أسرار حلقات زحل
زحل…. هو الكوكب السادس بعداً عن الشمس، وثاني أكبر الكواكب في مجموعتنا الشمسية بعد كوكب المشتري. ولكن هذه الحلقة ليست فقط عن كوكب زحل بحد ذاته وإنما أيضاً عن الحلقات الشهيرة المحيطة بكوكب زحل والتي لطالما أضفت هالة من الغموض على هذا الكوكب.
فهل حلقات كوكب زحل قديمة أم أنها ظهرت حديثاً نسبياً مقارنةً بعمر الكوكب؟
لقد أمضت المركبة كاسيني التابعة لناسا مدة سبع سنوات مرتحلةً في الفضاء للوصول الى كوكب زحل. وعند وصولها اليه، أمضت ثلاثة عشر سنة أخرى حتى وقتنا هذا في مدار حوله لاستكشافه واستكشاف أقماره في رحلة فضائية ملحمية لا مثيل لها في التاريخ البشري لاستكشاف الفضاء. وفي 26 إبريل 2017 الفائت بدأت رحلة النهاية للمركبة الفضائية كاسيني وذلك بالاقتراب من الكوكب العملاق عن طريق اختراق سحب الحلقات التي تحيط بزحل. واستمرت بالاقتراب المميت هذا لمدة 22 أسبوع، حتى أسدل الستار ربما على إحدى أعظم الرحلات الفضائية وذلك عندما اخترقت كاسيني الغلاف الغازي للكوكب العملاق بسرعة هائلة ومن ثم احترقت وتبخرت تماماً حتى قبل الوصول لسطح وذلك في 15 سبتمبر 2017. ولكن هذه النهاية التي قد تبدو في ظاهرها أنها مأساوية سوف ينتج منها إجابات لا حصر لها عن الكثير من الأسئلة التي يود العلماء معرفتها عن الغلاف الغازي لزحل وسطحه، مما سينهي الجدل الدائر منذ مدة طويلة حول كتلة الحلقات الجليدية المحيطة بالكوكب ومن ثم إماطة اللثام عن عمرها الذي يعتقد أنه يبلغ 4.5 مليار سنة، أي بعمر كوكب زحل نفسه، أم سوف يتم اثبات أن هذه الحلقات حديثة التكوين نسبياً.
المسار الذي اتبعته المركبة كاسيني للإقتراب من سطح زحل من خلال الحلقات المحيطة به كان محفوفاً بالمخاطر. فمع أن هذا المسار ملئ بجسيمات ثلجية شبيهة بالرماد فبالتالي لن تؤثر في المركبة الفضائية، إلا أنه كان هناك احتمالية، حتى وإن كانت ضئيلة، في أن توجد بعض الأخطاء التقديرية بالنمذجة الحاسوبية التي تم الاعتماد عليها لرسم مسار المركبة إثناء الدخول للكوكب. فلو اصطدمت كاسيني على سبيل المثال بجسيم بحجم حبة الفول وهي تنطلق بسرعة مخيفة تصل إلى 122,000 كم/الساعة، لتحطمت مبكراً لا محالة قبل الوصول إلى سطح كوكب زحل. ولذا، قامت ناسا بمناورة ذكية في بداية الاختراق والاندفاع نحو الكوكب وذلك بإخفاء المركبة خلف هوائي الطاقة الشمسية الضخم التابع لها في محاولة لحمايتها أطول مدة ممكنة من تلك الجسيمات المحتملة اثناء اندفاعها نحو الكوكب. واثناء ذلك قام مرصد تلسكوبي في الأرجنتين بمراقبة الإشارات الصادرة عن كاسيني وذلك للتفريق بين قوة جذب الحلقات من جهة وقوة جذب الكوكب نفسه من جهة أخرى، حيث أن مثل هذه المعلومات المهمة لم تكن لتتوفر للعلماء والباحثين إثناء وجود كاسيني في مدارها خارج نطاق حلقات الكوكب كما صرح بذلك البروفيسور لوتشيانو آيس، عالِم الكواكب من جامعة سابيينزا في روما. حيث أن معرفة قوة جذب الحلقات المحيطة بالكوكب العملاق يعطينا مؤشرات واضحة عن كتلة هذه الحلقات، ومن ثم عن عمرها الزمني. فتقليدياً، هناك عدد لا بأس به من العلماء يتبنون نظرية أن العمر الزمني لحلقات زحل يساوي من ناحية القِدم العمر الزمني لكوكب زحل نفسه، حيث يعتبرون أن هذه الحلقات ماهي إلا اللبنات الجليدية الهائلة الحجم التي تشكل منها كوكب زحل. فقد رصدت المركبة كاسيني أن إحدى حلقات زحل الأربع الضخمة، ساطعة ولكنها في الوقت نفسه غير صافية، مما يشير إلى شدة كثافة الجزيئات الجليدية المكونة لتلك الحلقة، ويشير كذلك إلى أن كتلة الحلقات المحيطة بكوكب زحل مجتمعة تفوق كتلة القمر ميماس والذي يبلغ قطره 400 كم.
