شِباك بلورية تلتقط الماء وتنتج الوقود من الهواء
بعد توصلهم إلى جعلها أكثر استقراراً، يعتقد الكيميائيون أن الأطر المعدنية العضوية باتت جاهزة لطرحها في السوق.
بقلم: روبرت سيرفيس، سان دييغو، كاليفورنيا
ترجمة: صفاء كنج
يتذكر عمر ياغي Omar Yaghi أنه خلال نشأته في الأردن، خارج ضواحي العاصمة عمَّان، لم يكن الحي الذي يقيم فيه يحصل على الماء إلا لنحو خمس ساعات مرة كل أسبوعين. فإذا لم يستيقظ عمر عند الفجر لفتح صنابير الماء وتخزين المياه، كان على أسرته وبقرتهم الوحيدة وبستانهم تحمّل قساوة العيش في ضوء شح المياه. وخلال اجتماع عُقد في أواخر أغسطس 2019 في منطقة أخرى تعاني شح المياه العذبة، قال ياغي، الكيميائي بجامعة كاليفورنيا University of California في بيركلي، إنه وزملاءه أعدوا جهازاً يعمل بالطاقة الشمسية يمكنه توفير المياه للملايين في المناطق الشحيحة المياه. ويتألف الجهاز في صميمه من مادة بلورية مسامية Porous crystalline تُعرف بالإطار المعدني العضوي Metalorganic framework (اختصاراً: الإطار MOF)؛ يعمل كإسفنجة تمتص بخار الماء من الهواء، حتى لو في الصحراء، ثم تخرجه كماء سائل.
وهذا الإنجاز يصفه خورخي أندريس رودريغيز نافارو Jorge Andrés Rodríguez Navarro الكيميائي المختص بالإطار MOF في جامعة غرناطة University of Granada بإسبانيا بأنه “عمل رائع يعالج مشكلة حقيقية”. وهو ليس سوى سوى مثال واحد على كيفية بلوغ الإطار MOF سن النضج، إذا جاز التعبير. نجح ياغي وزملاؤه في تركيب أول إطار MOF في عام 1995، ومنذ ذلك الحين أنشأ الكيميائيون عشرات الآلاف من هذه الهياكل التي يتكون كل منها من ذرات معدنية تعمل مثل محاور في ألعاب الأطفال التجميعية Tinkertoy set؛ هذه المحاور متصلة بشبكة مسامية بواسطة روابط عضوية مصممة لتثبَّت عليها وإحداث فتحات لإيواء الجزيئات الوافدة. وعن طريق تجريب عدة خلطات من المعادن والروابط ومطابقتها، وجد الباحثون أن بإمكانهم تكييف المسام لالتقاط جزيئات الغاز، مثل بخار الماء وثاني أكسيد الكربون CO2. تقول أماندا موريس Amanda Morris، الباحثة المختصة بالإطار المعدني العضوي في معهد فرجينيا للعلوم التطبيقية Virginia Polytechnic Institute وجامعة بلاكسبورغ الحكومية State University in Blacksburg: “يمكننا أن نلهوَ بها من خلال تعديلها ومعرفة مكان كل ذرة بالضبط”. ونظراً لارتفاع تكلفة العديد من الإطارات MOF في بداياتها الأولى وسرعة تدهورها، سرعان ما خبت حماسة العلماء لها.
ولكن في السنوات الأخيرة، توصل ياغي وعدد من العلماء المهتمين بتراكيب الإطارات MOF إلى وضع أسس مُنظِّمة لمجموعة واسعة من التصاميم لتقويتها وتثبيتها. فباستعمال معادن مشحونة جدا Highly charged، على سبيل المثال، يمكن الحصول على روابط أقوى قادرة على تحمل الحرارة المرتفعة. وقد فتح ذلك الباب أمام أداء الإطارات MOF وظائف جديدة، مثل استخدامها بمثابة أطر تحفيز تعمل عادة بشكل أسرع في درجات الحرارة العالية. وعُزز ثبات الإطارات MOF بصورة أكبر عندما تعلم الباحثون مواءمة التصميم الهندسي لحماية الروابط الأقل ثباتاً في الإطار المعدني العضوي من هجمات الجزيئات المُحاصَرة.
