بقلم: إيفان يي
ترجمة: مايا سليمان
أعترف بأنني أعاني الحسدَ المكتبي. لربما من المستحسن ألا أبحث على Google عن “أفضل مساحة عمل في العالم” أو أتصفح صورها في المجلات. وكل ما يظهر أمامي مساحات داخلية ذات جدران ضخمة تغطيها النباتات وتغمرها أشعة الشمس وغرف ضخمة ممتلئة بأثاث مصقول خشبي لا يعكرها أي شريط كهربائي متدلٍ وكراسيَّ متأرجحة ومقاعد تغرق داخلها وحتى مزلاقات ضخمة بدلاً من السلالم. وعوضا عن هذا كله، أجلس الآن في مكتب تابع لنيو ساينتيست New Scientist حيث يحتل ثلاثةٌ منّا غرفة أصغر في مساحة عمل مشتركة أكثر اتساعاً. ويفصلنا جدار رقيق عن المكتب المجاور، حيث يتخطى مستوى الضجيج في معظم الأوقات حدود المقبول (انظر: عن النجاح في العمل: كيف تحافظ على التركيز وتتجنب تشتت الانتباه). وخارج بابنا توجد مساحة مفتوحة كبيرة ممتلئة بعشرات الأشخاص الذين لا يكادون يمتلكون أي مساحة للتمطّي. يا عمال العالم، اتحدوا!
يمضي كثير منا معظم وقته اليقظ في مكان العمل بدلا من المنزل، لذا من المتوقع أننا نريد مكانَ عملٍ مريحاً وعملياً ومسليًّا. لكن المشكلة تكمن في أننا لا نمتلك تعريفاً عاما لماهية مكان العمل المريح والعملي والمرح. وجلُّ ما نعلمه هو أن الجزء الأكبر من الحِكمة المتناقلة حول تصميم مكان العمل هو في أفضل الأحوال حكمة مشكوك في صحتها.
لقد سيطرت نزعتان على مجال تصميم مكان العمل في العقود القليلة الماضية: مكاتب الطوابق المفتوحة، حيث يجلس الجميع في المساحة نفسها، والمناضد المشتركة حيث لا يملك أحد مكانَ عملٍ خاصاً به.
الهدف المُعلن لهاتين النزعتين تعزيز الإبداع والتعاون عبر جعل الجميع على مرأى من بعضهم بعضا ضمن طابق مفتوح مثلا. وعلى الرغم من بروز بعض الأدلة على أن حركة الموظفين تزداد في المساحات المفتوحة، مستفيدين بعد ذلك من زيادة حركتهم الجسدية، فيبدو أن هذا التنقل لا يحصل بهدف التواصل مع بعضهم بعضا. وافتقاد الطوابق المفتوحة للخصوصية يدفعنا إلى الانعزال في قوقعاتنا الخاصة، إذ نضع السماعات لعزل الضوضاء ونرسل بريداً إلكترونياً أو رسائل فورية لأشخاص يجلسون على بعد بضعة مقاعد عنا، وفقا لدراسة أجريت في عام 2018.
الطوابق المفتوحة ليست سيئة بالضرورة، يقول كايسي ليندبيرغ Casey Lindberg الذي يدرس تصاميم أماكن العمل في جامعة أريزونا University of Arizona – بل ليست بالضرورة ملائمة للجميع في جميع الأوقات. “نحن بصدد تعرف عوامل الاختلاف بين الأفراد بما فيها العمر وطابع الشخصية ونوع العمل والعديد من العوامل الأخرى غيرها،” ويضيف قائلا: “هذا يعني أن تصميم مكان العمل يجب أن يكون مرناً.”
ومن هذه الحاجة تنطلق فكرة المناضد المشتركة. مبدئيا، تمكن هذه الأخيرةُ الأفرادَ من الانتقال إلى المساحات الأكثر ملاءمة لمهمتهم ومزاجهم: كغرفة خاصة إذا كانوا بحاجة إلى التركيز أو مساحة مفتوحة إذا كانوا يودون التعاون مع غيرهم أو الإستلهام.
لكن في عام 2004 أجرى ثيو فان دير فوردت Theo van der Voordt من جامعة ديلفت التكنولوجية Delft University of Technology دراسة شارك فيها عدد من الشركات التي تحولت من المكاتب ذات المناضد المثبتة إلى المناضد المشتركة. ولم يجد أي دليل على ارتفاع الإنتاجية، لكنه حدد أمراً سلبيًّا واحداً: إقطاعية حيوانية Animal territorialism. “يحاول المستخدمون غالبا الاستحواذ على مساحة مألوفة بالقدوم مبكرا إلى مكان العمل أو ترك أغراض شخصية فيها أثناء غيابهم،” كما كتب فان دير فوردت. ربما يجدر بي أن أتعلم تقدير حجيرتي المشتركة الضئيلة.
في النهاية، ثمة قليل من الأشخاص من يمتلكون القدرة على تحديد شكل مكان عملهم. لكن أرباب العمل قد يستفيدون من الاستماع لهذا: وفقا لعالم البناء من لندن ويليام بورداس William Bordass، فإن ازدياد الانتاجية الفردية بنسبة قد تصل إلى 15% “قد يُعزى إلى تصميم وإدارة واستخدام البيئة الداخلية.” لكن لعله لم يكن لديه جيران صاخبون كجيراننا.
العبرة: لا تجلس حيثما يطلب إليك.
©New Scientist