واعٍ كمّيا: كيف تجعل كلّ شيء حقيقيا؟
تبدو فكرةُ أننا نخلق الواقع منافيةً للعقل، إلا أن نظرة جديدة جريئة على نظرية الكم تقترح أن قوانين الطبيعة الأساس تنتج من تجاربنا الخاصة.
هل يوجد الواقع من دوننا؟ يبدو أنه لم يكن لدى آلبرت آينشتاين أيُّ شك في ذلك، وقد تساءل مرةً مشككا: إن القمر لن يختفي بالتأكيد عندما لا نكون ناظرين إليه. وكان قد أستفزه اقتراح من نظرية الكم Quantum theory بأن الأشياء لا تصير حقيقية إلا عندما نرصدها فقط. لكنها ليست فكرة سخيفة، وحتى آينشتاين بقي متفتح الذهن، وكتب في رسالة عام 1955: “إن من بديهيات الفيزياء أن يفترض الإنسان أن العالم الحقيقي يوجد مستقلا عن أي من تصوراتنا، إلا أننا لا نعرف ذلك.”
وقد وجد الفيزيائيون في العقود التالية أنه من الصعوبة بمكان استبعاد الراصد من نظرية الكم. وفي الوقت الحالي يفكر بعض الفيزيائيين في بديل محّير للعقول: يمكن أن يَنْتُج وصفٌ متوازنٌ للواقع، بكلّ ما فيه من ميزات كمية غريبة، من تجارب ذاتية عشوائية ليس أكثر. ويقول مؤلف هذه النظرية الجريئة الجديدة إنها تشبه وجهة نظر ‘رجل مجنون’، لأنها تدفعنا إلى استبعاد أي فكرة عن قوانين الفيزياء الأساسية. ولكن لو صحّ ذلك، فإنها لنْ تحلّ بعض ألغاز ميكانيكا الكم العميقة فقط، بل ستقلب أكثر انطباعاتنا الراسخة عن الواقع نفسه رأسا على عقب.
وعندما يصل الأمر إلى التنبؤ بالطريقة التي سيتصرف بها العالَم فإن نظرية الكم تتفوق بشكل لا يجارى: فقد أكدت التجربة كلّ واحدة من تنبؤاتها، مهما كانت مخالفة للمنطق البديهي. فيمكن للإلكترونات مثلا أن تُظهر في بعض الأحيان خواصَّ تمتاز بها الموجات، على الرغم من أنها تتصرف وكأنها جسيمات في حالات أخرى.
موجة من الارتباك Wave of confusion
قبل رصدها، يقال إن هذه الأشياء الكمية تكون في حالة تراكب Superposition من كلّ المخرجات الممكنة القابلة للمشاهدة. ولا يعني هذا أنها توجد في حالات متعددة في اللحظة نفسها، بل يمكننا القول إن كلّ المخرجات التجريبية المسموح بها تبقى ممكنة. وتُمثِّل هذه الإمكانية في ميكانيكا الكم بالدالة الموجية Wave function، وهي تعبير رياضياتي يُرمِّز كلّ المخرجات واحتمالاتها النسبية.
إلا أنه ليس واضحا تماما ما الذي تستطيع الدالة الموجية أن تخبرك به عن طبيعة نظام كمّي Quantum system قبل أن نقوم بقياسها. ويؤدي هذا التصرف إلى اختزال كل هذه الاحتمالات الممكنة إلى احتمال واحد فقط، يسمى انهيار الدالة الموجية Collapse of the wave function – إلا أنه لا أحد يعرف ماذا يعني هذا أيضا. ويعتقد بعض الباحثين أنه من المحتمل أنها عملية فيزيائية حقيقية، مثل التحلل الإشعاعي. ويعتقد أولئك الذين يؤمنون بنظرية العوالم المتعددة Many-worlds interpretation أن هذا وهْمٌ ناتج من انقسام الكون إلى كلّ واحدة من النواتج المحتملة. وبينما يصرُّ آخرون على أنه لا جدوى من محاولة تفسيرها – ناهيك عن منْ قد يعير ذلك اهتماما؟ فالرياضيات ناجحة لذا اخرس وقمْ بالحسابات.
