خبراء الأرصاد الجوية يخشون تهديد شبكات الجيل الخامس 5G اللاسلكية
صراع بين الهيئات الأمريكية حول الحدود المناسبة لإشارات الشبكة
بقلم: غابرييل بوبكين
ترجمة: صفاء كنج
تحتدم معركة بارزة بين الهيئات الحكومية الأمريكية حول ما إذا كانت خطط الجيل التالي من التكنولوجيا اللاسلكية، المعروف باسم الجيل الخامس 5G ، ستهدد دقة التنبؤات الجوية، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن تخفيف خطر هذا التهديد؟. لم تُجدِ أشهر من الدراسات الفنية والنقاشات إلا تعميق المأزق.
تقول وكالة الفضاء الأمريكية NASA والإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي(اختصارا: الإدارة (NOAA إن هوائيات شبكات 5G ستطلق وابلاً من الإشارات بالقرب من الترددات التي تستخدمها أقمارها الاصطناعية لجمع بيانات بخار الماء المهمة، وسيهدد ذلك دقة التوقعات الجوية وعلم الرصد الجوي. وتدعو الوكالات إلى فرض قيود مشددة لضبط قوة الإشارة. وتقول لجنة الاتصالات الفيدرالية (اختصارا: اللجنة(FCC التي تصدر تراخيص الطيف اللاسلكي لمشغلي 5G في الولايات المتحدة، إن هذه المخاوف مبالغ فيها.
يقول جوردان غيرث Jordan Gerth، خبير الأرصاد الجوية من جامعة ويسكونسن University of Wisconsin في ماديسون، إن شبكات 5G تشكل “تهديداً واضحاً” للتنبؤ بالطقس، لكنه يضيف إن المسألة أعقد مما تبدو عليه و”المشكلات تكمن في التفاصيل”. وقد تعثرت محاولات التوصل إلى حل وسط، وألغيت ورشة عمل كان يفترض أن تعقدها في يوليو 2019 الأكاديميات الوطنية للعلوم والهندسة والطب للبحث عن حل، عندما رفضت الوكالات الفيدرالية الحضور. وتهدف سلسلة من الاجتماعات الدولية التي بدأت في منتصف أغسطس 2019 إلى صياغة لوائح عالمية منظِمة للجيل الخامس 5G لكن المتنبئين الجويين يخشون من أن الوفود الأمريكية لن تجادل من أجل فرض حدود صارمة.
يُتوقع من شبكات الجيل الخامس زيادة سرعة تدفق البيانات حتى 100 مرة أسرع من شبكات الجيل الرابع 5G الحالية؛ وهي قد تمهد الطريق لاعتماد تقنيات متطورة على نطاق واسع مثل السيارات الذاتية القيادة. وبالفعل، بدأت شركات الاتصالات في تركيب هوائيات 5G، وهي بحجم حقائب السفر، على أبراج شبكات الهواتف المحمولة وسطوح المنازل في مدن عدة حول العالم.
ترغب الشركات في توسيع نطاق الخدمة لتشمل نطاقات تردد إضافية مثل 24 غيغاهيرتز GHz، وهو تردد أعلى بكثير من الترددات التي تستخدمها الشبكات اللاسلكية الحالية لأنها قد ترسل عبر الإشارات حزمة بيانات أكبر، ولأن الجو شفاف للإشارات من هذا النطاق. لكن نطاقات التردد هذه مفيدة فقط إذا تمكنت الشركات من إرسال البيانات بإشارات عالية نسبياً. وقد اقترحت لجنة الاتصالات الفيدرالية السماح بإشارات قوية تصل إلى -20 ديسيبل وات dBW في جميع النطاقات التي بيعت بالمزاد حتى الآن، بما في ذلك إشارة يتراوح ترددها ما بين 24.25 و 25.25 غيغاهرتز.
