتي بشيءٍ ما من العدم.
لكن، يستفيد الشكل الجديد من المادة، والذي وضعه ويلتشيك، من ثغرة في الحلقة. لن تُنجز البلورات الزمنية عملاً مفيداً، فهي لن تكون قادرة على الرحيل إلى أي مكان أو تغذية أي شيء، ولذلك لن تحتاج -من الناحية التقنية- إلى مصدر طاقة خارجي كي تعمل. وللحصول على قياس جيد، تخيل ويلتشيك بلورات زمنية تظهر في موصل فائق Superconductor، وهو نوع من المواد التي تُعاني سلوكا استثنائيا إذ تسمح للإلكترونات بالتدفق دون وجود أي مقاومة.
عندما نشر ويلتشيك وشابير ورقة علمية تضع الخطوط العريضة لتجربتهما الذهنية، جاءت النتيجة مباشرةً، إذ وصفتها فيديكا خيماني Vedika Khemani، وهي باحثة من جامعة هارفارد، بالقول: «إنها تُولِّد الكثير من الإثارة.» وفي ذلك الوقت، كان هاكوري واتاناب Haruki Watanabe طالب دكتوراه في جامعة كاليفورنيا-بيركلي University of California. وأحد الأسئلة التي طُرحت عليه أثناء الاختبار الشفهي: «ماذا سيحصل إذا تحطم التناظر بالطريقة التي اقترحها ويلتشيك؟» لم يعرف واتاناب الإجابة.
وكما هو واضح من عنوان الورقة العلمية التي نشرها واتاناب بعد ذلك بعامين غياب البلورات الزمنية الكمومية Absence of quantum time crystals، فإن الإجابة التي جاء بها كانت واضحة تماماَ فالبلورات الزمنية المقُترحة من قبل ويلتشيك لاتزال مستحيلة من وجهة نظر الديناميكا الحرارية.
وتكمن المشكلة التي أبرزها واتاناب في اقتراح ويلتشيك بوجود الراقصين في حركة مستمرة وسلسة ومستقلة تماماً عن العالم الخارجي.
ويقول واتاناب إن هؤلاء الراقصين سيكونون في حالة توازن حراري، وهي حالة تمكّن، بعد عناء شديد، من إثبات عدم قدرتها على إبداء سلوك دوري.
وتقول خيماني: «إن الأمر كذلك. إذ يعتقد الجميع أن البلورات الزمنية مستحيلة»،» لكنّ غموض تجربة ويلتشيك الذهنية قدّم حبل النجاة.فالبلورات الزمنية قد تستمر بالوجود، لكن ليس في حالة توازن حراري Thermal Equilibrium.
وقد حصلت خيماني على هذا الشرط مصادفةً. فعندما نُشرت ورقتها العلمية، كان واتاناب يعمل في برينستون؛ وقد كان يعمل حينها على مسألة تُعرف بتموضع الأنظمة عديدة الأجسام Many-body localisation التي تُمثل كحزمة من الجسيمات الصغيرة العالقة معاً، وكمثال على هذه الأنظمة يُمكن الإشارة إلى جزيئات الهواء الموجودة في غرفة والتي تختار أن تُوجد عند إحدى الزوايا بدلاً من توزعها في كل فضاء الغرفة.
لا يُحصل هذا الأمر في العادة، فالديناميكا الحرارية تنص على أن الأشياء تميل إلى التطور نحو حالات أكثر عشوائية وفوضوية وعديمة الملامح عند تركها لوحدها.
عند معالجة النظام بطريقة مناسبة تماماً، اكتشفت خيماني أنه عند عدم إضافة أي طاقة والمحافظة على التأثير الخفيف جداً وبإيقاع منتظم على النظام، فإنك ستمنع ذلك من الحصول.
ووفقاً لخيماني، فالأمر مشابه لضغطك لإسفنجة ومن ثمّ تركها مع وجود فرق واحد وهو أنّ المادة لن تخضع لإيقاع الضغط الذي تُمارسه، وإنما تتمدد وتتقلص بإيقاع مساوٍ للنصف، ومن ثم فمعدل انضغاطها في هذه الحالة هو النصف.
