مفارقة الزمن: كيف تصنع أدمغتُنا البعدَ الرابعَ
نشعر جميعاً بمرور الزمن، لكن لا شيءَ في الفيزياء يوحي أنه خاصية جوهرية للكون. إذاً، من أين جاء إحساسنا بجريان الزمن؟
بقلم:: دانييل كوسينز
ترجمة: همام بيطار
منذ فترة من الزمن كُلف طلبة في جامعة تينيسي University of Tennessee بوظيفة استثنائية، إذ طُلب إلى كلٍّ منهم تخيل نفسه قزماً أثناء تحديقه بنموذج مصغر لصالة السكن الجامعي الممتلئة بالأثاث والتماثيل. وطُلب إليهم أيضاً تخيل أنفسهم مكان أشخاص قصار القامة والاسترخاء فوق عدد من الكراسي الصغيرة وتناول فناجين صغيرة من القهوة. ومن ثمّ كان عليهم الإخبار عندما يشعرون بمرور 30 دقيقة.
بالنسبة إلى الطلبة المتقلصين مضى الوقت بسرعة، كانت تقديراتهم أقل بكثير من الوقت الحقيقي. وكان الأكثر إثارة للفضول هو أنّ التسارع في إحساسهم بالوقت تناسب مع حجم الصالات المنمذجة التي طُلب إليهم تخيل أنفسهم داخلها.
عادة ما يحاجج علماء الأعصاب في هذه النتيجة الغريبة، المنشورة في مجلة العلوم Science لعام 1981، للادعاء بأنّ الزمن والمكان ملتحمان معاً داخل الدماغ كما هي حالتهما في الكون. كما أنها تُعد واحدا من بين الإثباتات المثيرة للاهتمام عن مدى مرونة تصورنا عن الزمن -وكم هو غريبٌ حقّاً.
ربما يمُثل مرور الزمن واحدةً من أكثر المميزات الجوهرية لتجربتنا، ومع ذلك لا تستطيع الفيزياءُ الحديثةُ الفصلَ فيما إذا كان الزمن إحدى الخواص الجوهرية للكون. إذاً ما هو الزمن، ولمَ يجري؟ وكيف يظهر لنا متباطئاً ومتسارعاً؟ وما علاقة الزمن الذي نشعر به، إن وجد، بذلك المُعرف وفقاً لقوانين الطبيعة؟
يأخذنا البحث عن إجابات عن تلك الأسئلة إلى تلك العوالم الحدودية والغريبة الكائنة بين علم الأعصاب Neuroscience والفيزياء -مكانٌ ضبابي وغادر يفضح حدود قدرتنا على رؤية الواقع كما هو، ويُجبرنا على مواجهة فكرة أن الزمن موجود فقط داخل عقولنا.
كان كل شيء منطقيّاً بالنسبة إلى إسحاق نيوتن Isaac Newton الذي عملت قوانينه على وقع دقات «ساعة رئيسية» Master clock موجودة خارج الكون، وهو الذي صرح قائلاً: «يُمكن إسراع وإبطاء كل الحركات، لكن جريان الزمن ليس عرضةً لأي تغيير». الزمن هو نفسه في كل مكان.
وللأسف سقطت فكرة الزمن المطلق Absolute time في أعقاب نظريات ألبرت آينشتاين Albert Einstein عن النسبية Relativity، فقد كشفت تلك النظريات وحدة الزمن والمكان داخل زمكان Space-time رباعي الأبعاد، وهو عبارة عن وسط يشوهه كلٌ من الجاذبية والحركة إلى درجة لن يتفق معها أي راصد على ما حصل ومتى حصل. فالماضي والحاضر والمستقبل وجهات نظر، وليس عموميات كونية. ونتيجة لذلك أصر آينشتاين على أن جريان الزمن مجرد «وهم مستمر بعناد»، ومازال العديد من الفيزيائيين المعاصرين يصرون على فكرة عدم وجود شيء موضوعي كـ «الآن».