ونتيجة لذلك بدأت التطبيقات التجارية تجد طريقها إلى السوق. وتوقع أحد تقارير السوق الأخيرة أن ترتفع مبيعات تطبيقات الإطارات MOF، بما في ذلك تخزين الغازات وكشفها، إلى 410 ملايين دولار سنويًّا على مدار السنوات الخمس المقبلة، مقارنة بـ 70 مليون دولار هذا العام. ويقول عمر فرحة Omar Farha، الكيميائي المختص في الإطارات MOF في جامعة نورث وسترن Northwestern University بإيفانستون في إلينوي: “قبل عشر سنوات، بدت الإطارات MOF واعدة بالكثير من التطبيقات، واليوم صار هذا الوعد حقيقة قائمة.”
وأحد هذه التطبيقات هو ذلك الذي أنجزه ياغي الذي يأمل بأن يساعد على توفير مياه الشرب لنحو ثلث سكان العالم الذين يعيشون في مناطق تعاني نقصَ المياه. في عام 2014 طور ياغي وزملاؤه في البدء إطار MOF قائمًا على الزركونيوم Zirconium-based MOF يمكنه التقاط بخار الماء وإخراجه على شكل مياه سائلة. ولكن النموذج كان باهظاً نظراً لأن سعر الكيلوغرام الواحد من الزركونيوم يبلغ 160 دولاراً، ولذلك فهو مكلف لدى استخدامه بكمية كبيرة. لذلك، توصل فريقه في العام الماضي إلى بديل أطلقوا عليه الإطار MOF 303 يعتمد على الألومنيوم الذي لا يكلف سوى ثلاثة دولارات للكيلوغرام الواحد. وضع ياغي وفريقه الإطار المعدني الذي صمموه في حوض بلاستيكي صغير شفاف في صحراء أريزونا. وأبقوا الحوض مفتوحاً في الليل لتمكين الإطار MOF من امتصاص بخار الماء. بعد ذلك أغلقوا الحوض وعرّضوا الإطار لأشعة الشمس فنضح الماء السائل منه. لكنهم لم يحصدوا سوى نحو 0.2 لتر من الماء لكل كيلوغرام من الإطار MOF في اليوم.
خلال اجتماع عقد في أواخر أغسطس 2019 للجمعية الكيميائية الأمريكية American Chemical Society، وفي عدد 27 أغسطس 2019 من مجلة الجمعية المركزية للعلوم ACS Central Science ذكر ياغي أن فريقه ابتكر حوضاً جديداً لالتقاط الماء أكثر إنتاجية بكثير. ومن خلال استغلال قدرة الإطار303 MOF على ملء مسامه وتفريغها في دقائق معدودة، تمكن الفريق من جعل الجهاز الجديد يكمل عشرات الدورات يوميًّا. وبفضل لوح شمسي لتشغيل مروَحة وسخَّان من شأنهما تسريع تلك الدورات، أنتج الجهاز ما يصل إلى 1.3 لتر من المياه لكل كيلوغرام من الإطارMOF يوميًّا من هواء الصحراء. ويتوقع ياغي إدخال المزيد من التحسينات على الجهاز لزيادة الكمية إلى 8 أو 10 لترات في اليوم.
في العام الماضي أسس ياغي شركة أسماها حصاد المياهWater Harvesting ، ويخطط لطرح جهاز بحجم فرن المَيكروويف في خريف عام 2019 يمكنه توفير ما يصل إلى ثماني لترات في اليوم. وتعد الشركة بإصدار نسخة محسَّنة في العام المقبل ستنتج 22500 لترٍ في اليوم، وهو ما يكفي لتزويد قرية صغيرة باحتياجاتها من الماء. ويقول ياغي: “إننا نجعل المياه متنقلة. يشبه الامر أخذ هاتف سلكي وتحويله إلى هاتف لاسلكي.”