ومن ثغرة في حلقة إلى حلقة اللعب «هولا هوب»
لم يُشِر أحد إلى أي اتصال بالبلورات الزمنية حتى وصلت ورقة خيماني العلمية مرحلة المراجعة الدقيقة على الرغم من أنها كانت من نوعٍ جديد، فنظام خيماني لم يكن نظاما للتوازن الحراري. ومع توسع الثغرة في الحلقة لتصير حلقة كاملة، فإنّ كل البلورات الزمنية اللازمة كانت مكاناً مناسباً للتجريب.
ويعتقد سونون شوي Soonwon Choi، الطالب المتخرج من هارفارد، أنه بإمكانه إثبات ذلك. فعند الاستماع إلى محاضرة خيماني التي شرحت خلالها أفكارها عام 2016، اعتقد شوي أنّ التجربة التي يُجريها زملاؤه لرصد تأثيرات كمومية غريبة يُمكن أن تُمثل منصة اختبارية لبلورة زمنية.
كان شوي وفريقه منكبين على العمل مع الألماس الأسود، وهو أحد أقارب تلك الصخور النقية التي تُميز خواتم الخطبة، لكن مع وجود سحب لبضعة ملايين من ذرات الكربون للسماح باقتران ذرات النتروجين بمساحات صغيرة جداً من الفضاء. تلك الشوائب، التي جرى إدخالها بدقة على مدار أشهر، وتُقدم لوناً مميزاً وسعراً باهظاً جداً.
وأكثر من ذلك، فهي تُقدم نوعاً من الفوضى الضرورية للسماح بوجود تأثيرات غريبة كتلك التي تخيلتها خيماني. ويمتلك كل زوج مكون من ذرة نيتروجين/فضاء خالٍ داخل الألماس خاصية تُعرف بالدوران المغزلي Spin، والتي يُمكن ضبطها لتتغير بين قيمتين باستخدام إشارة ميكروية.
فقد اكتشف شوي وزملاؤه أنه بإمكانهم إرسال الإشارة الميكروية مرتين أثناء حصول انقلاب وحيد للف الذاتي، كما هي الحال مع الإسفنجة التي تتحرك بإيقاع مساوٍ لنصف إيقاع اليد التي تضغطها. لم تكن تجربة هارفارد فريدة من نوعها، فعلى بُعد سبع ساعات إلى الجنوب هناك مختبر عالم الفيزياء التجريبي كريس مونرو Chris Monroe في جامعة ميريلاند حيث يبني فريقٌ آخر نسختهم الخاصة من البلورة الزمنية التي تُمثل نسخة مقاومة أخرى من نظرية ويلتشيك وتعتمد على مخطط نظري مختلف قليلاً، فهي تتألف من حفنة من الذرات -أيونات الإيتريبيوم Ytterbium توخياً للدقة- التي تُغير لفها الذاتي بانسجام داخل حجرة بحجم كرة طاولة.
وفي هذه النسخة استجابت الذرات لليزر بترددٍ مساوٍ لضعف تردد الانقلاب. ويتذكر ويلتشيك الأمر عندما قرأ الأوراق العلمية في شهر يناير الماضي قائلاً: «يا إلهي.» فقد مثّل ذلك بالنسبة إليه تبريراً رئيسياً لفكرته. وأكثر من ذلك، لم تكن لديه فكرة عن مضي التجارب قدماً، ويُعلق على الأمر قائلاً: «لقد كانت مفاجأة مبهجة جداً.»
لم يكن واتاناب مقتنعاً، فبالنسبة إليه فإنّ أي جسم يحتاج إلى إشارة خارجية ليتكرر في الزمن لا يُعد أبداً بلورة زمنية أكثر من كونه قلباً ينبض، أو نوّاساً يتأرجح، ويُضيف: «في رأيي، أعتقد أن الظاهرة يجب أن تحصل بنفسها،» وحقيقة ظهور البلورات الزمنية بشكلٍ متكرر في ماساتشوستس وميريلاند مثّلت أكثر من علامة تجارية بقليل.
