الأرض القديمة تكشف عن عواقب مُرعِبة للاحترار العالمي في المستقبل
دروس من الماضي السحيق تكشف أن الاحترار الذي يسببه الإنسان ربما يخلق ظروفًا أكثر تطرفاً مما شهدته الأرض من قبل
بقلم: غرايام لاوتون
ترجمة: تامر صلاح
مرحبًا بكم في الأرض بيت الجليد. ربما لا يبدو الأمر كذلك، ولكن حاليّاً يمر كوكبنا بعصر جليدي. وقد بدأ ذلك منذ نحو 2.6 مليون سنة، وحتى وقت قريب لم يظهر سوى القليل من علامات الانحسار. وفي سبعينات القرن العشرين كان العلماء قلقين من كوننا على وشك الانغماس في موجة جليدية شاملة أخرى.
اليوم، تبخرت تلك المخاوف في ضباب غازات الدفيئة Greenhouse Gases. وما لم نتحرك بسرعة، فسيحدث العكس تمامًا. إذا استمرت الانبعاثات بالتراكم في الغلاف الجوي، فستفقد الأرض برودتها، وتكون لذلك عواقب كارثية محتملة على البشرية وعلى العالم الحي.
ومع احترار المناخ، يتسارع السباق لفهم ما سيحدث بالفعل عندما ندير منظم الحرارة (الثيرموستات)Thermostat إلى درجة أعلى. والنهج المعياري هو النمذجة الحاسوبية Computer Modelling، لكننا نحتاج إلى كل التبصرات التي يمكننا الحصول عليها، وهذا هو السبب في أن بعض علماء المناخ يولون انتباههم إلى الماضي السحيق، ويبحثون عن أحداث الاحترار العالمي Global Warming السابقة للمساعدة على التنبؤ بالمستقبل. الأخبار السارة هي أن البيوسفير –(الغلاف الحيوي)-Biosphere مرَّت عليه بعض الفترات الحارة جدّاً ونجا منها ليحكي الحكاية. والأخبار السيئة هي أن بيت الدفيئة Hothouse القادمة قد يكون أكثر تطرفًا من أي شيء عرفته الأرض من قبل. وفي هذه الحالة قد يكون حقّاً آخر عهدنا بالعالم البارد.
في أوائل القرن التاسع عشر ظهرت أقدم التلميحات التي تشير إلى أن مناخ الأرض في الماضي كان مختلفا اختلافاً جذريّاً، وذلك عندما تأمَّل الجيولوجيون بحَيْرة في ظواهرَ مثل وجود رواسب جليدية وأحجار رملية صحراوية عند خطوط العرض المعتدلة. وفي أوائل القرن العشرين، بدا كما لو أن نظرية الانجراف القاري Continental drift تفسِّر ذلك- فربما ترسبت الطبقات في مكان آخر، ومن ثم شقت طريقها إلى مواقعها الحالية. لكن في غياب سجلات دقيقة لدرجات الحرارة، لا يمكن لأحد أن يكون متأكداً تمامًا.
تقول تريسي أيز Tracy Aze، عالمة الأحياء البحرية الدقيقة القديمة Marine micropalaeontologist من جامعة ليدز University of Leeds في المملكة المتحدة: «سجلات درجات الحرارة المُوثَّقة لا تعود إلا إلى مئتي عام، لذا يتعين علينا العثور على أدلة غير مباشرة». وهذه الأدلة عبارة عن أشياء تأثرت بدرجة الحرارة في ذلك الوقت وحُفظت عبر فترات طويلة جدّاً من الزمن، مُشكِّلة سجلاً لدرجات الحرارة القديمة. وتقول إيز: «عادة ما تكون تلك آثارا كيميائية حُبِست في الصخور أو الجليد الرسوبي؛ مما يُتيح لنا اشتقاق استدلالات حول درجات الحرارة السائدة [قديمًا]».
