كيف نحقق الازدهار وننجح في البقاء في عالم يسجل فيه الذكاء الاصطناعي الاختراق تلو الآخر
إن التحدي الذي نواجهه اليوم ليس “عالَماً بلا عمل” بل عالَماً تتغير فيه طبيعة العمل بخطى متسارعة.
تتسارع وتيرة التقدم المُحقق في مجال الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي بخطى كبيرة. ففي الشهر الماضي وحده شهدتُ عدداً من الأمور الجديدة أدرج فيما يلي عدداً منها:
- طورت شركة ديبمايند تكنولوجيز ليمتد DeepMind Technologies Ltd بلندن في المملكة المتحدة، نظاماً لمسح مليون صورة من المسوحات الضوئية للعين، وهذا النظام يُدرب نفسه على اكتشاف العلامات المبكرة لأمراض العين التنكسية Degenerative eye conditions.
- طوّرت شركة ريثنك روبوتكس إنك Rethink Robotics Inc. في بوسطن بولاية ماساتشوستس، والتي أسسها المدير السابق لمختبر الذكاء الاصطناعي لدى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا رودني بروكس Rodney Brooks، بتطوير روبوتات سويْر Sawyer التي تنتجها بدرجة هائلة لمساعدة البرامج الروتينية غير ذات الخبرة Nonexperts program routines التي توجه الروبوت إلى كيفية تنفيذ المهام المعقدة.
- بدأ معدو الضرائب لدى شركة اتش أند آر بلوك H & R Block باستخدام نظام واتسون الحاسوبي Watson الذي طورته شركة آي بي أم IBM لزيادة استقطاعات العملاء. واتسون “مُطَّلع” على آلاف الصفحات من قانون الضرائب الفيدرالي وسيقوم بتحديث التغييرات باستمرار عند حدوثها.
- طرحت شركة نيوتونومي إنك. NuTonomy Inc. في كامبريدج في ماساتشوستس، وهي شركة ناشئة تعمل على تطوير سيارات ذاتية القيادة تعتمد على تكنولوجيا طورها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أسطولا صغيرا من سيارات الأجرة ذاتية القيادة في بوسطن.
- تسعى شركة فوروورد Forward وهي شركة حديثة النشأة بسان فرانسيسكو في كاليفورنيا أسسها مدير المشاريع الخاصة السابق لدى غوغل Google، إلى تحويل الرعاية الصحية التقليدية من كونها إجراءات تقوم على تقديم الرعاية الفورية وكردة فعل على حالة صحية محددة، إلى رعاية استباقية من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي وأجهزة استشعار يمكن ارتداؤها.
لقد تحسنت شبكات التعلُّم العميقdeep learning والشبكات العصبية الاصطناعية Neural networks بشكل كبير من حيث الفعالية والتأثير، الأمر الذي ارتقى بأدائها إلى مستوى أداء الإنسان في العديد من جوانب الرؤية ومهارات التحادث وحل المشكلات. ونتيجة لذلك، تشهد الشركات المختصة تحولاً كبيراً وهناك المزيد على الطريق.