ولا يختلف ويلتشيك مع ذلك بالكامل، وكذلك الأمر مع خيماني التي ترى فرقاً مهماً بين عملها والظواهر الاعتيادية التي يصفها واتاناب، إذ تقول: «ليس من العدل القول إنها شبيهة بالبندول»،»فتلك الذرات الموجودة في البلورة الزمنية منفصلة مكانياً عن بعضها البعض، ومع ذلك تستمر بالانقلاب معاً وتتعاون عن بعد، أما البندولات والقلوب فلا تفعل ذلك. إنّ الأمر غريبٌ كما لو كانت لديك غرفة ممتلئة بالراقصين الذين بدؤوا بمغادرتها والذهاب إلى منازلهم، واستمروا بالرقص في خطوات متوافقة توافقا مطلقا. ويعترف واتاناب بأن هذه الخاصية تجعل من صناعة تلك البلورات أمراً مهماً بحد ذاته. ويُضيف ويلتشيك أنه من الأبسط الآن معرفة عواقب البلورات الزمنية بعد إثبات وجودها. فعلى سبيل المثال، تُمثل تجربة مونرو تجربة نموذجية يستخدمها لصناعة عناصر للحواسيب الكمومية، وقد تُصنف البلورات الزمنية في يومٍ ما ضمن هذه الخانة؛ فحقيقة كون عزوم اللف الذاتي تتحاذى وتُبدي تعاوناً من نوعٍ ما تعني أنه باستطاعتها أن تعمل كساعة لآلات المستقبل، أو كطريقة لحفظ المعلومات بسبب قدرتها على الاحتفاظ بحالتها مع مرور الزمن. ويقول ميخائيل لوكين Mikhail Lukin، الباحث الرئيسي في مختبر هارفارد، إنه بالإمكان أيضا استخدامها لإجراء عمليات المسح MRI لأشياء صغيرة جداً. فبسبب استجابتها لإشارات ضغيفة نسبياً وقادمة من خلية أو بروتين مفرد على سبيل المثال، ولكونها تعاني ظاهرة انقلاب الدوران المغزلي بشكلٍ متجانس، فهي تقوم بتضخيم الإشارة.
العيش بسعادة إلى الأبد؟
يُشير مونرو إلى أن البلورة الزمنية -وحتى الآن- لا تستمر لوقتٍ كافٍ لعمل أي شيء غير السماح برصد وجودها، ويُضيف أنه وبفضل عدم مثالية المعدات، فإن العمليات المستخدمة في المختبر «تُحب -وعن عمد- وضع بلورات الكلور والصوديوم معاً في الوقت نفسه،» لتكون قادرة تقنياً على خلق بلورات الملح، لكنها بلورات صغيرة جداً على أن تتم إضافتها للطعام. ويتابع: «بالطبع، تظهر بلورات الملح في كل الأوقات بشكلٍ طبيعي،» وهذا يعني إمكانية وجود بلورات زمنية أكبر في مكانٍ ما. لا يزال ويلتشيك يعتقد أن فكرة البلورات الزمنية ستستمر إلى الأبد، ويُعلق قائلاً: «لا وُجود لحد علوي واضح.» أما العلماء التجريبيون فهم أكثر ارتياباً بهذا الخصوص، فهناك بعض الجوانب العملية التي يجب أخذها بعين الاعتبار. ويلاحظ فيل ريشيرم Phil Richerme، الذي يراقب ولادة أبحاث البلورات الزمنية من مكانه في جامعة إنديانا Indiana University في بلومينغتون، أنه عند الحديث عملياً: «فالشمس ستنفجر وتُخفي المختبر» -في إشارة إلى الوقت الذي قد ننتظره. تكمن الآمال الحالية في استكشاف خواص هذا الطور الجديد من المادة بمزيدٍ من التفصيل، ويُضيف ويلتشيك: «الأمر مشابه للوقوف على أعتاب أرض جديدة، فنحن لا نعرف ما إذا كانت جزيرة أو قارة.» وبالنسبة إلى خيماني فنتائج التجربة الأكبر هي أكثر جوهرية، فهي تعني أن أشياء مهمة تحصل خارج التوازن، وتعلق قائلةً: «دُرست الأطوار لفترات طويلة من الزمن،» والقليل الذي عرفناه عنها يبدو أنه كل شيء، أما الآن «فالناس يُفكرون في أطوار خارج التوازن،» وهذا يفتح الباب أمام واقعٍ جديد من المواد، وهو عالَمٌ من المؤكد أنه سيُحافظ على أحلام الفيزيائيين لبعض الوقت.