لكن للترددات المحاذية تأثيرا كبيرا كما يرى علماء الرصد الجوي. فعند نحو 23.8 غيغاهرتز، تبعث جزيئات بخار الماء كمية صغيرة من الإشعاع – وهي من أفضل الطرق لاستشعار محتوى الماء في الغلاف الجوي عن بعد. وهذا الماء هو الذي يغذي السحب والعواصف. ونظراً لأن الهواء شفاف عند تلك الترددات، يمكن لأجهزة الاستشعار المتصلة بنظام الأقمار الاصطناعية القطبية المشترك التابع للإدارة NOAA والأقمار الاصطناعية التشغيلية للأرصاد الجوية الأوروبية، جمع البيانات من جميع مستويات الغلاف الجوي، الأمر الذي يوفر مدخلات مهمة ليس فقط للتنبؤات الجوية المعتادة لمدة سبعة أيام، ولكن أيضاً للتنبؤ بقوة الأعاصير والمكان الذي ستضرب فيه اليابسة. ويضيف إريك أليكس Eric Allaix، خبير الرصد الجوي في هيئة الأرصاد الجوية الفرنسية Météo-France في تولوز، ورئيس لجنة معنية بتنسيق الترددات الراديوية لدى المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، إن سجل بخار الماء على المدى الطويل قد يساعد على معايرة نمذجات تغيُّر المناخ.
وعلى الرغم من أن انبعاثات transmission 5G ستكون منفصلة عن نطاق بخار الماء بعازل Buffer يبلغ نطاق تردده 250 ميغاهرتز، فإن المتنبئين الجويين يخشون من أن تفيض أو تتداخل مع نطاقهم فتغمر الانبعاثات الطبيعية الخافتة التي يلتقطونها من بخار الماء. في شهر مارس 2019، قبل طرح اللجنة FCC ترددات النطاق 24 جيغاهرتز في المزاد، أرسل كل من وزير التجارة ويلبر روس Wilbur Ross، الذي يشرف على الإدارة NOAA ومدير الوكالة ناسا جيم بريدنشتاين Jim Bridenstine رسالة إلى لجنة الاتصالات الفيدرالية يطلبان فيها تأجيل المزاد. لكن لجنة الاتصالات الفيدرالية مضت في ذلك على أي حال، واشترت كل من تي-موبايل T-Mobile وإي تي أند تي AT&T أجزاء من النطاق.
وابتداء من تلك اللحظة أخذت الأمور منحى جدياً. إذ أدلى نيل جاكوبس Neil Jacobs، القائم بأعمال مدير الإدارة NOAA بشهادة أمام الكونغرس في شهر مايو 2019 قال فيها إن دراسة داخلية خلصت إلى أن التداخل المتصل بالجيل الخامس 5G، قد يكلف الإدارة NOAA حوالي 77% من بيانات بخار الماء التي تجمعها عند 23.8 غيغاهيرتز، وقد يؤدي إلى انخفاض جودة توقعات الطقس بنسبة تصل إلى 30%، عن مستويات عام 1980. وأضاف جاكوبس: “إنها مجموعة بيانات مهمة جداً لنا”. وعبر بريدنشتاين عن مخاوف مماثلة، فيما تشعر البحرية الأمريكية بالقلق كذلك من تراجع جودة التوقعات.
وقال رئيس لجنة الاتصالات الفيدرالية أجيت بايAjit Pai في شهادته أمام الكونغرس في يونيو 2019 إن الإدارة NOAA تسيء فهم تكنولوجيا 5G. وأضاف باي إن 5G ستستخدم تقنية “تشكيل الحزم” Beam-forming الشبيهة بالليزر التي ستزيد معدلات نقل البيانات إلى الحد الأقصى وتخفض الإشارات الشاردة إلى الحد الأدنى. والأرجح أن يقتصر النطاق 24 غيغاهرتز على المناطق الحضرية المكتظة حيث يتمركز مستخدمو الهواتف النقالة، الأمر الذي يبرر استثمارات الشركات في شبكات الإرسال.
لكن غيرث يخشى أنه حتى ولو حُصرت الترددات في حزم وانحصرت في المدن، سيبقى في وسع إشارات 5G أن تتسبب بمشكلات. فالأقمار الاصطناعية المعدة لرصد الأحوال الجوية تمسح العديد من الكيلومترات في وقت واحد، وأي تشويش في جزء من البكسل قد يتلف البكسل بكامله، كما يقول غيرث. إضافة إلى ذلك، فإن التداخل في المدن الساحلية مثل نيويورك وميامي في فلوريدا، قد يعوِّق عمليات الرصد المحيطية الأساسية للتنبؤ بالأعاصير.
