أخيرا العثور على ثقوب سوداء متوسطة الكتلة
الاكتشاف قد يفسر أصل وحوش المليون كتلة شمسية في مراكز المجرات
كيف صارت الثقوب السوداء Black Holes العملاقة بهذه الضخامة؟ لطالما امتلك علماء الفلك Astronomers أدلة على وجود ثقوب سوداء صغيرة ذات كُتل لا تزيد على عشرات من كتلة الشمس، وثقوب ضخمة ذات مليون أو بليون كتلة شمسية كامنة في مراكز المجرات Galaxies. ولكنه يبدو أنّ الثقوب السوداء ذات الأحجام المتوسطة، مع آلاف أو عشرات الآلاف من الكُتل الشمسية، مفقودة. وقد أجبر غيابُها الباحثين النظريين Theorists على اقتراح أنّ الثقوب السوداء فائقة الكتلة Supermassive Black Holes لم تنمُ تدريجياً باستهلاك المادة Matter ببطء، ولكنها ظهرت بطريقة ما كعمالقة جاهزة.
والآن، يبدو أنّ علماء الفلك قد اكتشفوا موقع بعض الكتل الوسطى المفقودة. إذ بحث فريق دولي في أرشيف أطياف المجرات، ووجد أكثر من 300 مجرة صغيرة تُصدر إشارة الثقوب السوداء متوسطة الكتلة Intermediate Mass Black Holes (اختصارها: IMBHs) في مراكزها. وأكد الفريق أنّ عشرة من تلك المجرات المرشَّحة لديها بالفعل ثقوب سوداء متوسطة الكتلة وذلك من خلال مراجعة مجموعات بيانات أخرى، مما يزيد من ثقتهم في أنّ القائمة الأصلية “يجب أن تتضمن على الأقل بضع عشرات من الثقوب السوداء IMBHs،” كما يقول قائد الفريق إيغور تشلينغاريان Igor Chilingarian من مرصد سمثسونيان الفيزيائي الفلكي Smithsonian Astrophysical Observatory في كامبريدج بماساتشوستس.
وقد أثنى إيزيكيل تريستر Ezequiel Treister من الجامعة الأسقفية الكاثوليكية في تشيلي بسانتياغو على العملَ. ويقول فولكر بروم Volker Bromm، من جامعة تكساس University of Texas في أوستن: “الحصول على قياسات الثقب الأسود أمر صعب للغاية؛ إذ كنا نحاول لسنوات عدة.” ويتابع قائلا إنّ أسلوب الفريق “مبتكر للغاية”، ويصف عملهم بأنه “دقيق وموثوق به.” ويقول الباحثون إنّ النتائج قد تبدأ بكشف غموض تشكيل الثقب الأسود الفائق.
ويصعب العثور على الثقوب السوداء من أي حجم لأنها لا تصدر ضوءًا خاصا بها. إذ يمكنها الكشف عن ذاتها عن طريق امتصاص الغاز والغبار القريب، وتسخينه بشدة على طول الطريق، مما يؤدي إلى انبعاث الأشعة السينية X- Rays. فالأشعة السينية التي تتدفق من مراكز العديد من المجرات تبوح بوجود الثقوب السوداء الفائقة الكتلة، والمعروفة باالنوى المجرِّيَّة النشطة Active Galactic Nuclei (اختصارا: النوى AGNs). ولكن الأشعة السينية المنبعثة من الثقوب السوداء IMBH ستكون أكثر خفوتًا، وأقمار رصد الأشعة السينية القائمة مستعدة ومُوجّهة نحو المصادر البعيدة للرصد التفصيلي، وليس المسوحات المُوسّعة للمجرات المتعددة. وعلى سبيل المثال، لا يغطي أرشيف مرصد تشاندرا للأشعة السينية Chandra X-ray Observatory التابع لوكالة الفضاء ناسا NASA سوى 2.5% من السماء.
لذا، بحث فريق تشلينغاريان عن إشارة بديلة، الضوء المرئي في فهرس مكون من 930 ألف من أطياف المجرات من استطلاع سلون الرقمي للسماء Sloan Digital Sky Survey ( اختصارا: الاستطلاع SDSS) . فالأشعة السينية التي تنتجها سُحب غاز الهيدروجين المؤينة في النوى AGN في النتوء المجري حولها، يجعلها تسطع عند ترددات معينة مُولّدة بذلك قممًا Peaks مميزة في طيف Spectrum المجرة. حيث تدور الغيوم الأقرب إلى الثقب الأسود بسرعة عالية حوله، مما يُغيّر الترددات عبر تأثير دوبلر Doppler Effect ويطمس كل قمة. وتتحرك السحب الغازية الأبعد ببطء، ومن ثم لا تزال القمم حادة. ولتحديد المجرات التي تحتوي على نوى AGN صغيرة، بحث الفريق عن قمم طيفية كانت حادة في الأعلى ولكنها طُمِست حول القاعدة.