يقول كارلو روفيلي Carlo Rovelli، عالم الفيزياء النظرية في جامعة إكس-مرسيليا Aix- Marseille University في فرنسا: “كأي شخصٍ آخر، أشعر بهذا التناقض بين ما تخبرني به المعادلات وبين تجربتي الخاصة”. هل يمكن التوفيق بينهما؟
أكثر الأمكنة وضوحاً للبحث هو تلك الكتلة من المادة الرمادية الموجودة بين أذنينا. لكن الزمن ليس كبقية الأشياء التي نختبرها. فبشكلٍ فريد، يتغلغل الزمن في كل شيء نشعر به. إضافة إلى ذلك، لا يوجد جهاز حسي أو مسار عصبي للزمن كما هي الحال مع الرؤية والشم واللمس والسمع والتذوق. ولا وجود لأي ظرف إكلينيكي معروف يفقد فيه الأشخاص القدرة على الشعور بالزمن؛ مما يجعل من دراسة الزمن داخل الدماغ قضيةً مرواغةً.
نعلم بوجود تشكيلة معقدة من الآليات العصبية المسؤولة عن فرض النظام الزمني. يقول عالم الأعصاب دين بونومانو Dean Buonomano من جامعة كاليفورنيا University of California في لوس أنجلوس: «من الواضح جدّاً أنه لا توجد أي ساعة مفردة على الإطلاق قادرة على الحفاظ على الفواصل الزمنية بدقة كساعة يدك». وفي الحقيقة، يبدو الدماغ كورشة عمل فيكتورية لصناعة الساعة مجهزة بكل الأدوات المعقدة، التي صُمم كلٌ منها لقياس جانب مختلف من الزمن.
وهناك الساعة الإيقاعية اليومية Circadian clock الموجودة داخل النَّواةِ فَوقَ التَّصالُبَة Suprachiasmatic nucleus التي تعتمد في عملها على اهتزازات مشابهة للبندول تحصل داخل البروتينات للحفاظ على تزامننا مع إيقاع الشمس. وهناك أيضاً مجموعات من الخلايا الدماغية التي تحكم الأزمنة الممتدة على أجزاء من الثانية وهي مكرسة لردود الأفعال الجسمية السريعة، بونومانو هو واحدٌ من بين أولئك الذين أثبتوا قدرة أي مجموعة من العصبونات (الخلايا العصبية) Neurons على تعقب أجزاء من الثانية عبر إطلاق أنماط مكررة من الإشارة العصبية؛ مما يقترح احتمال امتلاك جميع خلايا الدماغ لهذه القدرة.
النظام داخل الدماغ
لا يُمكن لأي مما ذُكر سابقاً تفسير الإحساس المألوف بمضي الزمن، أو مرورنا بمجموعة من الأحداث كما لو أنّ تياراً ما يجرفها أمامنا. ويقول إدفارد موزر Edvard Moser، من معهد كافلي لعلم أعصاب الأنظمة Kavli Institute for Systems Neuroscience في النرويج: «تعتمد تجربتنا في العالم على ترتيب ما نفسره على أنه أحداث ومسببات، وهذه الأشياء تحصل على امتداد الثواني والدقائق والساعات». ويُحدد الدماغ ما يحصل ومتى حصل أثناء مرور الزمن الحقيقي بهدف خلق ذاكرة عرضية Episodic memory من دونها لن يكون هنالك ماضٍ يُستحضر، أو معنىً لمرور الزمن. ولفهم آلية عمل ذلك، يقول موزر: «عليك فهم كيفية صناعة الدماغ للأحداث المتعاقبة».
فاز موزر وماي-بريت موزر May-Britt Moser، من المعهد نفسه، بجائزة نوبل في الطب عام 2014 عن دورهما في اكتشاف الخلايا الشبكية Grid cells التي تتعقب موقع الفئران في المكان لتساهم في خلق خريطة ملاحة داخل الدماغ. ومؤخراً حدّدا ما يعتقدان أنه الخلايا المكافئة المسؤولة عن ترتيب الأحداث وفقاً للزمن.
وبالعمل مع آلبرت تساو Albert Tsao من جامعة ستانفورد Stanford University في كاليفورنيا، سجل العلماء نشاط مجموعات من العصبونات أثناء بحث الفئران عن أجزاء من الشوكلاته داخل متاهة. في البداية، لم يكن هنالك أي نمط مميز. ولكن في نهاية المطاف، تمكن الباحثون من رؤية تغير في نشاط الخلايا تبعاً لتجربة كل فأر منفرداً. وفقط عندما وضعوا فأراً داخل ممر على شكل الرقم 8 مجبرين إياه على العودة إلى المكان نفسه للحصول على الشوكولاته، تمكنوا من رؤية نمط مكرر في نشاط تلك الخلايا.