ومهما تكن القضية، يبدو أن انهيار الدالة الموجية يعتمد على التدخل أو الرصد، مما يتسبب في مشكلات بالغة الصعوبة، ليس أقلها المشكلة الدائرة حول دور الوعي في العملية كلها. وهذه هي مسألة القياس، التي قد تكون أكبر معضلة في نظرية الكم. ويقول كيفن ماكوين Kevin McQueen، الفيلسوف من جامعة تشابمان Chapman University بولاية كاليفورنيا: “إنها بالغة الصعوبة، ويُلقى إلينا بتفاسير كثيرة كل يوم، لكن هناك مشكلات في كل واحدة منها.”.
وأكثرها شيوعا مايسمى تفسير كوبنهاجن نسبة إلى مدينة نيلز بور Niels Bohr أحد رواد نظرية الكم، الذي جادل بأن ميكانيكا الكم لا تخبرنا إلا بماذا يجب أن نتوقع أن تكون النتيجة عندما نقوم بإجراء قياس، وليس ما الذي يسبب هذه النتيجة. فالنظرية غير قادرة على إعلامنا بحال نظام كميٍّ قبل أن نشاهده، وكل ما يمكننا أن نتوقعه منه على الإطلاق هو احتمالات لنتائج مختلفة ممكنة.
ويبدو أن وجهة النظر هذه تقودك إلى استنتاج غير مريح: هو أن عملية القياس بذاتها تستحضر النتيجة للوجود. فهل يمكن أن يكون هذا صحيحا؟ يظهر أنها تخالف ما يفترضه العلم عادة، كما ألمح إلى ذلك آينشتاين. ومع ذلك، فإن للفكرة تاريخا. فقد كان الفيزيائي الهنغاري جون فون نيومان John von Neumann أول من تبناها في أوائل الثلاثيات من القرن الماضي، ومضى ابن بلده يوجين ويغنر Eugene Wigner إلى أبعد مدى بتجربة فكرية في الخمسينات من القرن الماضي تعرف الآن بصديق ويغنر Wigner’s friend.
ماذا لو أنه من غير الممكن وصف الواقع من دون الاستعانة بمشاركتنا الفعالة؟
افترضْ أن ويغنر يقف خارج غرفة ليست لها نوافذ حيث تكون زميلته على وشك القيام ببعض القياسات على جسيم. وعند انتهائها من ذلك، فإنها تعلم ما هي خواص الجسيم، إلا أن ويغنر يجهل ذلك. فهو لا يستطيع أن يقول بثقة إن الدالة الموجية للجسيم قد انهارت حتى تخبره زميلته بالنتيجة. والأسوأ من ذلك، وإلى أن تخبره، فإن نظرية الكم لا تقدم طريقة له ليعتقد أنّ لكل الحوادث غير المرئية داخل المختبر نتائج ثابتة. وتبقى زميلته وجهاز القياس والجسيم تراكباً لمركب واحد كبير.
إن هذا كأننا نعيش في عالم وحدة الأنا Solipsistic world، حيث لا يحدث الانهيار إلا عندما تصل النتيجة إلى عقلٍ واعٍ. يكتب ويغنر قائلا٬ “يتبع ذلك أنّ الوصف الكمي للجسيمات يتأثر بانطباعات تدخل إلى وعيي أنا، وقد يكون عالم وحدة الأنا منسجما مع ميكانيكا الكم الحالية بشكل منطقي.”
ويعبر عنها جون وييلر John wheeler من جامعة برنستون بشكل آخر: فهي ليست عالَم وحدة الأنا لكنها نوع من التعاون التفاعلي الذي يجعل الأشياء تظهر للوجود. ويقول وييلر إننا نعيش في ‘كون تعاوني’ Participatory universe – كون لا يمكن وصفه بشكل له معنى من دون ذكر مشاركتنا الفعالة. ويكتب: “ليس هناك من شيء أكثر إدهاشا من نظرية الكم من كونها تسمح للفرد بأن يعتقد جدّيا أنّ الكون هو لا شيء من دون عملية الرصد.”
