مسبار ناسا يرسم خريطة كونية بالأشعة تحت الحمراء
بعثة للعثور على دلائل للانفجار الكبير ورصد الوميض الكلي للمجرات
بقلم: آدم مان
ترجمة: مي منصور بورسلي
تعتزم بعثةٌ لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا NASA الكشفَ عن بعض أقدم أسرار الكون مستخلصة إيّاها من شبكة كونية من المجرات. وبدلاً من أن تنتشر بالتساوي في الفضاء، فإن المجرات تتجمع في خيوط، تفصل بينها فراغات هائلة. ومن خلال إنشاء خريطة ثلاثية الأبعاد لمصادر الضوء بالأشعة تحت الحمراء عبر بلايين السنين الضوئية، أعلن تلسكوب الفضاء الجديد التابع لناسا في الأسبوع الماضي أنه سيحدد 300 مليون مجرة لرسم خريطة تطور هذه الشبكة عبر المكان والزمن. ويأمل الباحثون بالعثور ضمن تفاصيلها على أدلة حول كيفية نشوء الكون.
ويقول جيمس بوك James Bock، عالِم الفلك من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا California Institute of Technology في باسادينا والباحث الرئيسي في بعثة تلسكوب قياس طيف تاريخ الكون واستكشاف الجليد وعصر إعادة التأين Spectro-Photometer for the History of the Universe, Epoch of Reionization, and Ices Explorer (اختصاراً: البعثة سفيريكس SPHEREx)، والتلسكوب الفضائي الذي من المقرر إطلاقه في عام 2023، ويبلغ طوله 20 سنتيمتراً، والذي اختير ليكون برنامج الاستكشاف ذا الفئة المتوسطة التالي للوكالة البالغة تكلفته 205 مليون دولار: «لم يسبق إجراء مثل هذا المسح الكامل للسماء بالأشعة تحت الحمراء.»
«لم يسبق إجراء مثل هذا المسح الكامل للسماء بالأشعة تحت الحمراء.»
وستكون البعثة SPHEREx أول تلسكوب فضاء يعمل بالأشعة تحت الحمراء قادر على توفير طيف منفصل لكل بكسل Pixel يلتقطه، وذلك باستخدام جهاز تقسيم الحزمة الضوئية لفصل الطيف الضوئي إلى الأطوال الموجية التي يتكون منها. وتكشف الأطياف عن كل انزياح نحو الأحمر Redshift للمجرة – مدى تمدد طولها الموجي عبر توسع الكون. ويمكن تحويل الانزياح نحو الأحمر إلى مسافة؛ مما يتيح إنشاء خريطة ثلاثية الأبعاد.
تعكس ملامحُ الخريطة الأحداثَ بعد لحظات من الانفجار الكبير Big Bang. فخلال هذا العصر البدائي، يعتقد الفيزيائيون أن الكون مرّ بمرحلة تضخم Inflation: طفرة نمو هائلة حدث فيها تدفق كبير في شق من الثانية. ومن شأن الجسيم أو الجسيمات التي يُطلق عليها اسم مُسببات التضخم أن تولد حقل القوة الذي يدفع الانتفاخ. وقد تطورت التقلبات الميكانيكية الكميّة عند نهاية التضخم إلى اختلافات في الكثافة، وحاليا نرى النوى التي حاكت المجرات في هذه البُنى الشبكية.
ومن خلال رسم خرائط لهذه البُنى عبر الحقب اللاحقة، يأمل باحثو البعثة SPHEREx باستنباط أدلة على توالي أحداث التضخم. وتتنبأ أبسط نمذجات Models التضخم بوجوب موازنة المناطق الكثيفة من المجرات مع الفراغات. وفي هذه النمذجة يقدم تضخم وحيد شرارة بدء الانفجار.
ولكن اكتشاف انحراف Skewed الكتل والفراغات نحو أي من الاتجاهين سيشير إلى أن التضخم أكثر تعقيدًا. وأن يكون اثنان أو أكثر من جسيمات التضخم Inflaton particles قد دفعا به – يؤدي أحدها دورًا أكبر في التوسع والآخر يسيطر على الكتل، كما يقول أوليفييه دوريه Olivier Doré عضو فريق البعثة SPHEREx عالِم الكوزمولوجيا في مختبر الدفع النفاث Jet Propulsion Laboratory التابع لناسا في باسادينا. وقد تجد البعثة أيضاً أنّ المجرات تتكتل بطرق قصوى وتتناقض مع نمذجات التضخم وتدعم نظريات مثل الارتداد الكبير Big Bounce، الذي يفترض كونًا دوريًا يتوسع وينهار باستمرار، كما تقول جوانا دانكلي Joanna Dunkley عالِمة الفيزياء الفلكية من جامعة برينستون Princeton University.
