مشروع يُزيح الستار عن الحياة في المنطقة الغامضة من المحيط
مبادرة جديدة تهدف إلى توثيق التنوع البيولوجي في الطبقة الوسطى من المياه
بقلم: كيلي كينتش Eli Kintisch
ترجمة: مي منصور بورسلي
شرح الصورة: تعج المنطقة الوسطي الديناميكية من مياه المحيط بالكائنات الحية مثل الدودة الشوكية Bristle worm.
قد تستضيف أعماق البحر المُعتمة حياة أكثر مما كنا نظن. هذا هو الاستنتاج الأولي للعلماء الذين أكملوا هذا الأسبوع الرحلةَ البحرية الافتتاحية لمبادرة أوشن توايلايت زون (منطقة مياه المحيط الغامضة) Ocean Twilight Zone (اختصارا: المبادرة OTZ)، وهو جهد استغرق ست سنوات و35 مليون دولار ويستخدم تقنيات مبتكرة – وقام على نموذج تمويل غير معتاد – لتوثيق طبقة المياه الوسطى الغامضة في المحيط.
وكانت بعثة محيط القطب الشمالي North Atlantic Ocean التي استمرت أسبوعا تهدف في المقام الأول إلى اختبار قوة الأداة الرئيسبة الجديدة لمبادرة OTZ: وهي عبارة عن زلاجة قطرها خمسة أمتار، يطلق عليها اسم ديب سي Deep-See، مليئة بأجهزة استشعار للتصوير وتسجيل الصوت وأخذ العينات. ولكن التجربة أنتجت أيضا بعض الملاحظات المثيرة. وحينما كانت الأدوات السطحية التقليدية تتبع الكائنات الموجودة بكثافة في طبقة واحدة فقط تحت السفينة على سبيل المثال، كشفت الزلاجة Deep-See مجموعة من المخلوقات موزعة في جميع أنحاء المنطقة المعتمة والتي تمتد من 200 متر إلى 1000 متر تحت السطح. وتقول أندون لافيري Andone Lavery، عالمة الفيزياء من معهد وودز هول لعلوم المحيطات Woods Hole Oceanographic Institution (اختصارا: المعهد WHOI) في ماساتشوستس، التي تقود المشروع: “ظللنا نشاهد الكائنات الحية على طول الطريق،” وتُضيف قائلة: “كان هذا مفاجئا حقا.”
وكانت هذه بداية واعدة لعلماء المبادرة OTZ. إذ يستهدفون طبقة محيطية غير معروفة، بين المياه السطحية التي دُرست بسهولة والهاوية المظلمة التي استكشفتها الغواصات. وتقول هايدي سوسيك Heidi Sosik، عالمة المحيطات البيولوجية من المعهد WHOI: “لقد أُهمِلت منطقة المياه الوسطى اهمالا شديدا.”
ويدرك الباحثون أن هذه الطبقة تعج بالحياة، بما في ذلك الأسماك والقشريات وقناديل البحر والديدان والحبار. وقد خمّنوا، استنادا إلى المسح الصوتي وما يعلق في الشِّباك، أنّ الكتلة الحيوية الكلية لأسماك طبقة المياه الوسطى قد يتقزم أمامها كمية الصيد العالمي الحالي للأسماك التي تعيش على السطح بما يعادل 100 ضعف. ولكنهم كافحوا لتوثيق هذا النظام الإيكولوجي الموجود في المنطقة الغامضة. ويقول عالم المحيطات البيولوجي مارك بنفيلد Mark Benfield من جامعة ولاية لويزيانا Louisiana State University في باتون روج: “إنّ الأسئلة الكبيرة هي من هم أصحاب الأدوار الرئيسة؟ [و] من يقتات بمن ؟” ويقول غوردن زانغ Gordon Zhang، اختصاصي علم المحيطات الطبيعي: “هناك أنواع تنتظر أن تُكتشف.”
ويهدف المشروع أيضا إلى فهم كيفية تأثير كائنات المنطقة الغامضة في دورة الكربون العالمية بشكل أفضل. وربما تقوم الكائنات الحية في المياه الوسطى بأكبر هجرة يومية على كوكب الأرض، إذ ترتفع كل ليلة نحو السطح لتتغذى بوليمة السمك والبلانكتون (العوالق البحرية) Plankton الذي تغذيه الشمس. وبعدها، مع شروق الشمس، تغوص مرة أخرى إلى الأعماق. ويمنع هذا الهبوطُ الكربونَ المُلتقط من السطح من “العودة إلى الغلاف الجوي مباشرة” فلا تسهم في زيادة ارتفاع درجة حرارة الأرض، كما تقول عالمة البيئة البحرية تريسي سوتون Tracey Sutton من جامعة نوفا ساوث إيسترن Nova Southeastern University في دانيا بيتش بولاية فلوريدا.