ولكن في المقابل هناك نظرية أخرى بدأت تلقى رواجاً، وهي أن الحلقات في تركيبتها الهشة أضعف من أن تكون نواة لكوكب زحل. وأن هذه الحلقات إنما تكونت منذ 100 مليون سنة فقط من حطام جليدي لقمر منقرض من أقمار كوكب زحل. فمن الصعب التصديق أن عمر هذه الحلقات مساوٍ لعمر الكوكب البالغ 4.5 مليار سنة، وذلك لأنه لا يمكن إيجاد تفسير لكيفية احتفاظ الحلقات باللون المتميز دائماً بالنقاء في ضوء التدفقات الهائلة المستمرة التي لا تتوقف للجسيمات الفضائية ذات اللون الترابي الغامق، والتي يفترض بها أن تلوث تلك الحلقات وتغير لونها، كما تلوث قطرات من الحبر الأسود بركة راكدة من الطلاء الأبيض.
وقد تكشف المعلومات التي أرسلتها المركبة كاسيني دليلاً آخر بعد اختراقها للحلقات الداكنة اللون لكوكب زحل عندما قامت باصطياد بعض الجسيمات الجليدية المكونة لتلك الحلقات والتي يتكون 90% منها تقريباً من جليد. ويُعتقد أن تلك الظلال الداكنة المكونة للحلقات ربما تكونت بسبب أكسيد الحديد المحمر اللون.
وكلما اقتربت المركبة كاسيني من كوكب زحل أكثر، كلما وجهت اهتمامها أكثر إلى سطح زحل حيث السحب الهائلة من غاز الأمونيا الهائجة. فقد قامت كاميرات كاسيني بالتقاط العديد من الصور لمختلف أشكال وتكوينات أعاصير زحل مما سوف يتيح لهذه الكاميرات قياس أطوال ظلال السحب الناتجة من تلك الأعاصير والتي قد تصل إلى آلاف الكيلومترات. كما أن اقتراب المركبة كاسيني اتاح لها إجراء قياسات عديدة للمجال المغناطيسي لكوكب زحل، مما سوف يكشف أخيراً عن مدة طول اليوم على كوكب زحل. وبما أن الطبقة السطحية لكوكب زحل هي في حقيقتها غازية وليست صلبة أو يابسة، مما يعقد مسألة قياس ” اليوم الزُحَلي”، فإن العلماء يأملون بقياس وتحليل الأنماط الدورية للمجال المغناطيسي لكوكب زحل لقياس دوران الجزء الصلب من باطن الكوكب.
تقول ليندا سبيلكر، الباحث الرئيس لمشروع مركبة كاسيني في مختبر الدفع النفاث، أن اللفات الخمس الأخيرة للمركبة أتاحت للعلماء للمرة الأولى في التاريخ الحصول على عينات من الغلاف الجوي للكوكب الغازي العملاق منذ أن قامت مركبة الفضاء جاليليو بإسقاط مسبار على سطح كوكب المشتري في عام 1995. وإذا حالفهم الحظ، فسوف يستطيع العلماء تقدير وفرة كميات غازي الهيليوم والهيدروجين في الطبقة الغازية الخارجية للكوكب، مما يلقي الضوء على تركيبة البنية الداخلية للكوكب، ومن ثم طريقة تكون الكواكب الغازية العملاقة.
وفي الاندفاع الإنتحاري الأخير للمركبة كاسيني نحو زحل في 15 سبتمبر من هذا العام، قامت كاسيني بآخر مناورة لفائدة البشرية وذلك بتوجيه هوائياتها نحو كوكب الأرض، وبعدها مباشرة صمتت إلى الأبد، حيث أنها تبخرت تماماً فوق سطح زحل في غضون 3 دقائق.
ومن المؤلم إن القائمين على برنامج كاسيني رأوا أنه من الضروري أن يتم تدمير المركبة على سطح كوكب زحل، مع أنه كان بإمكانهم تركها تتجول قرب زحل إلى ما شاء الله. ولكنهم آثروا تدميرها وذلك بسبب خشيتهم من أن المركبة قد حملت معها خلسةً بعض الميكروبات الضارة من كوكب الأرض، والتي يمكن أن تلوث بيئات إثنين من أقمار زحل وهما تايتن وإنسيلادوس واللذين يمتلكان ظروفاً بيئية تجعل احتمالية قابليتهما للسكن في المستقبل واردة. وبهذا تم اسدال الستار على واحدة من أعظم رحلات الفضاء في التاريخ البشري.