لكننا نشهد كذلك تطورات غير مُستحبة. فمتوسط الدخل في الولايات المتحدة هو اليوم أدنى مما كان عليه في السنوات الخمس عشرة الماضية مع تركيز الثروة في أعلى المستويات. ومثلما رأينا في الانتخابات الأخيرة بالولايات المتحدة، هناك عدم رضا عن التوزيع غير المتساوي لمزايا التقدم التكنولوجي. وتبين أبحاث مبادرة إم. أي. تي. للاقتصاد الرقمي MIT Initiative on the Digital Economy (اختصارا: المبادرة IDE) الفجوةَ التي يشعر بها كثيرون. (http://ide.mit.edu/sites/default/files/publications/IDE_Research_Brief_v07.pdf)
فازدادت حدة التذمر من تولي عدد أكبر من الروبوتات القيام بأشغال يؤديها البشر – وهذا ينطوي على مخاوف مشروعة. ففي عام 2014 عندما نشرتُ كتاب العصر الثاني للآلة The Second Machine Age (http://secondmachineage.com) توقعت أنا وأندرو ماكافي Andrew McAfee، الكثير من مثل هذا التقدم، لكن الأمور تتسارع وهذا يحدث بسرعة أكبر بكثير من المتوقع. وطبعا هذه ليست المرة الأولى التي تحوِّل فيها الأتمتة طريقة عمل المصانع ، ولكن مع تقنيات الذكاء الاصطناعي المتينة اليوم، بدأت الأتمتة تتسلل إلى مجالات تتطلب قدراً أقل من العمالة اليدوية المتكررة والتي بدا أنها في مأمن من هذا التحول مثل مجالات القانون والتعليم والصحافة. فالتطورات التي نشهدها اليوم تقوم بزيادة قدرة العقول البشرية وليس العضلات فحسب.
وفيما نشهد حدوث كل هذه الأمور العجيبة، من المهم أن نتذكر أنه لا يوجد نقص في الأعمال المهمة التي لا يمكن لغير البشر أداؤها. وسيظل هذا الأمر صحيحاً لسنوات عديدة. إن التحدي الذي نواجهه اليوم ليس “عالماً بلا عمل” بل عالماً تتغير فيه طبيعة العمل بخطى متسارعة. ومن ثم، فإن الرد على مثل هذا الوضع لا يتم بمجرد توفير دخل بديل للعمال الذين شردتهم التكنولوجيا، وإنما إعدادهم للقيام بوظائف جديدة يكثر عليها الطلب في مجالات التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية وإعادة تأهيل البيئة وريادة الأعمال والابتكار والاكتشاف العلمي وغيرها الكثير.
كيف ذلك؟ يقف عدد كبير جداً من قادة الأعمال والعمال وكذلك السياسيين موقفاً يعبر عن استسلامهم للأمر. إنهم يخشون من مستقبل يزعزع نماذج الأعمال والأنظمة الاقتصادية ويغيرها تماماً عما نعرفه اليوم. لكن الحل إزاء العوامل المزعزعة لا يقوم على حماية الماضي من المستقبل أو تجميد الطرق القديمة التي اعتدناها في عملنا. ومثل هذا المسار محكوم بالفشل. إن الطريق الأمثل للمضي قدماً يكمن في اعتماد الأدوات والنماذج الناشئة التي لا تنتج السلع والخدمات فحسب بل تحقق الازدهار على كافة المستويات.
ليس من الضروري أن يتعارض تطوير منتجات وخدمات الذكاء الاصطناعي بطريقة ملائمة وتنافسية مع توزيع – وإعادة توزيع – القوى العاملة. وبدلاً من التفكير في الذكاء الاصطناعي باعتباره لعبة خاسرة أو طريقة لأتمتة الوظائف والخدمات الحالية، يدرك الرؤساء التنفيذيون المتنورون أن التكنولوجيا تضيف قيمة جديدة من خلال توسيع نطاق العمل وتعزيز الإنتاجية. وعندما تكمل التكنولوجيا عمل البشر وتجعلهم أكثر إنتاجية وتخفض التكاليف، تتحسن حال الشركات وكذلك الموظفين.
ولنتذكر أنه على امتداد التاريخ، أطاحت التكنولوجيا بوظائف وأنماط عمل كثيرة لكنها خلقت بالمثل فرص عمل أخرى. ونحن نحتاج إلى توجيه نقاشنا اليوم بشكل أكبر نحو إيجاد حلول لخلق الوظائف حيث تكون الأتمتة أكثر من مجرد استبدال العمالة الحالية بالاستثمارات الرأسمالية.