إلا أن وييلر لم يستطع أن يهرب من حزمة الأسئلة المُتشابكة التي لا جواب لها والتي يطرحها الكون التعاوني. فمن ناحية، يبدو أن وييلر وزميلته عالقان في انحدار لا نهائي. فهل ويغنر ذاته في حالات متراكبة إلى أن يعطي النتائج إلى أصدقائه الآخرين في البناء المجاور؟ أيّ راصد “سيقرر” متى تنهار الدالة الموجية؟ وما الذي يشكل راصدة واعية أصلا؟
وعلى الرغم من استمرار وجود هذه الأسئلة فإن بعض الفيزيائيين النظريين عادوا مؤخرا إلى صيغة من صيغ وييلر، أطلق عليها كريس فيوكس Chris Fuchs، من جامعة ماساتشوستس في بوسطن، تسمية “واقع تعاوني” Participatory reality. ويعود سبب هذا التراجع، بشكل جزئي، إلى الحاجة إلى بديل أفضل، لكن بشكل أساس إلى أنه إذا أخذت ميكانيكا الكم جديا، فإنه سيكون من المستحيل تجنب العنصر الشخصي الذي يعتمد على الراصد.
قبل عامين عاد الفيزيائي النظري كاسلاف بروكنر Caslav Brukner، من جامعة فيينا، إلى سيناريو زميلة ويغنر بصيغة معدَّلة بعض الشيء، اقترحها ديفيد دويتش David Deutsch، من جامعة أكسفورد. تقوم زميلة ويغنر في هذا السيناريو بإجراء القياس – مسببةً انهيار الدالة الموجية للجسيم ليكون الناتج إما A أوB – إلا أنها لا تخبر ويغنر أكثر من أنها ترى نتيجة معينة ولكن ليس ما هي هذه النتيجة. وفي سيناريو دويتش هذا، يجبر ويغنر أن يستنتج أن زميلته وجهاز قياسها والجسيم في تراكب مشترك، على الرغم من أنه يعلم أن القياس قد تمََّ.
وبالنسبة إلى زميلة ويغنر، فهي بالتأكيد في حالة ولنقل “إنني أرى A”، إلا أنها بالنسبة إلى ويغنر في حالة تراكب من “أرى A” و “أرى B”. ومن ثم، من هو على صواب؟ يقول بروكنر إنّ كليهما صحيح، بحسب وجهة نظر أيّ منهما تعتمدها أنت. وقد برهن على أنه إذا كانت ميكانيكا الكم صحيحة، فإنه لا يوجد وجهة نظر مفضلة يستطيع راصد ثالث اعتمادها للتوفيق بين جملتي ويغنر وزميلته. ويتابع قائلا: “لا يوجد سبب لافتراض أنّ ‘حقائق’ أيّ منهما أكثر أساسية من حقائق الآخر.” ومن ثم، فإننا مجبرون على أن نستنتج أنه “لا يوجد “حقائق للعالم” بحد ذاتها.” بل هناك حقائق لكل راصد فقط.
وتتوصل أحد تفسيرات ميكانيكا الكم إلى هذه النتيجة بشكل طبيعي. إذ تضرب ميكانيكا الكم البيسياني Quantum Bayesianism (تعرف أيضا بالميكانيكا QBism) -التي وضعها فيوكس وآخرون في بداية العقد الأول من القرن الحالي- جذورها في وجهة النظر القائلة إن ميكانيكا الكم لا توفر إلا توصيات حول ما يجب أن يصدّقه راصد عقلاني عما سيراه هو أو هي عند إجراء قياس – وأنه يمكن تجديد هذه المعتقدات كلما أخذ الراصد تجارب أحدث بعين الاعتبار. وهنا حيث تدخل “البيسيانية”: فهي تشير إلى النظرية التقليدية للاحتمال، التي برزت في القرن التاسع عشر، والتي تعطي احتمالات تقوم أساسا على ما يعرف الراصد أصلا بأنه النتيجة.
وتُنكِر الميكانيكا QBism بصرامة أن تكون هناك أي فكرة موضوعية لحالة كمية على الإطلاق. ولا يعني هذا أنه لا يمكن أن يكون هناك أي شيء “حقيقي” أبعد من المعتقد الشخصي، بل يعني فقط أن ميكانيكا الكم لا يتطرق بشكل مباشر إلى هذه القضية.
لا يتسبب وجود “حقائق بروكنر البديلة” Brukner’s “alternative facts” أيّ أذى في صورة كهذه، لأنها افترضتْها من الأساس. وكذلك لا تنهار الدالة الموجية، وهي حينها ليست أكثر من طريقة للكلام عن الكيفية التي تُحدِّث بها القياسات معْرِفَتَنا. إلا أن عددا قليلا من الفيزيائيين مستعدٌ لقبول هذه الحدود الصارمة خلال سعيهم إلى وصف الواقع، حيث تبقى الميكانيكا QBism رياضة غير شعبية.
