ما هو الحقيقي؟ حكاية كيف اختطفت الأنا المتضخمة فيزياء الكم
قصة الكمّ تمثل هى استبصار رائع: علماء ذكور غير مثاليين وعدد قليل من الإناث. وقد نحتاج إلى التخلص من تحيزاتنا المسبقة لتحقيق المزيد من التقدم، كما يقول كتاب جديد.
تنبيه: ليست لدينا إجابة عن السؤال “ما هو حقيقي؟” فلا يمكننا وصف المادة من حيث الموجة أو الجسيم ؛ فهي كلاهما وليس أيا منهما على حد سواء. نحن عالقون في المكان الذي وصفه إرفين شرودنغر Erwin Schrödinger في عام 1926: “سيعتمد التصنيف على ذوق الراصد لما يرغب الآن في اعتباره حقيقة … بالتأكيد ليس هناك معيار للواقع إذا لم يرغب المرء في القول بذلك.”
وكذلك لا نفهم فهما جيدا للماذا يمكن أن تكون الأشياء الكمية مثل الذرات في حالتين في آن واحد بينما نحن البشر، الذي لسنا سوى تكتلات من هذه الكيانات، ببساطة لا يمكننا ذلك. وكلنا لدينا “تفسيرات” للنتائج التجريبية. اختيار أحدها يعتبر مسألة ذوق أيضا.
كيف بقي كل هذا دون إجابة لفترة طويلة؟ وهذا هو السؤال الذي يجيب عنه آدم بيكر في عمله المثير للإعجاب المطروح لأول مرة. وكتاب ما هو حقيقي؟ يشير إلى أن “الفيزياء الكمية تعمل بشكل جيد،” لكن مجرد تطبيقها على بناء العالمَ الحديث هو أمر مخادع، لأنه يعني -كما يقول- “ترقيع فجوة في فهمنا للعالمَ – وتجاهل الصورة الأكبر للعلم كعملية إنسانية.”
يعالج بيكر الفيزياء بثقة راسخة، على الرغم من أن تفاصيل التجارب الكمية ليست مجال تخصصه الرئيسي. (كتاب فيليب بول الجديد الممتاز ما وراء الغريب Beyond Weird يستطرد في هذه المسألة أكثر، مما يجعله رفيق مثالي لكتاب بيكر.) وقوة الكتاب الحقيقية تكمن في استكشاف القصص التي تظهر مدى عمق خضوع فيزياء الكم لشخصيات مطوريها.
شخصيات المسرحية نابضة بالحياة والعظمة، وتقدم دراما جذابة. لدينا شخصية نيلز بور الرفيعة وهي تفرض “تفسير كوبنهاغن” Copenhagen interpretation على النظرية. وهناك هيو إيفرت الثالث Hugh Everett III الفاتر والمتحفظ وهو يكافح ضد بور لفرض تفسير العوالم المتعددة Many-worlds interpretation، وجون بيل John Bell شبه المطوق بهالة من القداسة، والذي ألقت أعماله البارزة الكثير من الضوء على سر التشابك الكمّيّ Quantum entanglement. وبالطبع كان هناك أيضا ديفيد بوم David Bohm وتحديه العنيد لكل من النظرية المكارثية McCarthyism والكوبنهاغنية Copenhagenism، ومحاولات ماكس بلانك الشجاعة لكنها الفاشلة في الدفاع عن العلماء اليهود من غضب هتلر.
ولعل فشل بلانك البطولي هو الذي غيّر مجرى التاريخ، مما أجبر هجرة العقول التي غيرت جغرافيا أبحاث الأسلحة الذرية. ولكن نجاح الولايات المتحدة التالي في مجال الفيزياء كانت له تداعياته الخاصة. فبعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت الفيزياء في الأساس موردًا لخلق التفوق العسكري، كان أي إلهاء للمناقشات بنظرية الكم يثير الاستياء. فدُرِّب الفيزيائيون الأمريكيون بهدوء على “اخرس وقم بالحسابات،” كما كتب الفيزيائي من جامعة كورنيل Cornell University ديفيد ميرمين David Mermin.
الفيزيائي موري غيل-مان قال إن نيلز بور غسل أمخاخ جيل كامل من العلماء النظريين
ويتتبع بيكر جذور هذا الموقف إلى تفسير كوبنهاغن. ففي أواخر العشرينات من القرن الماضي صاغ نيلز بور هذا التفسير بالتخبط والترقيع، وينص التفسير على أنه يمكننا التحدث فقط عن نتائج التجارب، وليس عمّا يحدث داخل أنظمة الكم غير المرصودة. ولعقود، فقد كانت هذه القاعدة كتابا مقدسا. وكما قال عالم الفيزياء موراي غيل-مان Murray Gell-Mann في عام 1976: “غسل نيلز بور أمخاخ جيل كامل من العلماء النظريين.”
ولكن كان بإمكان الوضع أن يكون مختلفًا جدًا. ففي منتصف الثلاثينات هدمت عالمة الرياضيات غريتا هيرمان Grete Hermann دليلا نظريا كان قد كتبه الشهير جون فون نيومان John von Neumann، الذي ينص على أن تفسير كوبنهاغن هو التفسير الوحيد الممكن. وقد تَمّ تجاهل عملها. وكما يقول بيكر: “من الصعب تخيل أن جنسها لم يكن له علاقة بالحكم على عملها في عام 1935، في زمن لم يكن مسموحا للنساء عمومًا بالتدريس في الجامعات. ”
والنص الضمني الجاري عبر هذا الكتاب الممتع جدا هو أنه إذا كان لا يزال أمامنا طريق طويل يجب علينا قطعه قبل أن نفهم ما هو حقيقي، فإنه يجب علينا إلقاء اللوم على تحيزاتنا المسبقة. فالقصة إلى الآن حكاية للاستبصارات الرائعة، علماء ذكور غير مثاليين -وعدد قليل من الإناث. إنها اعتراف أساسي ينبغي أن يساعد على ضمان أن كتابة الفصول القادمة من حكاية الكمّ متاحة للجميع.