و مثالان من بحث تحدي الابتكار الشامل لعام 2016 ضمن المبادرة IDE (http://ide.mit.edu/inclusiveinnovation- challenge) كيف يمكن القيام بذلك:
لدى شركة 99 ديجريز كاستوم إنك 99Degrees Custom Inc. ومقرها في لورانس بولاية ماساتشوستس، تستخدمُ “مصانعُ الإنتاج السريع” “Speed factories” الإقليمية الروبوتاتِ وتكتيكات التطوير محدودة العمالة والرشيقة Lean and agile development tactics لمساعدة شركة الملابس الفتية على الاستجابة بسرعة للطلبات وتقليص قوائم الجرد والابتكار للتقدم على منافسيها. وفي الوقت نفسه، تقوم بتدريب قوى عاملة محلية ماهرة وتدفع أجوراً أفضل وتستثمر من أجل تحسين ارتقاء عمالها مهنياً.
وفي حالة مختلفة تماماً، بدأت شركة البرمجيات العملاقة الألمانية ساب SAP قبل سنتين بتنظيم أسبوع إفريقيا للترميز Africa Code Week (http://africacodeweek.org/) من أجل تمكين الشباب الأفارقة في مهارات الترميز. وفي العام الماضي، شارك أكثر من 430000 شاب في 30 دولة إفريقية وأربع من دول الشرق الأوسط في أسبوع إفريقيا للتشفير وأسبوع التشفير للاجئين Refugee Code Week (http://refugeecodeweek.org). وتقول شركة ساب إن هذا الجهد وعلى المدى الطويل “سيساعد على سد الفجوة في مهارات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في المنطقتين،” وهذا بدوره سيحفز النمو الاقتصادي والاستقرار. وتعد المساعدة على تحسين حياة الناس جزءاً لا يتجزأ من رؤية ساب.
وهناك العديد من الطرق لتحقيق الازدهار في عالم الذكاء الاصطناعي المتطور ولكنها جميعها تتطلب التصميم وسعة الحيلة. فقد تركز بعض الجهود على المجالات التي لا يزال لدى البشر فيها ميزة على الآلات – مواصفات غير ملموسة ومهارات التواصل الشخصي مثل الإبداع والتعاطف والعمل الجماعي والتخطيط وحل المشكلات والقيادة. وقد يبني الآخرون أنظمة تتضمن مجسّات لمساعدتنا على الحد من استخدام الطاقة من خلال زيادة الكفاءة وخفض فواتير التبريد، أو إثراء حياتنا الثقافية. وكل ذلك هو جزء مما أسماه الاقتصادي الذي عاش في القرن العشري جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter “الدمار الخلاق” Creative destruction. (https://notendur.hi.is/~lobbi/ut1/a_a/SCUMPETER.pdf)
إن مستقبل الذكاء الاصطناعي الناشئ سوف يكون مختلفاً تمام الاختلاف عن الأعمال التي نؤديها اليوم – ولكن ما من سبب يدعو إلى الإصابة بالهلع. فبفضل الالتزام الواضح بتشارك الازدهار المتحقق من الاقتصاد الرقمي، ومن خلال الاستثمارات الواثقة في مستقبل سريع التطور، ستكون العقود القليلة القادمة هي الأفضل في تاريخ البشرية، للغالبية، وليس للقلة فحسب.
عن الكاتب
إريك برينيجلفسون Erik Brynjolfsson أستاذ أسرة شوسل لعلوم الإدارة في كلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومدير مبادرة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا للاقتصاد الرقمي. وقد أقامت مبادرة الاقتصاد الرقمي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT IDE) مؤتمر الخط الزمني للاضطراب الذي يحدثه الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة AI and Machine Learning Disruption Timeline Conference في 8 مارس 2017، لعرض هذه التقنيات الناشئة وإظهار إمكاناتها. وجمع مؤتمر قادة قطاع الأعمال والأوساط الأكاديمية والحكومات لمعالجة بعض التحديات الصعبة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي ومناقشة ما قد يحمله لنا المستقبل