والموزران يعتقدان أن تلك الخلايا تحدد ترتيب الأحداث. وتنسجم هذه الفكرة بشكلٍ جميل مع المشهد العصبي الموضعي. فكل من القشرة الشمّيّة الداخلية الوسطية Medial entorhinal cortex، إذ اكتشفا أنّ خلايا الزمن تلك، والقشرة الشمّيّة؛ حيث تعيش الخلايا، أرسلتا إشارات بشكلٍ مباشر إلى الحُصين Hippocampus المجاور الذي يُمثل مركز تشكل الذاكرة. ويضيفان إنه هنا بالتحديد تتحد تصورات الزمن والمكان، المشكّلة من خلايا مختصة، معاً لخلق التجربة الموحدة المتعلقة بـ: ماذا وأين ومتى، ويعلق إدفارد موزر قائلاً: «ذلك منطقيٌ تماما لأن الزمن والمكان عنصران جوهريان من مركبات الذاكرة الموضعية».
لكنّ ذلك يطرح سؤالاً مهماً: ما نوع الزمن الذي تُحدده أدمغتنا؟ أثناء لقاء مخصص لبحث موضوع المكان والزمن داخل الدماغ، أشار جيورجي بوزاكي Gyorgy Buzsaki، عالم الأعصاب في جامعة نيويورك New York University، مراراً إلى أنه ليس زمن الساعات. فالساعات في نهاية المطاف عبارة عن اختراع ثقافي والزمن الذي تقيسه ليس شيئاً تطورت العصبونات لتعقُّبه. وبشكلٍ بديهي، يبدو أن الزمن الذي نشعر به هو نيوتوني. فهو يظهر وكأنه يمضي بمعدل منتظم ويقدم لنا خلفية عن أي العصبونات التي تعقب سلسلة من الأحداث وفقاً لتلك الخلفية. وبتعابير تطورية، من الصعب علينا القول إنه زمنٌ مختلف عن ذلك النيوتوني؛ لأنه ليس من السهل علينا أيضاً إدراك المميزات التي تجلبها قدرة الحركة والجاذبية على تشويه الزمن والمكان. ونحن نعيش في حقل جاذبية متوسط القوة، كما أنّ نعيش حياتنا بمعدلات السرعة البطيئة نفسها، ولذلك لم تتعرض حواسنا لضغط التطور من أجل الشعور بالأشياء الغريبة التي يفعلها الزمن في نظريات آينشتاين عن النسبية.
غير أن هناك أسباباً تدعونا إلى الاعتقاد أننا نشعر ببعض الجوانب الآينشتاينية من الزمن، وبشكلٍ أساسي علاقته الحميمية بالمكان. ووفقاً لهذا، يعتمد الزمن بالنسبة إلينا على الحركة كما هي في نسبية آينشتاين، وهناك دليل على “أمكنة الزمن” Spatialisation of time هذه، كما يدعوها بونومانو، عند الحديث عن الزمن نفسه (انظر: هل تُشكل اللغة جريان الزمن).
وبيّنت الدراسات التصويرية للدماغ أيضاً أن تصورات المكان والزمن تُولد في المناطق نفسها، وهناك إشارات على أن بعض العصبونات قادرٌ على ترميز الاثنين معاً، فعلى سبيل المثال، يبدو أن الخلايا الشبكية تحدد الزمن الذي يمضي بالنسبة إلى الفئران التي تجري داخل دولاب.
عامل التشوه
هنالك بعض الاقتراحات التي تنص على أن شعورنا بالحركة يشوه إحساسنا بالزمن، إذ أثبتت العديد من التجارب ما يُعرف بأثر كابا Kappa effect الذي يتضمن مبالغة الأفراد في تقدير الفاصل الزمني بين حدثين بصريين مكررين مع تزايد المسافة الفيزيائية بينهما. كما أثبت الباحثون أن الأشخاص أثناء وجودهم في حالة حركة يتمدد شعورهم بالمدة الزمنية. ومن ثمّ هناك تجربة الأقزام التي توحي أيضاً أن شعورنا بالزمن متناسب بشكل مثالي مع شعورنا بالأحجام. وعلى الرغم من ذلك كله، يحذر بونومانو من المبالغة في تفسير تلك الظواهر، ويعلق بالقول: «الزمن بالنسبة إلينا هو نسبي؛ لأن أدمغتنا تتفاعل مع كل شيء وليس المقصود هنا المعنى النسبي لآينشتاين».
