بقلم: ديفيد روبسون
ترجمة: ألطاف الزواوي
أدلة مثيرة تُشير إلى أنّ الابتكارات البشرية الأولية متضمنة، العجلة والحياكة، هي فعليا ناتجة من لعب الأطفال.
قلةٌ من قصص أصول الأشياء محيرةٌ كقصة اختراع العجلة. وقد اشتهر توماس إديسون بادعائه أنّ العبقرية تنطوي على 1% من الإلهام و99% من المجهود؛ بالنسبة إلى أجدادنا فإنّ نسبة الـ99% هي التي شكّلت المشكلة. حتى بعد إدراكهم أنّ باستطاعتهم تحريك الأغراض عبر الدحرجة، إلا أنّ الأمر تطلب صقلاً لمهاراتهم الهندسية بما يكفي لبناء عجلة تعمل فعلاً.
يقول فيلكس ريدي Felix Reiede، عالم الآثار، من جامعة آرهوس Arhus University في الدنمارك: “إنّ بناء عجلة كاملة يتطلب العديد من الموارد الفعلية والكثير من الوقت والمهارة.” لكن كيف استطاع أي مخترع ما قبل التاريخ أن يضع كل طاقاته في التجارب فيما كانت هناك أفواهٌ تحتاج إلى الإطعام؟
“إن أصول بعض أهم الاكتشافات الإنسانية، التي من ضمنها العجلة والحياكة والأسلحة القاذفة، ترجع إلى ألعاب الأطفال.”
وقد توصل ريدي إلى حل مدهش مستوحىً من ابنه الصغير، إذ يعتقد أن المهارات المطلوبة لاختراعات تكنولوجية كانت تُصقل عن طريق اللعب. وبينما كان البالغون يعملون بجد من أجل تأمين بقاء المجموعة، كان الصغار بطبيعة الحال يختبرون الأغراض التي حولهم. فإذا كان ريدي على حق، فإنّ أصول بعض أهم الاكتشافات الإنسانية، التي من ضمنها العجلة والحياكة والأسلحة القاذفة، ترجع إلى ألعاب الأطفال.
وتستند فكرة أنّ الألعاب قد شكّلت الإنسانية إلى الوعي المتزايد لمدى أهمية اللعب في تطوِّر عقولنا. وأظهرت تحاليل بقايا الأسنان من الهومينين القدماء أن نوعنا، هومو سابينس Homo Sapiens، يتمتع على غير العادة بطفولة طويلة. وتعطي الطفولة الممتدة وقتاً أكبر للعب التخيلي، الذي أُظهِر بدوره أنه صَقَل العديد من المهارات المعرفية Cognitive Skills المهمة، بما في ذلك التفكير المغاير للواقع Counterfactual: القدرة على السؤال “ماذا لو؟،” والقابلية على تصور مختلف السيناريوهات. ووفقاً لإبريل نويل April Nowell من جامعة فيكتوريا University of Victoria في كندا، فإنّ هذا قد يفسر كوننا النوع الوحيد الذي يمتلك مثل هذه الثقافة الرمزية والفنية الغنية.
لكن ما يثير الدهشة، هو عدم فحصُ أي شخص الألعابَ في السجل الأركيولوجي كأدوات كان من الممكن أن يكون لها تأثير في النمو المعرفي لأسلافنا، إلا أنّ كومة البلاستيك المتنامية حول أبنائه صارت مصدر إلهام لريدي، إذ قال: “حالما يصبح لديك أطفال، سيمتلئ منزلك بالألعاب،” ولا يقتصر ذلك على الغرب: فتقريبا في كل مجتمع حديث يلعبُ الأطفال بنسخ مصغرة من أدوات الكبار.
وأظهرت بعض الدراسات النفسية أن لخصائص الألعاب تأثيرا مباشرا في التطور المعرفي لدى الأطفال. وفي إحدى التجارب أظهر الأطفال الذين لعبوا بألعاب لا حصر لطرق لعبها – كالمكعبات التركيبية التي يمكن استخدامها بطرق مختلفة بدلا من اللعب بتلك التي تشكل هيكلاً معيناً – ميلاً إلى كونهم أفضل في حل ما يعرف بـ “المسائل “المتشعبة” Divergent problems. وتتطلب منا هذه المسائل استحداث العديد من الحلول مثل إيجاد استخدامات جديدة لأداة مألوفة. وتساعد الألعاب أيضا الطفل على فهم الخصائص الميكانيكية، كحركة الكرة المتدحرجة وممارسة الأدوار الاجتماعية كتربية الدمية. ويقول ريدي: “إنّ الألعاب تفسح المجال للأنشطة المعرفية والتفكير عند الأطفال وتحدّده أيضا.”