وأول قياس من هذا القبيل اخترعه الكيميائي هارولد أوري Harold Ureyفي أواخر الأربعينات من القرن العشرين، وهو فائز بجائزة نوبل، وعمل على القنبلة الذرية الأولى كجزء من مشروع مانهاتن Manhattan Project. وقد أدرك أوري أن توازن ما يتبقى من الأنماط المختلفة من الأكسجين، ما يعرف بالنظائر Isotopes، داخل الصخور والأحافير هو دليل على درجات الحرارة القديمة. عموماً، كلما ثقُل النظير -الأكسجين 18- في الرواسب المحيطية، دلَّ على مزيد من انخفاض درجة الحرارة في وقت تكونها. ومنذ ذلك الحين اختُرعت العديد من التقنيات المماثلة. إيز، على سبيل المثال، حَللت أصدافاً مُتأحفِرة من كائنات بحرية تدعى الفورامنيفرا Foraminifera. تكشف نسب نظير الأكسجين في كربونات كالسيوم الأصداف عن درجة حرارة المياه التي تشكلت فيها. وهناك أسلوب آخر هو تحليل حافة ورقة النبات Leaf margin analysis، الذي يقدم دليلًا على درجات الحرارة على اليابسة. ببساطة، كلما كانت حافة الورقة الأحفورية مصقولة (غير مشرشرة) أكثر، كان الهواء أكثر دفئًا. «نحاول قدر الإمكان وتقول إيز: استخدام العديد من خطوط الأدلة المختلفة».
باستخدام هذه التقنيات وغيرها، أعاد علماء المناخ القديم، بجهد كبير، بناء مناخ الأرض عبر عشرات الملايين من السنين. تقول إيز كلما عدت إلى الوراء قلّت دقة التقديرات. ولكن، لدينا فهم جيد للمناخ في الـ 65 مليون عام الماضية، وهي فترة تمتد إلى ما قبل الوقت الساخن جدّاً لدفيئة الإيوسين Eocene . وبالطبع بردت الأشياء باطراد كبير منذ ذلك الحين (انظر: تواريخ حارَّة).
وما بدأ كعِلْم تاريخي يبحث في الماضي، الذي بدأت منه الحياة، سرعان ما صار يُعنى بالتصدي للمستقبل. فللجيولوجيين شعار هو: الحاضر مفتاح الماضي. أما بالنسبة إلى علماء المناخ القديم؛ فالماضي مفتاح المستقبل. فهم يرون فترات الاحترار الشديد في الماضي على أنها شبيه محتمل لعالم يسخن بفعل زيادة انبعاثات غازات الدفيئة. يقول آلان هايوود Alan Haywood ، عالم الأرض Earth scientist من جامعة ليدز في المملكة المتحدة: «الماضي الجيولوجي دليل على ما قد تكون عليه المناخات المستقبلية».
«في آخر عصر بين جليدي بلغ معدل ارتفاع مستوى سطح البحر ذروته عند 2.5 متر كل قرن»
لقد سخنت انبعاثاتُنا من الكربون الكوكبَ بالفعل بمقدار درجة سيليزية واحدة فوق معدل درجة الحرارة في فترات ما قبل الصناعة Pre-industrial، ونحن في طريقنا إلى إضافة 0.5 درجة سيليزية أخرى على الأقل – أو على الأرجح درجتين سيليزيتين أو ثلاث درجات سيليزية – بحلول نهاية هذا القرن. وفهم تأثير هذا في الأرض، وفي الحياة والحضارة الإنسانية، أحد أكثر الأسئلة العلمية التي نواجهها إلحاحاً. كما أنه من الصعب جدّاً الإجابة عنه. فنظام المناخ معقد جدّاً: تفاعل معقد وغير خطي للإشعاع الشمسي، وديناميكيات الغلاف الجوي، والجغرافيا، والجيولوجيا، ودورة المحيطات، والجليد، والبيوسفير.
يتمثل النهج القياسي باستخدام نمذجات حاسوبية تحاكي نظام الأرض بأكبر قدر ممكن من التفاصيل، ثم تبديل مقاييس Parameters مختلفة – مثل إضافة كميات من ثاني أكسيد الكربون – للتنبؤ بما قد يحدث. فالنمذجات التي لا تعتمد على البيانات القديمة صارت واقعية بشكل متزايد، مادمت لا ترغب في تجاوز فترة لـ 300 عام. المقبلة أو نحو ذلك. ولكنها تفشل في التقاط التأثيرات الكاملة طويلة الأمد للاحترار العالمي. يقول هيوبرتوس فيشر Hubertus Fischer، عالم المناخ القديم من جامعة بيرن University of Bern في سويسرا: «هناك نتائج تغذية راجعة Feedback لا تبدأ بالتأثير إلا على مقاييس زمنية أطول… فالمقياس الزمني لانقلاب المحيط Ocean Overturn [انقلاب دوران تيارات المحيط] يتراوح بين 500 و1000 عام؛ أما دورة الصفائح الجليدية؛ فتستغرق فترة أطول. وسنحتاج إلى ألفي عام حتى تصل الأرض إلى توازن جديد».