في الحقيقة، ليس المكان والحركة هما الأمرين الوحيدين اللذين يشوهان الزمن، فجميعنا شعر بذلك: الزمن يطير مسرعاً عندما نستمتع ويكون بطيئاً عندما نشعر بالملل. وما هو أكثر درامية من هذا: يبدو الزمن بطيئًا جدًّا عندما يغزونا الخوف، كما هي الحال في تجربة الاقتراب من الموت، أو عند وقوع حوادث سيارات بسيطة.
لأول وهلة، يظهر لنا أن التركيز يؤدي دوراً مهمّاً جدّاً. فكلما كنت أقل انشغالاً انتبهت أكثر لمرور الزمن وبذلك تشعر بأنه يمر بشكلٍ أشد بطئاً. لكن هناك ما هو أكثر من ذلك، فبالنسبة إلى سلفي دروا-فولي Sylvie Droit-Volet، عالمة النفس من جامعة كليرمون أوفيرني University of Clermont Auvergne في فرنسا، تؤدي العواطف دوراً محوريّاً. فقد أثبتت أن الأشخاص يبالغون في تقدير الفترات المثيرة عاطفيّاً والممتدة إلى بضع ثوانٍ، كما أنها برهنت على أن أفلام رعب مثل فيلم البريق كالشروق The Shining، تجعلك تشعر بتمدد الزمن.
وفي واحدة من أفضل التجارب المعروفة عن الشعور بالزمن، طلب ديفيد إيغلمان David Eagleman، الذي يعمل حاليّاً في جامعة ستانفورد، وفاني بارياداث Vani Pariyadath،من المعهد الوطني لتعاطي المخدرات National Institute on Drug Abuse في ميريلاند، إلى مجموعة من المتطوعين السقوط إلى الخلف من علو برج فوق شبكة آمنة تبعد 30 متراً نحو الأسفل. وأثناء هبوطهم، نظروا إلى شاشة عرض LED تُظهر رقماً يومض يجري استبداله بصورته السالبة عشرين مرة في الثانية. وهذا المعدل أسرع بكثير من قدرة البشر على الشعور به ما لم يتباطأ الزمن بطريقة ما داخل أدمغتنا عند لحظات معينة. وعلى الرغم من أن المتطوعين ذكروا أن السقوط استمر لفترة أطول من المدة الفعلية، فإنه لم ينجح أيٌ منهم في تمييز الرقم الموجود. وقادت هذه النتيجة إيغلمان وبارياداث إلى اقتراح مفاده أن تمدد الزمن كان صنيعة الذاكرة: تتسبب المواقف الشديدة في امتصاص أدمغتنا للمزيد من التفاصيل، ومن ثمّ صنع ذاكرة أغنى، وهو ما يشرح سبب ظهور التجربة أكثر طولاً مقارنة بالواقع.
لكننا نعلم أيضاً أنه في بعض الحالات، يُمكن أن يحصل تمدد الزمن في الحقيقة. حفّز مارك ويتمان Marc Wittmann، من معهد الدراسات المتقدمة في علم النفس والصحة العقلية Institute for Frontier
Areas in Psychology and Mental Health في فرايبورغ بألمانيا، تجربة سيناريو التهديد كما هي الحال مع حادث السيارة. وخلال التجربة شاهد المتطوعون مجموعةً من الدوائر على شاشة، بعضٌ من تلك الدوائر نما وصار أكبر معطياً بذلك انطباعاً بالاقتراب في حين تقلص القسم الآخر معطياً بذلك الإحساس بالابتعاد. وبشكلٍ مؤكد، فقد بالغ الأشخاص في تقدير زمن عبور الدوائر التي بدت مقتربة.
تشوه الزمن، سواءً كان متأخراً أم في لحظته، متعلقٌ بشكلٍ أساسي بالعواطف مقارنةً بأي شيء آخر. ولكن عندما تتجاوز سطح العواطف، تدرك حينها أنها عبارة عن حالات عقلية محفزة باستجابات نفسية للعالم.