إذن، ما الوضع الآن؟ هنا يتدخل ماركوس ميولر Marcus Müller “الرجل المجنون” باعترافه الشخصي، والفيزيائي من جامعة فيينا. وتدفع إجابته دفع الأمور خطوة أخرى. فهو يقول: “إن الميكانيكا QBism ليست متطرفة بدرجة كافية. فهي تفترض أن هناك عالما خارجيا واحدا وهو المسؤول في النهاية عن تجربتنا. لكن مقاربتي تبدأ من دون افتراض عالم كهذا.” وهذا يعني أنه لا يوجد قوانين أساس في الطبيعة – فلا نسبية عامة أو معادلات ماكسويل أو مبدأ الارتياب لهيازنبرغ – ونتساءل كيف سيبدو العالم عندئذ. قد يفاجئك الجواب.
“شيء غريب للغاية: ستنتهي بكوّنٍ مبني مباشرة من تجاربنا”
لأنه حتى لو رميت الفيزياء جانبا، فإن منطق الرياضيات يبقى – وهنا حيث يبدأ ميولر بتركيب عالمه الافتراضي. لنقل إنّ عندك خبرة ما X: وتقوم بإجراء تجربة عن العالم فتجد النتيجة X. وبمعرفة ذلك، ما هي فرص أن تجابه نتيجة أخرى Y؟ هناك فرع في الرياضيات يتعامل تماما مع هذا النوع من الأسئلة. يطلق عليه نظرية المعلومات الخوارزمية Algorithmic information theory التي تبين كيف تتوصل إلى تنبؤات مبنية على تعليل استقرائي Inductive reasoning بنكهة بيسيانية مميزة: بفرض أن X حدثت، فهناك معادلة لمعرفة احتمال أن يتبعها Y.
لقد أراد ميولر أن يرى إلى أين يؤدي التعليل في عالم لا يوجد فيه سوى شيءٍ آخر يعمل على تشكيله. فمثَّلَ كل خبرة فردية في كل لحظة كخيط من بتاتbits من المعلومات – واحدات 1 وأصفار 0، مثل الترمز الحاسوبي الثنائي. ويتألف تاريخ كلّ راصد عندئذ بمسيرة عبر كلّ خيوط البتات، ويكون احتمال الانتقال من خيط إلى الذي يليه عشوائيا لكن بشرط: يجب أن يؤخذ تاريخ الخبرات بعين الاعتبار. يقول العالم النظري جيوليو تشيريبيلا Giulio Chiribella، من جامعة هونغ كونغ، إنّ الفكرة هي: “أن تفكر في خبراتنا كفيلم مؤلف من لقطات عديدة وأن تسأل السؤال: بعد اللقطات التي شاهدتها حتى الآن، ما هي اللقطة التي سأراها بعد ذلك؟”
قد تعتقد أنه من غير المرجح بتاتا أن تُنتج صورة كهذه ما نختبره: عالم محكوم بقوانين ويعطي نتائج، بحسب فهمنا على الأقل، هي النتائج نفسها بالنسبة إليك وبالنسبة إليّ. ولكن عندما استخدم ميولر طرق نظرية المعلومات الخوارزمية لفهم أيّ من خيوط البتات أكثر احتمالا، وجد شيئا لافتا للنظر.
خلال تراكم هذه الخبرات العشوائية، يميل الاحتمال المشروط للخبرة التالية، كما هو موصوف بخيط من البتات، للازدياد في حالة الخيوط البسيطة مقارنة بتلك الأكثر تعقيدا. وهذا يجعلها تبدو كما لو أن هناك خوارزمية بسيطة تولد خيوط البتات هذه. ولذا يستنتج الراصد “نموذجا” بسيطا للواقع، يتميز بقوانين منتظمة قابلة للفهم تربط خبرة ما بالتي تليها بكل سلاسة.
إن هذه تبدو غريبة إلى حد كبير: فكيف يمكن أن ينتج من العشوائية هذا التصرف الذي يبدو أنه يتجه إلى الإلتزام بقانون؟ يشبه هذا الطريقةَ التي نفهم بها غازا ما. فعلى الرغم من أن كل التشكيلات الممكنة لجزيئاته مسموح بها، إلا توزع الاحتمال الذي نراه لسرعات الجسيمات هو منحنى بسيط ناقوسي الشكل، وتتوزع الجسيمات في الفضاء بانتظام لطيف. وينتج من ذلك قوانين بسيطة تتعلق بالأشياء التي نستطيع قياسها بيسر: كالضغط ودرجة الحرارة والحجم. وهذه القوانين ليست مكتوبة على جزيئات الغاز نفسها، لكنها خواص ناشئة لاحتمالات التشكيلات المختلفة.