وهنا تدخل المناخات القديمة المشهد، إذ يقول فيشر: «في الحقيقة، فإن البيانات القديمة هي فقط التي تقدم مثل هذا المدى الزمني… إنها تقدم لنا بيانات رصدية جيدة حول العمليات الطويلة الأمد – ليس فقط لمقاييس مثل درجة الحرارة والهطول والجليد البحري التي تستجيب بسرعة لدرجة الحرارة، ولكن الكيفية التي تستجيب بها جميع مكونات نظام الأرض للاحترار».
فما الذي تخبرنا به أحداث الاحترار الماضية عما ينتظرنا؟
بدايًة لابد من التحذير. كل فترة من فترات الاحترار الماضية تمتاز بسمات فريدة من نوعها، لذلك لا يوجد شيء يشبه التغير في المستقبل شبهاً تاماً. إضافة إلى ذلك، فإن الاحترار العالمي الحالي يحدث بشكل أسرع من أي شيء حشدته الأرض من تلقاء نفسها. فعلى سبيل المثال، يبدو أن أدفأ فترة خلال الـ 65 مليون عام الماضية، دفيئة الإيوسين، نتجت من نبضات من ثاني أكسيد الكربون CO2 المنبعثة على مدار آلاف السنين. نبضاتنا الآن تحدث على مدار عقود.
وهناك اعتبار آخر مهم يجب أخذه بالحسبان عند البحث عن التشابه، ألا وهو أن القارات يجب أن تكون تقريبًا في مواقعها الحالية. فالجغرافيا الطبيعية هي مفتاح رئيسي في نظام المناخ يؤثر في التيارات المحيطية وأنماط الطقس. وموضع القارة القطبية الجنوبية Antarctica مهم بشكل خاص: فألواحها الجليدية الضخمة، وقوتها الهائلة على عكس ضوء الشمس عن سطحها وعزلتها عن كتل اليابسة الأخرى، جميعها لها تأثير كبير جدّاً مقارنة بما سواها. ووصلت القارة القطبية الجنوبية إلى موقعها الحالي منذ نحو 100 مليون عام، لذلك أي شيء قبل ذلك مشكوك فيه جدّاً. ويقول فيشر Fischer: «يمكنك محاولة تصحيح المواقع المختلفة للقارات في الماضي في نمذجات المناخ… لكن كلما رجعت إلى الوراء، زاد “مطّك” للاستدلالات». وبذا تُستثنى بعض فترات الاحترار القديمة جدّاً، لا سيما الطباشيري المتأخر Late Cretaceous ونهاية البرمي End-Permian كحقب مشابهة لوقتنا الحالي.
تشابهات في المستقبل
على الرغم من هذه الشروط، لا يوجد نقص في مرشحين من الحقب الأكثر سخونة. وأحدث فترة احترار هي الحد الأقصى الحراري Thermal Maximum في منتصف الهولوسين، الذي بدأ منذ نحو 11 ألف عام واستمر لـستة آلاف عام. تمتاز هذه الفترة بالجغرافيا الطبيعية الحديثة والبيانات الأحفورية الوفيرة، ولكن متوسط درجة الحرارة كان فقط نحو 0.7 درجة سيليزية فوق خط الأساس المرجعي لما قبل الصناعة Pre-industrial Baseline. وبالنظر إلى أننا تجاوزناه بالفعل، فلا يوفر هذا –على الخصوص- نافذة مفيدة لإلقاء نظرة على مستقبل.