كشفت بضع دراساتٍ جرت باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي Functional MRI للدماغ عن وجود ارتباط بين مقدار إحساسنا بالزمن الذي مضى والنشاط العصبي داخل القشرة الجزيرية Insular cortex، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة إشارات الجسم. يوحي ذلك أن الزمن الذاتي يتشكل بواسطة الأحاسيس الفسيولوجية وفقاً لويتمان -ويبدو أن التجارب تشير إلى ذلك أيضاً. وعلى سبيل المثال، أثبت ويتمان أن الأشخاص الأكثر انتباهاً لنبضات قلبهم يُعيدون إنتاج فترة استمرار صوتٍ سمعوه بدقة أكبر من الأشخاص الآخرين، كما برهن على أن الأشخاص، عند مشاهدتهم لأفلام الرعب وإحساسهم بتباطؤ الزمن، يعانون الإحساس نفسه الذي يعانيه متطوعون طُلب إليهم التركيز على أحاسيسهم الجسدية.
ويقود كل ما سبق إلى أن معدل دقات القلب، أو بشكلٍ أكثر ترجيحاً مجموعة من الحالات الجسمية المتنوعة، قد تؤدي دور المقياس الجوهري للمدة الزمنية. وسيمثل حينها عدد النبضات المتراكمة مقدار الزمن الذي مضى وسيسجلها الدماغ. وفي هذه الحالة يأتينا الانطباع بأن الزمن يمضي بطيئاً أكثر مما هي الحال عندما تتصاعد العمليات الجسمية.
هذا منطقي في إطار الزمن النيوتوني أكثر مما هي الحال في سياق الزمن والمكان النسبيين اللذين تصورهما آينشتاين. وفي نهاية المطاف، فإنّ شعورنا بالزمن أو تشوهه لا يتطلب أيّاً من تلك المفاهيم المجردة وفقاً لويتمان الذي يُضيف قائلاً: «يُمكنك القول إن تصورنا عن الزمن تتم معايرته ببعض الحالات العاطفية المتوسطة. وعندما نجد أنفسنا بشكلٍ مفاجئ عرضةً لحالة عاطفية مستثارة جدّاً، فإن ذلك قد يقودنا إلى المبالغة في ذلك الشعور مقارنةً بالمتوسط».
ذلك منطقي. فتجربتنا عن العالم بطبيعتها ذاتية، إذا لماذا نتوقع رؤية شيء آخر غير تقريب ضبابي للواقع الموضوعي؟ ووفقاً لهذه الصورة، لا يجري الزمن لأن أدمغتنا تقيسه وفقاً لبعض المفاهيم العلمية، وإنما بفضل خلاياه التي تطورت لتعقب سلاسل من الأحداث. نحن حرفيّاً نبني الزمن الذي يُسرع أو يُبطئ تبعاً لعواطفنا التي تشكلت بحد ذاتها كاستجابة فسيولوجية لوسطنا المحيط. ومن ثم، فإنّ إحساسنا بالزمن محدودٌ بشكلٍ أساسي بشعورنا بأنفسنا أكثر من أي شيء آخر.
أما إلى أي مدى يُمكن اعتبار هذا الشعور بالزمن خاصية حقيقية للكون فهو سؤالٌ مختلف جذريّاً، وهنا نطأُ أرضاً وعرة مؤلفة من علم الأعصاب على جهة، والفيزياء على الجهة الأخرى. من جانبه، يجد بونومانو أنه من الصعب تصديق أن أدمغتنا تخدعنا، ويضيف: «في حال الإحساس بالزمن، أعتقد أن حواسنا تُخبرنا شيئاً حقيقيّاً عن الكون. أجد صعوبة كبيرة في معرفة سبب تطورنا لرؤية الحاضر على أنه مميز فيما هو ليس كذلك».
الزمن يزداد حقيقية
لكن ذلك لا يعني أن أدمغتنا تُخبرنا بكل شيء. فحتى الحواس التي نفهمها لا تنتج صورة دقيقة بشكلٍ مثالي عن العالم. لهذا السبب نحن عرضة كثيراً للأوهام البصرية.
يعتقد روفيلي أن هناك شيئاً مشابهاً يحصل مع شعورنا بالزمن. ويجادل علماء الفيزياء المعاصرون في أن جريان الزمن ينتج من القانون الثاني في الديناميكا الحرارية Thermodynamics الذي يصر على أنّ الفوضى، المعروفة بالإنتروبية Entropy تزداد داخل أي نظام مغلق. ولكن اعتبار كوننا نظاماً مغلقاً هو أبعد ما يكون عن الوضوح. وحتى لو كان كذلك، يتساءل بعض الأشخاص بخصوص الفرضية القائلة بكون الإنتروبية صغيرة جدّاً في الماضي البعيد. وسعى روفيلي وراء أجوبة أكثر إرضاءً داخل حالات الشك الكائنة في عالم المستوى -الكمومي – الأكثر جوهرية الذي نعرفه عن الطبيعة والذي وُلد من صلبه العالم الكلاسيكي الذي نرصده.