وفقاً لفرضيته، سمحت ألعاب حقبة ما قبل التاريخ للأطفال باكتشاف استخدامات وتكيفات جديدة لأغراض مألوفة أثناء لعبهم. وربما زودهم ذلك باستيعاب تكنولوجي أكبر ورؤية أكثر مرونة تشكل أساساً لإبداعات أعظم. ويقول ريدي: “إنّ ذلك التأسيس المعرفي هو الذي يمنح الأفضلية للابتكارات التي تعمل حقاً.” إذا كان ريدي مُحقًّا؛ فمن المتوقع أن نرى آثاراً لهذه العملية في السجل الأركيولوجي، ووجود ألعاب معينة تستبق بطريقة ما التغييرات الثقافية الكبيرة المتعلقة بالتكنولوجيا.
مستوحىً من اللعب
لا تزال هذه الفكرة ناشئة، لكن ريدي و نويل و زملاءهما نشروا مؤخراً بحثاً يلخص بعض الدراسات المثيرة للاهتمام؛ على سبيل المثال، وجدوا عبر فحص السجلات الأركيولوجية للمجتمعات التي عاشت في غرينلاندا قبل 4500 سنة، أن المستعمرات الأولية افتقرت إلى الألعاب وأظهرت القليل من الابتكارات في ثقافتهم المادية، في حين أن شعب ثولي Thule الذي هاجر إلى غرينلاندا قبل نحو 800 عام كان لديه العديد من النماذج المصغرة التي يبدو أنها صممت خصيصاً للعب الأطفال، بما في ذلك الزوارق والزلاجات والأسلحة والدمى. يبدو أن ظهور هذه الألعاب تزامن مع ثورة التكنولوجيا الحديثة للبالغين كالتصاميم المطوَّرة للرماح، والقوارب المتقدمة، والملابس المنمقة. ولم يكن التسلسل الزمني واضحا بما فيه الكفاية لتحديد أيهما ظهر أولاً: الألعاب أم التكنولوجيا المتقدمة، لكن ريدي يعتقد أن الاثنين نضجا معا، وأن الثقافة الغنية مادياً ألهمت ألعاباً جديدة أسهمت بدورها في إعداد العقول الشابة للمزيد من الابتكار.
ويشير الفريق أيضا إلى مواقع في الرأس الغربي Western Cape، في جنوب إفريقيا، يرجع تاريخها إلى ما بين 60,000 – 80,000 سنة. وقد اقترحت تحاليل لأجزاء من الصخور أن صُنَّاعًا مبتدئين – في أغلب الظن الأطفال – كانوا يحاكون تشكيل الكبار للحجارة عبر إنتاج نسخ بدائية عديمة الفائدة لأدوات حقيقية. ومرة أخرى، يبدو أن هذا “اللعب- الاستنساخي” صادف ثورة في التكنولوجيا التي كان من ضمنها رؤوس السهام الأولية؛ ما يقترح بأنّ ألعاب الأطفال أدت إلى ابتكارات ثقافية أعظم.
وفي الوقت نفسه، ربما يكون مِغْزل النسيج الضروري لإنتاج الأنسجة قد استوحي من “الأقراص الدائرية”، وهي الأقراص المترابطة المنحوتة بصور الحيوانات. إذ يعتقد الأركيولوجيون أن تلك الأقراص المكتشفة في أوروبا بأواخر العصر الحجري كانت تدور حول المغزل بطريقة تسمح بتعاقب الصور على كلا الجانبين، بما يشبه شريطا بدائياً من الصور المتحركة Flick Book، يقول ريدي: “هناك تداخل معرفي بين فكرة دوران أقراص الغزل وفكرة أن بإمكانك استخدام الدوران لهدف – كصنع الأنسجة.”
لكن اختراع العجلة هو الذي يقدم أكبر دليل داعم لفكرة ريدي. إن أقدم دليل للمركبات ذات العجلات يقترح أن التكنولوجيا انبثقت قبل 5,500 سنة عبر أوراسيا الغربية في القوقاز الشمالي وبلاد الرافدين وأوروبا الوسطى والشمالية؛ لكن قبل نحو قرنين، نرى نماذج مصغرة لحيوانات مع ثقوب محفورة في أقدامها لمحور عجلات وأقراص خزفية عملت كعجلات. والأجزاء العلوية لهذه الحيوانات مجوفة؛ ما أدى إلى اقتراح مفاده أنها كانت تستخدم كآنية شرب مزخرفة، وربما كانت تُستخدم أثناء تأدية الطقوس. لكن نظراً لحجمها وحقيقة أن الحيوانات المصغرة تستخدم كألعاب في العديد من الثقافات الحديثة؛ يؤمن ريدي بأنها كانت ألعاباً فعلاً، ويقول: “باستطاعتك بكل سهولة أن تصفها باللطيفة.”
فإذا كان الأمر كذلك، فإنه مثل أي طفل يمتلك لعبة قطار حاليا، سيتمكن الأطفال الذين يلعبون بهذه الألعاب من فهم ميكانيكية الحركة الدورانية Rotary Motion. ومن المحتمل أنهم استخدموا ألعابهم لحمل مختلف الأغراض ومارسوا طرقاً مختلفة لدفعها – من الأمام أو من الخلف، أو عبر تركهم لها لتتدحرج على منحدر، حتى إنهم ربما أجروا تجارب على عجلات مختلفة الأحجام، أو مصنوعة من مواد متباينة. وخلال نشوء الأطفال، فإن تلك المهارات نفسها تساعدهم على القفزة المعرفية الضرورية لتخيل المركبة، في حين كان المجتمع الذي افتقر إلى تلك الألعاب سيعاني ليتصور تصميما عمليًّا.