وإذا عدنا إلى الوراء، فإن الارتفاع التالي هو العصر بين جليدي الأخير، منذ نحو 129 ألف إلى 116 ألف عام. وكما يوحي المصطلح، فإن العصور بين الجليدية هي فترات مؤقتة تتخلل العصر الجليدي. وآخر عصر بين جليدي هو فترة حديثة بما يكفي لاجتياز شرط الجغرافيا الطبيعية، ولكن متوسط درجة الحرارة العالمية كان فقط نحو 0.8 درجة سيليزية فوق مستويات ما قبل الصناعة. وهذا يكفي لاستبعادها على أنها تقدم عصراً شبيهاً، على الرغم من أنه يخبرنا بشيء مهم جدّاً. وقرب نهاية آخر عصر بين جليدي، ارتفعت مستويات سطح البحر بمعدل يصل إلى تسعة أمتار؛ مما أدى إلى غمر مساحات شاسعة مما هو اليوم يابسة جافة. لطالما كان مصدر كل هذه المياه محل نقاش، ولكن في العام الماضي أعلن علماء الجليد في جامعة ولاية أوريغون Oregon State University أنه من شبه المؤكد أن ذلك حدث بفعل ذوبان لوح جليدي ضخم كان يغطي غرب القارة القطبية الجنوبية. وعاد ذلك اللوح الجليدي إلى النمو منذ ذلك الحين مرة أخرى، لكنه يُؤرِّق علماء المناخ في يومنا هذا: فقاعدته تحت مستوى سطح البحر؛ مما يعرضه لحرارة مياه المحيط ويجعله عرضة لذوبان مفاجئ. هذا ما حدث على ما يبدو في آخر عصر بين جليدي، إذ تشير سجلات جيولوجية إلى أن معدل ارتفاع مستوى سطح البحر بلغ ذروته ليصل إلى 2.5 متر لكل قرن.
بالنسبة إلى المرشح الشبيه التالي، يتعين عليك العودة إلى الوراء، إلى حادثة عمرها ثلاثة ملايين عام تدعى منتصف البليوسين الدافئ Mid-Pliocene Warm period. وخلال البليوسين، كان التبريد التدريجي من الإيوسين Eocene لا يزال هو الاتجاه السائد، ولكن فترة الـ 300 ألف عام خالفت هذا الاتجاه بشكل كبير. ولأسباب غير معروفة، فقد ارتفعت مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي وتلا ذلك ارتفاع في درجات الحرارة العالمية. لم تكن القارات موزعة توزيعاً يشبه الوقت الحديث تمامًا: أمريكا الشمالية والجنوبية لم تلتقيا بعد لتشكّلا برزخ بنما – وهو الحدث الذي أطلق حركة تيار الخليج Gulf Stream؛ تيار المحيط الأطلسي الذي يؤدي دوراً مهمّاً في تحريك الحرارة حول الكوكب. وعلى الرغم من ذلك، يرى علماء المناخ القديم أن منتصف البليوسين هو شبيه جيد للأرض المستقبلية، ويقول فيشر: «إنها أولى الحقب الملائمة فعلاً… ومستوى ثاني أكسيد الكربون هو تقريباً مستواه الحالي نفسه، لذلك يوفر ذلك مقارنة مباشرة». ولكن، على الرغم من أنه حدث قبل ثلاثة ملايين عام فقط، فإن البيانات القديمة لاتزال شحيحة نوعًا ما – لا يوجد «سوى بضع حفنات من السجلات»، كما يقول.
ومع ذلك، يمكننا أن نرسم بقدر من الثقة الكيفية التي كان العالم عليها في ذلك الوقت. ويقول هايوود: «كان متوسط درجة الحرارة السنوية العالمية يتراوح بين درجتين وثلاث درجات سيليزية أكثر دفئاً مما قبل الصناعة، مع احترار أكثر وضوحاً في خطوط العرض العليا… كان هناك انخفاض كبير في الجليد البحري في كلا نصفي الكرة الأرضية. وربما كانت المنطقة القطبية الشمالية خالية تمامًا من الجليد في فصل الصيف. وربما كانت الصفائح الجليدية في غرينلاند قد تراجعت إلى مجرد كتلة جليدية صغيرة، ونعتقد أن الغطاء الجليدي في غرب القارة القطبية الجنوبية لم يكن موجودًا. ومستوى سطح البحر كان فيما بين 15 إلى 25 مترًا فوق المستويات الحديثة».