ونتيجة لذلك، يجادل روفيلي في أن إحساسنا بجريان الزمن ينبع من منظورنا الغريب عن الكون، وعجزنا عن رؤيته بكل تفاصيله. ويقول روفيلي: «نجلس فوق صخرة تدور. لكن بدلا من الشعور بالدوران، نشاهد النجوم تتحرك من حولنا». يبدو كل ذلك مشابهاً جدّاً لوهم. ولكن روفيلي يفضل أن يدعوه بالتقريب، معلقاً: «أكثر تقريباتنا صلة بالواقع الحقيقي». جريان الزمن نوعٌ من الوعي الذي يسمح لنا بالعمل دون الكشف عن العالم كما هو.
وفي نهاية المطاف سيتطلب التوفيق بين علم الأعصاب وفيزياء الزمن فهماً أفضل لكليهما. ولفهم عدم وجود أي شيء عدا الواقع الفعلي، فعلى علماء الأعصاب حل لغز كيفية خلق الدماغ للوعي Consciousness، كما يتعين على علماء الفيزياء التصارع مع حقيقة كون الأنظمة الكمومية أجساماً غير محددة إلا عند رصدها. وبكل الأحوال، يستغرق ذلك بعض الوقت.
هل تشكل اللغة جريان الزمن؟
عندما نتحدث عن الزمن، فإننا نؤطره بتعابير المكان. فمتحدثو الإنجليزية يتطلعون «قدماً» إلى أوقات جيدة، ويتركون الماضي «وراءهم». ويطير اليوم تماماً كما تفعل الكرة، في حين يُطبق الموعد النهائي كأنه نمر. ولكن الاستعارات المكانية التي نستخدمها تختلف من لغة إلى أخرى، ويعتقد بعض الأشخاص أن تلك الاختلافات تؤثر في شعورنا بالزمن.
إن فكرةَ أن اللغة تُشكل الفكر مثيرةٌ للجدل، إذ يجادل النقاد في أن الكلمات التي نستخدمها تعكس بكل بساطة الأفكار التي وُلدت أو وُضعت بواسطة وسائل الآخرين. ومع ذلك عندما نقارن التصورات العقلية للزمن لدى متحدثي اللغات المختلفة، فهناك إشارات على أن اللغة تؤثر في طريقة تفكير الناس بالزمن.
في لغة الماندرين Mandarin، يشار إلى الأحداث المبكرة بكونها «صاعدة» Up وتلك المتأخرة بكونها “هابطة” Down. وقد وجدت ليرا بوروديتسكي Lera Boroditsky، وهي عالمة سلوكيات في جامعة كاليفورنيا University of California بسان دييغو، أنه عند سؤال الناس عن ترتيب صور وفقاً لسلسلة زمنية، فإنّه من المرجح أن متحدثي الماندرين سيرتبونها بشكلٍ عمودي أكثر من متحدثي الإنجليزية الذين يميلون إلى ترتيبها من اليسار إلى اليمين. إضافة إلى ذلك، فإن الأشخاص الذين يتحدثون اللغتين يُرجح أن يرتبوا الزمن عموديّاً إذا أُجري الاختبار بلغة الماندرين.
من الصعب معرفة ما إذا كانت اللغة مسؤولة عن إنشاء تصورات خاصة عن الزمن بدلاً من أن تكون انعكاساً لها فقط. ولكن بوروديتسكي تقول إنّ أكثر الأدلة وضوحاً يأتينا من دراسة جرت عام 2017 علّمت خلالها متحدثي الإنجليزية بعض الاستعارات الجديدة عن الزمن مثل: «الثلاثاء فوق الأربعاء». وعندما اختبرت وعيهم بمرور الزمن، اكتشفت أن أداءهم تغير بطريقة تتوافق مع اكتسابهم لطريقة جديدة لتصور الزمن.
وكما هي الحال دائماً، هناك حاجة إلى الكثير من العمل. ولكن هذه الأنواع من الدراسات تذكرنا بأن القدرة على خلق التصورات العقلية عن شيء مجرد كالزمن، الذي لا يُمكن رؤيته أو لمسه، تبقى واحدا من أعظم ألغاز العقل.
New Scientist