وأسفر البحث في فهرس الاستطلاع SDSS عن 305 مرشحين. ولأنّه يمكن للظواهر الأخرى قصيرة العمر أن تحاكي الإشارة الرئيسية، فقد فحص الفريق استطلاعات أخرى، جُمعت في أوقات مختلفة، للتأكد من أنّ المجرات المرشحة قد أظهرت القمم نفسها. كما دقّقوا في بعض المجرات باستخدام تليسكوب ماجلان العملاق Giant Magellan Telescope في تشيلي. ولكن الفاصل الحقيقي للنوى AGN هو الدليل على إشارة الأشعة السينية، لذلك قام الفريق بتفحص الرصد المُفهرس من مرصد تشاندرا وسويفت Swift التابعين لناسا وبعثة الأشعة السينية متعددة المراياMission X-ray Multi-Mirror الأوروبية لمعرفة ما إذا كانوا قد لاحظوا، عن طريق الصدفة، أيًا من هؤلاء المرشحين. وكانت النتيجة قائمة نهائية قصيرة من 10 مرشحين، أفاد بها الفريق في ورقة نُشرت على مسودات الأبحاث العلمية المتاحة للنشر على الموقع arXiv، كما قُدّمت إلى مجلة الفيزياء الفلكية The Astrophysical Journal.
ويكفي هذا لتحدي التفكير الأخير حول كيفية تكّون الثقوب السوداء الفائقة الكتلة. إذ احتاج الباحثون النظريون إلى بدائل للنمو التدريجي، ليس فقط بسبب عدم العثور على الثقوب السوداء الكتلة IMBH، ولكن أيضًا بسبب تحديد الفلكيين أشباه النجوم العملاقة Giant Quasars – نوى مجرية نشطة شديدة السطوع – والتي تشرق عندما كان عمر الكون أقل من بليون سنة. “كيف يمكن للثقوب السوداء الفائقة أن تنمو بشكل كبير جدا [في وقت مبكر]؟” كما يتساءل الباحث النظري آفي لويب Avi Loeb من جامعة هارفارد Harvard University. إذ اقترح هو وآخرون أنه في بدايات الكون، انهارت غيوم الغاز الضخمة مباشرة لتُكوّن ثقوبا سوداء تتراوح بين مئة ألف إلى مليون كتلة شمسية، والتي شكّلت نُويّات أشباه النجوم المبكرة. ومن شأن هذا السيناريو أن يفسر التكوين السريع والنقص في الثقوب السوداء IMBH.
ومع ذلك، تشير النتائج الجديدة إلى أنّ بعض الثقوب السوداء العملاقة نمت على الأقل من نُويّات صغيرة. إذ تتلاءم الثقوب السوداء IMBH العشرة المرشحة المؤكدة مع نمط النمو التدريجي: فترتبط كتلها بحجم النتوء المجري من حولها، مما يشير إلى أنّ كل منها يتنامى مع مضيفه (انظر: الرسم البياني). “لا يوجد سيناريو واحد: فكلاهما يحدث،” كما يقول تريستر. ويُضيف: “الآن، السؤال هو، أيهما أكثر شيوعا؟”
ويقول بروم إنّ الانهيار المباشر ربما كان ممكنا فقط في الكون المُبكّر. فقد ولّد الانفجار الكبير Big Bang الهيدروجين والهيليوم فقط، ولم تنضم العناصر الأثقل، المُشكّلة من قِبل النجوم المُبكّرة، إلى المزيج لملايين السنين. إذ ساعدا في تبريد الغاز البدائي عندما صارا متأينين، مما أدى إلى توهج الغاز وانبعاث الحرارة منه. ومن المرجح أن تتفتت سحابة الغاز الأكثر برودة إلى الكثير من النجوم ـ نُويّات ثقوب سوداء صغيرة. وعلى النقيض من ذلك يمكن أن تنهار سحابة بدائية ساخنة في جرم واحد عملاق، بمساعدة قوة سحب الجاذبية Gravitational Pull للمادة المعتمة Dark Matter، حسبما يقترح بروم. ويعترف أنّ هذا الأمر قد يكون نادر الحدوث، وضربا من “معجزة كونية”.
والعثور على المزيد من الكتل المتوسطة هي الطريقة الوحيدة لمعرفة أي سيناريو هو المُهيمن. ويقول تشلينغاريان إنّ العقبة هي قلة وجود مسوحات بالأشعة السينية. ومن المتوقع أن يُطلق تليسكوب مسح بالأشعة السينية صُنع في ألمانيا يسمى إيروسيتا eROSITA في وقت لاحق من هذا العام أو أوائل العام المقبل على متن المرصد الروسي سبكتر آر- جي Russian Observatory Spektr-RG. “سيُنتج مجموعة بيانات دقيقة للغاية،” كما يقول تشلينغاريان. إنه يراهن على أنه سيُسفر عن مئات من الثقوب السوداء متوسطة الكتلة IMBH المؤكدة، وسيُسلط المزيد من الضوء على أصول الثقب الأسود.