«في أقل من 11 عامًا، سيتحول مناخنا إلى حالة لم تشهدها البشرية منذ ملايين السنين»
يبدو مألوفا؟ إلى حد كبير تردد هذه الصورة التحذيرات حول ما يتجه إليه عالمنا، ويقول هايوود: «ستعتقد أن الجواب هو نعم، لقد سمعت هذا من قبل في مكان ما … ». غير أن المشكلة تكمن في التفاصيل. ووصل ارتفاع درجات الحرارة عند خطوط العرض الشمالية المرتفعة إلى نحو ثماني درجات سيليزية –وهو أكثر بكثير مما تتنبأ به أفضل نمذجاتنا للمناخ عند مستويات ثاني أكسيد الكربون كتلك. ويشير هذا إلى أن النمذجات قد تقلل إلى حد كبير من درجة حرارة القطب الشمالي على المدى البعيد، كما يقول فيشر. ويوفر البليوسين أيضًا بعض الوضوح الذي تشتد الحاجة إليه حول ما سيحدث للألواح الجليدية ومستويات سطح البحر بفعل استمرار تأثيرات الاحترار عبر فترات زمنية أطول. باختصار، تذوب بسرعة وترتفع كثيراً.
وبالنسبة إلى مراقبي المناخ المتمرسين، ربما لا يكون هذا مفاجأة. وكما يقول هايوود، إذ يُقدَّم البليوسين منذ فترة طويلة على أنه مشابه لما سيحصل في القرن الثاني والعشرين وما بعده. ولكن عندما أجرى هو وزملاؤه مقارنة إحصائية منهجيةFormal statistical comparison لأوجه التشابه المناخية بين البليوسين والنمذجات الحاسوبية المختلفة للمستقبل، أصيبوا بالدهشة. وبتقسيم الأرض إلى شبكة والتركيز على درجة الحرارة وهطول الأمطار، كشف تحليلهم أنه بموجب مسارات الانبعاثات الحالية، كما يقول: «فنحن نصل بسرعة كبيرة إلى سيناريو البليوسين». ما مقدار هذه السرعة؟ «خلال الـ 20 إلى 30 سنة المقبلة. هناك قدر ضئيل من عدم اليقين، ولكن إحدى النمذجات توضح لنا أننا قد نصل إلى البليوسين في وقت مبكر من عام 2030. وها نحن في عام 2019 … عندما رأيت هذه النتائج لأول مرة، لم أستطع التحدث لفترة من الوقت. فقد ذهلت ذهولاً شديداً».
هذا لا يعني الفقدان الوشيك للصفائح الجليدية والارتفاع الشديد في مستوى سطح البحر – ستستغرق هذه التغيرات عدة قرون لتصل إلى أقصى حد لها – ولكن هذا يعني أنه خلال الـ 11 عامًا المقبلة، سيتحول مناخنا إلى حالة لم تشهدها الأرض منذ ملايين السنين.
لكن ذلك لا يعني أن الأمر كئيب وسوداوي، إذ يقول هايوود: «العديد من الأنواع Species من البليوسين لاتزال موجودة اليوم، لذا فحقيقة أننا قد نعود إلى تلك الحالة لا تعني بالضرورة أننا سنخسر عددًا كبيرًا من الأنواع»، ومع ذلك، فهو يعترف بأن معدل التغير الحالي قد يتجاوز قدرات الطبيعة على التكيّف. إضافة إلى ذلك، كان البليوسين نظامًا إيكولوجيّاً طبيعياً بِكراً، وهذه ليست هي الحال الآن. «لقد فقدنا مساحات شاسعة جدّاً من النباتات الطبيعية والموائل، لذلك توجد ضغوط إضافية لم تكن موجودة في البليوسين. وهنا ندخل في عالَم مرونة النظام الإيكولوجي Ecosystem resilience. وأعلمُ أن علماء الأحياء يشعرون بقلق عميق حيال هذا الأمر».