منذ أبريل 2019، أدخلت الإدارة NOAA والوكالة ناسا تحسينات على دراستهما بشأن تأثير 5G في توقعاتهما، استجابة لانتقادات اللجنة FCC وقطاع الاتصالات اللاسلكية. ووفقا لمصادر اطلعت على أحدث نسخة من الدراسة، توصلت الهيئتان إلى الاستنتاج نفسه: يجب أن تقتصر قوة الإشارة على نحو -42 ديسيبل وات لحماية بيانات الطقس. (نظرًا لأن الوحدة dBW هي وحدة لوغاريتمية، تمثل تلك القيمة حداً أكثر صرامة بمئة مرة من الحد المعتمد من لجنة الاتصالات الفيدرالية FCC). ويقول عضو في لجنة مجلس النواب اطلع عليها: “يبدو أن الدراسات تؤكد صحة كل الانتقادات الصادرة عن ناسا والإدارة NOAA”.
لكن الإدارة NOAA لم تنشر دراساتها أو ترفعها إلى اللجنة FCC، وذلك نتيجة، كما تشير بعض مصادر الكونغرس، لتعرضها لضغوط من البيت الأبيض الداعم بقوة لشبكة 5G. ويقول براين هارت Brian Hart، المتحدث باسم لجنة الاتصالات الفيدرالية في واشنطن العاصمة: “لقد قال الرئيس إنه يسعدنا الاطلاع على الدراسات. لكن لم تُعرض أي دراسات يمكن التحقق منها”. (لم تحصل مجلة ساينس Science على تعقيب من ناسا أو NOAA على هذا التصريح).
حتى لو لم يتمكن الخبراء الفنيون من حل نزاعاتهم، فقد يفعل الدبلوماسيون ذلك. في اجتماع استضافته لجنة الاتصالات للبلدان الأمريكية في منتصف أغسطس 2019 في أوتاوا، كان يتعين على دول نصف الكرة الغربي التوصل إلى توافق في الآراء بشأن حدود نطاق إشارات 5G، على أن يُطرح هذا الحد أمام المؤتمر العالمي للاتصالات الراديوية World Radiocommunication Conference الذي يعقد كل أربع سنوات وسينطلق في 28 أكتوبر 2019 في شرم الشيخ بمصر، في محاولة للتفاوض على حد عالمي. وستقود وزارة الخارجية الوفد الأمريكي، لكنها لم تعلن عن موقفها بعد.
أحاط جاكوبس موظفي الكونغرس بالوضع في نهاية يوليو 2019. وذكر وفقاً للمصادر، أن عملية البحث عن حل وسط بين مختلف الهيئات الأمريكية انهارت، وألمح إلى أن الولايات المتحدة قد تقترح حداً للضوضاء يبلغ -28 ديسيبل وات خلال اجتماع أوتاوا. وهذا الحد أكثر صرامة من -20 ديسيبل وات الذي دافعت عنه اللجنة FCC، لكن جاكوبس ما زال يعتقد أنه حتى عند الحد المقترح فإن تأثيره سيكون كارثياً على الرصد الجوي.
قد توفر أوروبا ثقلاً احتياطياً مضاداً. يقول أليكس الذي شارك في كتابة دراسة عام 2018 الداعمة لهذا الحد، إن منظمة الاتصالات الإقليمية التي تمثل البلدان الأوروبية تعتزم اقتراح حدٍ من -42 ديسيبل وات في مؤتمر الاتصالات الراديوية. لكن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية World Meteorological Organization اتخذت خطا أكثر تشدداً، داعية إلى اعتماد -55 ديسيبل وات. ويقول أليكس إن الظروف الجوية في الولايات المتحدة مهمة بالنسبة إلى التوقعات الأوروبية بعد يومين إلى ثلاثة أيام، لذلك “فهي حقاً مشكلة عالمية. يجب حماية أقمارنا في كل مكان حول العالم”.
لكن حل المعركة حول النطاق 24 غيغاهرتز لن ينهي الحرب. في ديسمبر 2019، تخطط اللجنة FCC لطرح مزاد لترددات النطاق من 37.6 إلى 38.6 غيغاهرتز، القريبة من تلك المستخدمة لقياس الأمطار والثلوج. وتقع العديد من نطاقات 5G المحتملة الأخرى قرب الترددات الحرجة بالنسبة إلى رصد أحوال الطقس. ويشعر غيرث بالقلق خصوصاً بشأن الترددات التي تتراوح بين 50 و55 غيغاهرتز الضرورية لاستنباط درجات حرارة الغلاف الجوي. ويقول: “هذه قضية باقية”.
نبذة عن الكاتب
غابرييل بوبكين Gabriel Popkin صحافي في ماونت رينييه بولاية مريلاند.
©sciencemag.org