يقول ميولر: “إن الملفت للنظر هو أنّ فكرة عالم موضوعي خارجي تظهر بشكل تلقائي في نهاية المطاف،” وأكثر من ذلك، “سيميل راصدون مختلفون إلى الاتفاق على خواصَّ ذلك العالم الخارجي.” لأنه بحسب نظرية المعلومات الخوارزمية تميل احتمالات خيوط جزيئات بالنسبة إلى راصدين مختلفين للالتقاء عند التوزع نفسه – ومن ثم يتفقون على ما ستكون عليه “قوانين العالم”. ويقول شيريبيلا “بالمحصلة، سيكون ‘الفيلم’ على الأغلب بسيطا ويستطيع راصدون مختلفون الاتفاق على بعض جوانب حبْكته.”
ولا تتوقف المفاجأة هنا. إذ يجب أن يكون لهذا الواقع الناشئ النوعيات نفسها التي نراها في الفيزياء الكمية، حيث تستطيع الأشياء إبراز خواصَّ شبه موجية وتتصرف بطرق “لا محلية”، عندما يبدو كأن قياسا على جسيم ما يؤثر في حالة جسيم آخر منفصل عنه في الفضاء.
والنتيجة هي أنه منْ أقلّ عدد من الافتراضات -حول احتمالات ما يمكن أن تحويه تجاربنا الشخصية- يمكن استرجاع عالم مثل ذلك الذي نعرفه. يقول ميولر: “وقد يظل العالم يبدو مثلما نعرفه من خبرتنا، على الرغم من أنه بالحقيقة قد يكون مختلفا لدرجة محيرّة تماما.”
ليس من السهل أن نعرف كيف يمكن اختبار أراء ميولر. إلا أنّ البرهان الظرفي Circumstantial evidence الذي يوحي بأنه على الطريق الصحيح ينبع مع الطريقة التي تحل بها آراؤه مسألة عقول بولتزمان Boltzmann brains، وهي تقريبا لغز ميتافيزيقي Metaphysical يوحي بأننا لسنا من نوع المخلوقات التي نعتقدها (انظر:العقول التلقائية(.
ومع كل هذا، فإن هذه الصورة للكون المبينة بشكل مباشر من خبرات الراصد “غريبة” لدرجة تكاد تحير باحثون آخرون كيف يفسرونها. يقول تشيريبيلا: “إنها نقطة بداية في غاية الإثارة وتولّد أسئلة جديدة.” وخلال ذلك، يبقى بروكنر متفتح الذهن ويقول: “إن استيعاب ماركوس للمفاهيم والخلفية الرياضياتية متين ويمكنه من المجازفة بطرح تغيرات وتعديلات جوهرية على نظرياتنا.”
وميولر نفسه على وعي تام بأنه لم يسلك طريقا سهلا، لكنه يجادل في أنه يستحق المجازفة. ويقول: “إنه ليس جنونيا مثلما يبدو لأول وهلة، إلا أن إقناع الناس تحدٍ كبير، لأن التغير المقترح في وجهة النظرة للعالَم توجه غريب ومختلف بشكل كبير عما ألفناه سابقا.”
انهيار عن وعي؟ ? Conscious Collapse
إن فكرة أنّ الوعيّ يتسبب في انهيار الدالة الموجية، العملية التي تؤول فيها نتائج لا حصر لها إلى قياس ما إلى قيمة واحدة معينة، ليست غريبة بحدّ ذاتها. ومع ذلك، فقد ظل الفيزيائيون لوقت طويل يعتبرونها اقتراحا مثيرا للتندر لأنه يبدو وكأنه يستبدل لغزا بآخر: إذ لا توجد لدينا فكرة لوصف الوعي، فكيف نتوقع أن نعرف كيف يتسبب بالانهيار؟
مؤخرا، فإن كيلفن ماكوين Kelvin McQueen الفيلسوف من جامعة تشابمان Chapman University في كاليفورنيا، وديفيد تشالمرز David Chalmers، من الجامعة الوطنية الاسترالية Australian National University في كانبيرا، طرحا فكرة أنه باستطاعتنا الآن أن نجعل الأشياء أكثر دقة.