«لدى البشر القدرة على دفع الأرض إلى أبعد من أي ظرف متطرف عرفناه من الماضي»
ومع ذلك، ربما لا يكون البليوسين وجهتنا النهائية، ويقول هايوود: «إذا لم نحدّ من الانبعاثات بشكل كبير، سنترك تلك الحقبة سريعًا ونتجه بقوة نحو الإيوسين، وهي حدث دفيئة متطرفة عندما كان متوسط درجات الحرارة أعلى من مستويات ما قبل الصناعة بـ 14 درجة سيليزية ومستوى سطح البحر أعلى بـ 70 مترًا». ولا يزال الطريق بعيدًا ليصبح الإيوسين أقرب شبيه لمناخ الأرض في موعد لا يتجاوز عام 2150. ولكن الرحلة لن تكون مريحة، ويقول فيشر: «إذا بقينا دون درجتين سيليزيتين من الاحترار، فقد نتجنب العتبات التي لا يمكن السيطرة عليها… لكن إذا ارتفعت درجات الحرارة إلى 4.5 أو ست درجات ، فلا يمكننا القول إننا نتجنبها». وقال، استناداً إلى ما حدث في الماضي، قد يشمل ذلك ارتفاع مستوى سطح البحر ارتفاعاً كارثيّاً، وانبعاثات طبيعية لمزيد من غازات الدفيئة، وانهياراً مفاجئاً لتيار الخليج؛ وتابع قائلاً: “هذا سيُحدِث خللاً كبيراً في نظامنا المناخي ولا يمكننا التنبؤ بالعواقب».
مناخات جديدة
إذا كنت تعتقد أن هذا يبدو سيئًا، فإن علماء المناخ القديم يواجهون مشكلة أخرى، إذ يقول هايوود: «هناك إدراك متزايد بأن مسار المناخ يأخذنا إلى أماكن غير مفهومة جيدًا… فندخل بسرعة إلى عوالم لا تتطابق فيها درجات الحرارة وهطول الأمطار مع أيٍّ من مرجعياتنا الجيولوجية». وهذه «المناخات الجديدة جيولوجيّاً» الساخنة والمشبعة لا تمتد على الأرض بكاملها، ولكن بحلول القرن الثالث والعشرين ستحيق بشرق وجنوب شرق آسيا وشمال أستراليا وساحل الأمريكيتين.
وبعبارة أخرى، فإن لدى التأثير البشري في المناخ القدرة على دفع الأرض إلى أبعد من أي ظرف متطرف عرفناه من الماضي. يقول هايوود: «إننا ننظر إلى ذلك بمثابة نداء إيقاظ». وكذلك هي الحال بالنسبة إلى الهيئة الدولية للتغيرات المناخية Intergovernmental Panel on Climate Change (اختصارًا: اللجنة IPCC)، التي أخذت بعين الاعتبار علم المناخ القديم في تقريرها الأخير حول فرص الحفاظ على ارتفاع درجات الحرارة إلى ما دون 1.5 درجة سيليزية. وكانت الهيئة منزعجة مما توصلت إليه، إذ تقول سونيا سينيفيراتني Sonia Seneviratne، عالمة المناخ من المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا Swiss Federal Institute of Technology في زيوريخ والكاتبة الرئيسية لتقرير الهيئة IPCC: «المناخات القديمة مصدر مهم للأدلة… وهذا الدليل يشير إلى أن المعدل الحالي للاحترار غير مسبوق على مدى آلاف السنين».
وبالمقاييس البشرية، فإنّ عام 2150 بعيد جدّاً. فمن غير المتوقع أن يشهد أحد منا ممن هم على قيد الحياة اليوم ذلك، لكن ربما يشهده أحفاده. ولكن بالمقاييس الجيولوجية فهو قصير جدّاً. استغرق الأمر 50 مليون سنة للعمليات الطبيعية لخفض ارتفاع درجة حرارة الإيوسين. لكننا قد نعكس ذلك خلال قرنين من الزمن، ولذلك عواقب رهيبة. فلنعتبر من دروس عصور ما قبل التاريخ.
دورات التغيير
يبحث علماء المناخ عن أدلة حول درجات الحرارة الماضية في الصخور والأحافير. والقصة التي تحكيها درجات الحرارة والأحافير هذه هي قصة تبريد طويل الأمد بدأ منذ نحو 50 مليون عام (انظر: تواريخ حارة). في ذلك الوقت – الإيوسين المبكر، بعد 15 مليون سنة من انقراض الديناصورات – كانت الأرض في حرٍّ قائظ. وكان متوسط درجات الحرارة أعلى من مستويات ما قبل الصناعة بـ 14 درجة سيليزية. ولم يكن هناك جليد دائم في أي مكان على هذا الكوكب، وكان مستوى سطح البحر أعلى بـ 70 متراً عن مستواه الحالي. ويبدو أن سبب الموجة الحارة الممتدة تلك هو الحقن الهائل لغازات الدفيئة في الجو. ويظل مصدر ذلك غير واضح بعد – اقترح العلماء ثورانا بركانيا أو تأثير مذنب – ولكن أيّاً كان سبب ذلك، فقد بلغت مستويات ثاني أكسيد الكربون ذروتها نحو 1400 جزء في المليون (ppm). وللمقارنة، فهي تعادل حاليًا 414 جزءاً في المليون وكانت نحو 280 جزءاً في المليون في حقبة ما قبل الصناعة.