وقد أثبتت الأدوات التقليدية عدم ملاءمتها لاستكشاف النظم الإيكولوجية في المياه الوسطى. وأجهزة الاستشعار الصوتي التي تُعلق على السفن – والتي تستخدم الموجات الصوتية لتحديد موقع الأجسام – تواجه مشكلة في الكشف بدقة عن الكائنات الحية التي تسبح في الأعماق. وقد تسحق الشباك التي تُسحب الكائناتِ الجيلاتينية الموجودة في مياه البحر لدرجة لا يمكن التعرف عليها. ونظرا لأنّ العديد منها يتميز بضيائية بيولوجية Bioluminescent، فيمكن أن يُشبّه الصيد كرةً من النار واقعة داخل الشبكة، مما يخيف الحيوانات الأخرى. ويمكن أيضا لموجة الضغط التي تُولّدها شبكة مقتربة أن تُبعد الكائنات الحية.
وقد صُمّمت الزلاجة Deep-See للتغلب على تلك التحديات. ويقول بنفيلد: “إنه إنزال الزلاجة هي عملية تُعادل إنزال السفينة على مسافة 600 متر.” إذ يسمح ذلك لأجهزة الاستشعار الصوتية الخاصة بالزلاجة بتوصيل بيانات ذات دقة أعلى، فلا يتعين على الموجات الصوتية أن تمر عبر مئات الأمتار من الماء. ولأنّ أجهزة الاستشعار تتعقب سبعة نطاقات تردد مختلفة، فقد تسمح للباحثين بتمييز حجم الحيوان وربما الأنواع. “إنه مثل التلفزيون الملون مقارنة الأسود والأبيض،” كما تقول لافيري. وفي هذه الأثناء، يمكن لكاميرات الزلاجة Deep-See أن تصوِّر مخلوقات صغيرة يصل حجمها إلى خمسين ميكرونا، سبع مرات في الثانية. وتقيس الأجهزة الأخرى المتغيرات الضوئية والبيئية. مجموع ذلك عبارة عن تدفق 2 تيرابايت من البيانات عن طريق كابل من الآلة إلى السفينة كل ساعة.
وخلال تجربة الزلاجة Deep-See الأخيرة، قارن الباحثون الحيوانات التي التُقِطت بواسطة المستشعرات الصوتية والكاميرات بتلك التي تُصطاد في الشباك. ويقول مايكل جيك Michael Jech، عالم البيولوجيا البحرية من الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي National Oceanic and Atmospheric Administration (اختصارا: الإدارة نوا) في وودز هول، عن أجهزة الاستشعار الصوتية بأنها صورت: “سمكة كبيرة على بعد بضعة أمتار فقط.” إلا أن الأضواء الكبيرة التي استخدمتها الكاميرات يبدو أنها تخيف الكائنات. ويقول جيك إنّ العلماء منخرطون الآن في عصف ذهني لإيجاد حلول قد تشمل إبطاء عملية السحب وتجربة ألوان فاتحة مختلفة.
وقد جَدْوَلَ علماء معهد وودزهول بالفعل رحلتين إضافيتين للمبادرة OTZ ويتوقعون المزيد من الرحلات الأخرى عبر العالم بحلول الوقت الذي ينتهي فيه المشروع في عام 2024. وكحل نهائي، يأملون بإنشاء مراصد مراقبة مربوطة ودائمة في المياه الوسطى. ويقول بنفيلد: “من يدري ماذا سيكون لدينا خلال عشرين عاما.” ويُضيف قائلا: “قد ننظر إلى الزلاجة Deep-See كرائد بدائي.”
ويأتي التمويل للمشروع من مصدر غير معتاد: المشروع الجريء The Audacious Project، هو عبارة عن مبادرة جديدة من المنظمة TED، منظمة غير ربحية تنشر الأفكار ومقرها في مدينة نيويورك. وتجمع المبادرة Audacious الأموال من العديد من المانحين من القطاع الخاص وتدرس المقترحات نيابة عنهم، مما يقلل من الأعمال الورقية للمانحين. وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، جمعت التمويل لسبعة مشاريع بما في ذلك للمبادرة OTZ وللقمر الاصطناعي لاستشعار الميثان ولبرامج الرعاية الصحية ومكافحة الجوع.
وينقب علماء المبادرة OTZ الآن في أكثر من ثلاثين غيغابايت من البيانات التي جمعوها؛ ولهدف واحد: لمعرفة ما إذا كانت البيانات تؤكد ذلك الانطباع الأول عن وفرة الحياة في المياه الوسطى. وهم يتطلعون أيضا إلى المستقبل. وتقول لافيري: “أكثر شيء أريده الآن هو أن أدفع الزلاجة Deep-See إلى المحيط مرة أخرى قريبا.”