” المجتمع الذي افتقر إلى الألعاب ذات العجلات كان سيعاني ليتصور مركبة قابلة للعمل”
ربما استخدم أوائل المخترعين الألعابَ لإنتاج نماذج تجريبية أولية Prototypes.. ويقول ريدي: “بإمكانك بكل سهولة عمل 100 من تلك المجسمات المصغرة، وتكون جميعها مختلفة وتعبث بها – فعليا – ومن ثم ترى أي نوعٍ من النماذج يعمل بشكل أفضل.”
توافق الأركيولوجية ميشيل لانغلي Michelle Langley من جامعة غريفيث Griffith University في جنوب شرق كوينزلاند بأستراليا، على أن الفكرة تستحق مزيداً من الدراسة، وتقول: “إنك لا تصحو من النوم يوما ما كشخص بالغ، قادر على فعل كل تلك الأمور، إنك بحاجة إلى التدرب و التآلف مع المواد الخام وكيفية عملها، وفي هذا تكمن تلك العملية التعليمية الضخمة وعليك البدء منذ الصغر.”
لانغلي، مثل ريدي، استلهمت الفكرة من سلوكيات طفلها، حيث نشرت مؤخراً مقالة كتبت فيها أن العديد من القطع الأثرية المختلفة التي تشمل الأقراص والتماثيل الطينية، والتي غالباً ما ينظر لها كأدوات طقسية، يجب إعادة تفسيرها كألعاب. وعلى سبيل المثال، ربما كانت مجسمات الحيوانات مهمة لتعليم الأطفال الصيد: “إن الأمر يكون أسهل عندما تمتلك نماذج مصغرة.”
تُصمم لانغلي حالياً دراسة ستشمل إعطاء الأطفال الصغار نُسخا طبق الأصل لأغراض حقبة ما قبل التاريخ لتتمكن من تحديد أنماط التلف الناجمة عن اللعب، ما إذا كانت القطع ستغدو مصقولة ولامعة، أو متصدعة ومكسورة، سيسمح ذلك حينها للأركيولوجيين بمعرفة أي من تلك القطع الأثرية كانت ألعاباً حقاً، وربما ستوفر أدلة أخرى تدعم فرضية ريدي.
ويخطط ريدي ولانغلي ونويل لتنظيم مؤتمر في أستراليا يجمع علماء من
مختلف التخصصات لاستكشاف الكيفية التي قاد بها الأطفال – الذين تغاضى عنهم الأركيولوجيون لزمن طويل – التغييرَ الثقافي. ريدي متحمس لما سيكتشفونه، إذ يقول: “يجب علينا أن ننظر إلى الأشياء التي لدينا بمنظور جديد ومن زاوية مختلفة؛ وذلك لأن ثقافة الأطفال المادية مهمة فعلاً لفهم مسارات الابتكار والإبداع على المدى الطويل.”
وإذا كانوا على حق، فإن أعظم إنجازاتنا قد تكون بالفعل ألعابَ أطفال.
نوادي القتال
عرفت الرياضات الجماعية منذ قديم الأزل بإظهارها للغرائز القبلية، لكن هل ظهرت لتدريبنا على الحروب؟
هذه هي فرضية ميشيل سكاليس سوغيياما Michelle Scalise Sugiyama من جامعة أوريغون University of Oregon.
فقد بحثت في السجلات الاثنوغرافية لمعلومات عن الاستراتيجيات الجسدية المستخدمة من قبل المجتمعات التقليدية أثناء معاركهم القبلية، على سبيل المثال، عند مهاجمتهم لمخيم آخر. وتضمنت لائحتها الأخيرة المكونة من ثمانية محاور كالركل والهجوم وصد الضربات الموجهة ضد الجسد، وقذف الأشياء وتجنبها،
والتنسيق الجماعي. وتقول سكاليس سوغيياما:” يجب عليهم تتبع التصرفات والاستدلال على نية العديد من الأفراد.” وبعد ذلك قارنت هذه اللائحة بالحسابات الأثنوغرافية لمباريات جماعية يشبه العديد منها الرياضات الغربية كالرغبي.
ومن المؤكد أن 36% من المجتمعات شاركت في منافسات تضمنت على الأقل نصف الاستراتيجيات المهمة للمعارك. وتعتقد سكاليس سوغيياما أنه على الأرجح قد قُلّل من شأنها من قبل الأنثروبولوجيين لأنهم أحيانا يعتبرون هذه الأنشطة أنشطة تافهة. وتقول: “إذا كنت محظوظاً، ستجد بضع صفحات من المعلومات.” لكن إذا مثلت تلك الرياضات الجماعية وظيفة تطورية مهمة فيجب علينا إذًا حملها على محمل أكثر جدية.
ديفيد روبسون يؤمن بأن هذه فكرة يجب علينا أخذها بعين الاعتبار.