ومن تلك النقطة المرتفعة، بردت الأرض تدريجيّاً، إذ أدت العمليات الجيولوجية البطيئة الحركة إلى تنقية الجو من ثاني أكسيد الكربون. وكان أحد العوامل الرئيسية بناء الجبال. فارتفاع جبال جديدة يكشف عن الصخور السيليكاتية، التي امتصت ثاني أكسيد الكربون من الجو بفعل تعرضها لعمليات التجوية والتعرية. ومنذ نحو 34 مليون عام، برد الجو بما يكفي لظهور الصفائح الجليدية الباردة في القطب الجنوبي. وبعد 13 مليون عام آخر، كان القطب الشمالي متجمدًا أيضًا. ووصل الاتجاه الهابط لدرجات الحرارة إلى أدنى درجةٍ قبل أكثر بقليل من 1.2 مليون عام. ومنذ ذلك الحين استقرت الكرة الأرضية قليلاً، لكنها لا تزال ثابتة ضمن ظروف البيت الجليدي، مع وجود أغطية جليدية في كلا القطبين.
ولكن هذا أبعد ما يكون عن أن يكون مجمل القصة كلها، إذ إن هناك ذبذبات مستمرة وسريعة التغير من الدافئ إلى البارد وبالعكس- مفروضة على اتجاه التبريد العام. ويعود ذلك أساسًا إلى التقلبات الطبيعية في مدار الأرض حول الشمس؛ مما يغير توزيع الإشعاع الشمسي الذي يسقط على سطح الكوكب. فالاختلافات صغيرة، ولكن قد تكون لها تأثيرات كبيرة على المدى الطويل. وإذا سقطت أشعة شمس قليلة على خطوط العرض الشمالية، على سبيل المثال، تنخفض درجات الحرارة الإقليمية ويزداد تساقط الثلج في فصل الشتاء. ويعني ضوء الشمس الضعيف أيضًا أن الثلج ينجو من حرارة شهور الصيف؛ مما يعزز انعكاسية السطح (أو: الألبيدو Albedo)، فيعكس بدوره مزيدًا من ضوء الشمس إلى الفضاء ويضخّم التبريد. ويقول فيش : «هذا تأثير يعزز نفسه بنفسه… تصبح درجة الحرارة أكثر برودة، فتحصل على المزيد من الثلج، وتتراكم كتل جليدية وهذا يؤدي إلى ثلاجات جليدية».
أيضًا يؤدي التبريد الناجم عن التغيرات في مدار الأرض إلى انخفاض مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، ويقول فيشر: «يصبح تأثير الدفيئة أضعف؛ مما يؤدي إلى مزيد من التبريد». وعلى مدى عشرات الآلاف من السنين، فإن هذه التأثيرات ذاتية التعزيز كافية لقلب الأرض من الدفء إلى البرودة. ولكن مدار الكوكب يتأرجح في النهاية؛ فيعكس تسلسل الأحداث.
وهذه العملية تدفع المتوسط العالمي لدرجات الحرارة إلى الأعلى أو الأسفل، بمعدل دوري يبلغ نحو 100 ألف عام. وهذه هي دورات ميلانكوفيتش Milankovitch cycles (سميت على اسم عالم الفلك الصربي ميلوتين ميلانكوفيتش Milutin Milankovitch الذي اقترحها في عشرينات القرن العشرين). ومن حين إلى آخر، هناك أمر آخر يؤثر في ذلك؛ شحن هذه العملية شحناً توربينيّاً Turbocharging. وقد يكون ذلك المؤثر عبارة عن التقاء كثير من انحرافات المدار المختلفة، أو حقن المزيد من غازات الدفيئة في الجو. أيا كان السبب، تواجه الأرض ارتفاع درجات الحرارة بصورة غير عادية. وتلك هي الفترات ذات الأهمية الخاصة بالنسبة إلى أولئك الذين يحاولون التنبؤ بما سيكون عليه مناخ الأرض في المستقبل.
© Copyright New Scientist Ltd