ولن ترسم بعثة تلسكوب SPHEREx الأجرام الساطعة فقط؛ بل سترصد الضوء الخافت الذي يتخلل المسافات بينهما. وهذه الخلفية الكونية بالأشعة تحت الحمراء Cosmic Infrared Background (اختصارا: الخلفية CIB) – أكثر خفوتًا من «الوميض اللاحق» Afterglow الشهير، أي إشعاع الخلفية الكونية الميكروي Cosmic microwave background- هي مجموع الضوء الذي تولده جميع المجرات في الكون، والتي امتصها الغبار وأعاد إشعاعها. وقد حاولت البعثات السابقة قياس الخلفية CIB، ولكن عند “موجات” قليلة فقط من الأشعة تحت الحمراء، وفي المقابل، سترسم بعثة التلسكوب SPHEREx خريطة الخلفية CIB في 96 نطاقًا من الأشعة تحت الحمراء. ويقول دوريه إن كل حزمة تمثل الضوء الكلي من حقبة مختلفة في التاريخ الكوني. وفي عام 2013 رسم صاروخ السبر Sounding rocket خريطة للخلفية CIB من أحدث الحقب، ومما يثير الدهشة، اكتشاف عدم مطابقة التقلبات في التوهج مع المصادر المعروفة، ولا يمكن للضوء المنبعث من المجرات المبكرة غير المرئية تفسير ذلك. وأشارت النتائج إلى أنّ نصف جميع ضوء الأشعة تحت الحمراء أتت من النجوم المقذوفة خارج مجراتها الأصلية أثناء تصطداماتها المذهلة ببعض. وستفحص البعثة SPHEREx هذا التوازن في إنتاج الضوء، وهذه الأحداث الاندماجية العنيفة، من زمن بعيد.
ومن خلال النظر إلى أطول موجات الأشعة تحت الحمراء في خريطة الخلفية CIB، يمكن للباحثين رؤية الوميض اللاحق لمجرات الكون الأولى، بعد نحو بليون سنة من الانفجار الكبير. ويأمل باحثو البعثة SPHEREx باستنتاج تكوين المجرات الاعتيادية المبكرة وكتلها. وإحدى الأفكار التي يأمل الباحثون باختبارها هي ما إذا كانت المجرات القزمة سائدة، كما يُشتبَه.
إن التوهج الساطع للأشعة تحت الحمراء في درب التبانة هو مصدر إزعاج في هذه الدراسات، وهي الطبقة الأمامية Foreground” ويجب عليهم طرحها عند التحليل. لكن ما يُعتبر ضجيجًا لبعض الباحثين في البعثة SPHEREx، يُعدّ إشارة إلى الآخرين. ويمر ضوء الأشعة تحت الحمراء في درب التبانة من خلال سُحُب كبيرة من الغاز والغبار، في طريقه إلى المركبة الفضائية، حيث يُمتصّ بعضه من قبل مواد مثل الجليد المائي، وثاني أكسيد الكربون، أو الأمونيا. ومن خلال قياس خطوط الامتصاص Absorption Lines هذه، يستطيع علماء الفلك البدء بفهم التفاعلات الكيميائية في هذه الغيوم والكيفية التي تتكتل بها لتشكل النجوم وأنظمة الكواكب بتراكيب مختلفة.
ويتساءل دوغلاس فنكبينر Douglas Finkbeiner، عالِم الفلك من جامعة هارفارد Harvard University: «لماذا آل الأمر إلى هذه المجموعة لتصير كواكب صخرية، في حين أن الأخرى عمالقة غازية؟» ثم يُضيف قائلًا: «الكيمياء مهمة جدًا.»
وبمجرد إطلاق القمر الاصطناعي ومعايرته، يخطط فريق البعثة SPHEREx لنشر 1.6 تيرابايت من البيانات شهريًّا. ويقول فنكبينر إنّ علماء الفلك سيجدون على الأرجح استخدامات لبيانات المسح التي لم يحلموا بها حتى الآن. ويضيف: «الأشياء الممتعة حقًّا هي تلك التي لا تتوقعها.»
Sciencemag.org