ويستدل الاثنان من نظرية المعلومات المتكاملة Integrated information theory التي تقول إنّ الوعيّ ينشأ عن الترابط في الدماغ. بل إن مخترعها جيوليو تونونيGiulio Tononi ، عالم الأعصاب من جامعة ويسكنسن ماديسون University of Wisconsin Madison ، اقترح قياسا رياضياتيا للوعي، يطلق عليه فاي Phi يرتكز على الطريقة التي تتشارك بها مركبات منظومة المعلومات وتجمعها.
وتتحدى نظرية المعلومات المتكاملة فكرة أنّ الوعيّ إما كلّ شيء أو لا شيء، وتفسح المجال لإمكانية امتلاك مخلوقات غير إنسانية، بل وحتى منظومات أبسط من ذلك كالاصطناعية مثلا، مستوى ما من الوعي. ولم يتم التحقق من هذه الفكرة تجريبيا حتى الآن، ولم يتمكن أحد من أن يصوغ كيف يمكن حساب Phi للدماغ البشري. إلا أن هذا الاحتمال دفع ماكوين وتشالمرز إلى اقتراح طريقة جريئة للتحقق مما إذا كان الوعيّ يسبب فعلا انهيار الدالة الموجية.
يقول ماكوين إنه من ناحية المبدأ فبإمكانك أن تقوم بإجراء تجربة كمية مع تعديل بسيط: يمكن أن تمتلك الجسيمات نفسها نوعا من المقدرة الحاسوبية، في الوقت نفسه الذي تبقى فيه صغيرة لدرجة تعكس صفات كمية قابلة للمشاهدة. فإذا كان لهذه الجسيمات مقدار Phi كبير لدرجة كافية فيمكنها أن تنتج انهيارا تلقائيا ولا تظهر التأثيرات الكمية، مثل التداخل الموجي، التي تتصرف وفقها جسيمات من الحجم نفسه ولكن بمقدار Phi أقل.
لا يساور ماكوين الشكُّ في صعوبة إجراء تجربة كهذه، ويقول: “لست متمسكا بشدة بهذه الفكرة، إلا أنني أريد أن أراها تُثبت أو تُبطل، متى ما يغدو واضحا كيف يمكن بناء المنظومة المناسبة للتحقق منها.”
أدمغة كونية Cosmic Brains
في أواخر القرن الثامن عشر وصف الفيزيائي النمساوي لودفيغ بولتزمان Ludwig Boltzmann العالَم بأنه فضاء ممتلئ بالجسيمات المتحركة عشوائيا لتأخذ كلّ أشكال التركيبات المختلفة.
وقد أثبتت التجارب منذ وقت طويل أنّ واقعنا يتوافق تماما مع هذه النظرة، إلا أن هناك مشكلة. لو تمعنت في احتمالات كلّ تركيبة، لتبين أنّ احتمال أننا كائنات حساسة تطورتْ على كوكب خلال بلايين السنين هي احتمالات أقلّ من كوننا “أدمغة” عابرة مؤقتة، تكثفت نتيجة فوضى بمحض الصدفة وتطفو بحرية ومعها كلّ الذكريات والخبرات التي تتخيلها. كيف يمكن لنا أن نعرف أننا لسنا “أدمغة بولتزمان” عرضة للذوبان مرة ثانية عائدين إلى الكون في أي لحظة؟
لقد فكّر الفيزيائيون والفلاسفة في هذا لعقود، إلا أنه يمكن لمنظور متطرف جديد أن يُبدّد هذه المعضلة. لأنه إذا برز الواقع الموضوعي من الطريقة الرياضياتية المتوقعة التي تحدد بها خبراتنا السابقة مشاهداتنا المستقبلية، عندئذ سيكون أيّ انقطاع مفاجئ في الخبرة، مثل تلك التي تصادفها أدمغة بولتزمان، غير محتمل على الإطلاق، ويجب أن تكون الخبرة سلسة ومتصلة ووفق مقاييسنا، ويمكن التنبؤ بها.
ونقاشات شبيه- كما يقترح باحثون آخرون- تجعل من غير المتوقع أننا لا نعدو أن نكون أكثر من “عملاء أذكياء” في محاكاة ما حاسوبية كونية فائقة الذكاء. وسيكون هذا أيضا عرضة لحوادث مفاجئة، مثل إيقاف تشغيل الحاسوب، بينما لدينا تصور مستمر للواقع.