تبدو تطبيقات أخرى للإطار المعدني العضوي واعدة كذلك. وفي عدد 25 يناير 2019 من مجلة الجمعية الكيميائية الأمريكية للمواد النانوية التطبيقية ACS Applied Nano Materials، أفاد فرحة وزملاؤه أنهم استخدموا الإطار MOF لتنقية سموم أبخرة الأسلحة الكيميائية. وفي هذه الحالة أُعِد الإطار MOF من إطار قاعدي من عنصر اللانثانوم Lanthanum مرتبط بمركبات عضوية على شكل حلقة. وقد سبق أن أثبتت المركَّبات المُسماة بورفيرينات Porphyrins قدرتها على امتصاص الضوء واستخدام تلك الطاقة لتحويل جزيئات الأكسجين في الهواء إلى شكل تفاعلي يعرف بالأكسجين الأحادي Singlet oxygen. وفي الدراسة يمكن للأكسجين الأحادي بدوره تحطيم جزيئات آمنة الاستخدام في المختبر قريبة من غاز الخردل السام داخل المسام وخارجها. وفي الاجتماع الذي عقد هنا ذكر جوزف هَابJoseph Hupp ، زميل فرحة في جامعة نورث وسترن أنه وزملاءه طوّروا الفكرة بإعداد إطارات MOF من سلاسل من الزركونيوم، والهفنيوم Hafnium، والسيريوم Cerium يمكنها إزالة السموم من الغازات المؤثِّرة في الأعصاب مثل غاز السارين. ويقول هَاب إن تركيب طبقة رقيقة من الإطار MOF على أقنعة الغاز والبدلات الرسمية قد تساعد على حماية الجنود من التعرض للأسلحة الكيميائية.
إضافة إلى ذلك، وضع فرحة وآخرون إنزيمات مُغلَّفة داخل الأطر MOF لحماية الجزيئات الهشة من التعرض لبيئات قاسية وتمكينها من توليد ردود فعل بمستوى صناعي خارج الخلايا. وفي أحد الأمثلة أفاد فريق فرحة في العدد الصادر في 26 مارس 2019 من مجلة الكيمياء التطبيقية Angewandte Chemie الصادرة عن الجمعية الكيميائية الألمانية العريقة أن إنزيماً مُغلَّفا بالإطار MOF يُسمى فورميْت دَيْهايدروجينيْز Formate dehydrogenase يمكنه تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى حمض الفورميك Formic acid، وهو مادة كيميائية صناعية شائعة، بأكثر من ثلاثة أضعاف معدل الإنزيم غير المحاصر وفي ظروف أكثر مراعاة للبيئة من تلك التي يتكوَّن فيها حمض الفورميك عادة. وفي الاجتماع أفاد توماس رايدر Thomas Rayder، طالب الدراسات العليا في كلية بوسطن Boston College، أنه يبني على هذه الفكرة. وقال إنه غلَّف زوجاً من المحفِّزات الشبيهة بالإنزيماتEnzymelike catalysts في إطار معدني عضوي مبني من الزركونيوم للحض على سلسلة من التفاعلات التي تحول ثاني أكسيد الكربون الغازي إلى وقود سائل هو الميثانول.
ووجد رايدر أنه عندما لم توفر الإطارات MOF الحماية للمحفِّزَين؛ فإنهما لم ينتجا أي قدر من الميثانول، إذ سرعان ما أُثبطت فاعليتهما وذلك على الأرجح عن طريق تفاعل أحدهما مع الآخر. ولكن عندما وُفرت لهما الحماية داخل الإطارات MOF تمكنا من إنتاج الميثانول في درجات حرارة وضغوط أقلبكثير من تلك المستخدمة في مصانع الميثانول الحالية، الأمر الذي يوفر وسيلة أرخص وأكثر مراعاة للبيئة لصنع هذا الوقود. ما زال رايدر وآخرون بحاجة إلى إظهار إمكان تصنيع هذه الإطارات MOF وغيرها بتكلفة بسيطة على نطاق واسع. كما يجب أن يثبت كل إطار MOF أنه يجمع بين صفتي الاستقرار والكفاءة عدا كونه معمِّراً. فإذا نجحت الإطارات MOF في اجتياز تلك الاختبارات؛ فستتمكن من توفير إطار عمل لمعالجة بعض من أكثر مشكلات العالم إلحاحاً.
sciencemag.org
.
.