قطب الأرض الشمالي يتحرك، وإذا انقلب فستكون الحياة على الأرض مؤرِّقة
يتحرك القطب الشمالي مسرعاً نحو سيبيريا ـــ ولكن لماذا؟ إنه لغز ذو تضمينات هائلة. ومن أجل فك غموضه، فنحن نبني نموذجاً هائلًا يحاكي نواة كوكب الأرض
بقلم: مايكل بروكس
ترجمة: حازم فرج
هل يمكنك أن تشير إلى القطب الشمالي؟ بالطبع لا تكاد تستطيع. إذ قد تخطئ بسهولة حتى لو استخدمت بوصلة. وإذا كنت في كاليفورنيا، فقد تنحرف إبرة بوصلتك بقدر 18 درجة كاملة بعيداً عنه. يقول وليام براون William Brown من هيئة المسح الجيولوجي البريطانية British Geological Survey: «يجب أن تضع مقدار الانحراف في عين الاعتبار، حتى إذا كنت فقط تتسلق المرتفعات – فقد يكون الاختلاف بقدر الفرق بين أن تذهب يساراً أو أن تمضي قُدُماً».
القصة ليست في أن بوصلتك قد تنحرف بفعل تغيرات موضعية في المجال المغناطيسي المحلي بل هي في أن القطب الشمالي نفسه لم يعد ما كان عليه. ففي عام 1900 كان القطب في كندا. وبعد ذلك بقرن، كان قريباً من غرينلاند. وفي الـ 18 سنة الأخيرة اندفع شرقاً بسرعة 40 كيلومتراً تقريباً في العام، وهو يتجه الآن نحو سيبيريا.
ولا تنتهي قصة السلوك الغريب لمجال الأرض المغناطيسي هنا. فهو عادة ما يعكس قطبيته أيضاً: فقد كانت هناك أوقات من تاريخ كوكبنا كانت منها إبرة البوصلة تشير إلى ما نسميه الجنوب. وحتى الآن، هناك مواقع تحت السطح تشير فيها البوصلة إلى الاتجاه الخاطئ. ما الأمر؟ لهذا اللغز تضمينات عميقة للتكنولوجيا ولمستقبل كوكبنا.
لكي نعالج المسألة بصورة مناسبة، ربما سنكون بحاجة إلى أن نفعل ما فعله جولز فيرن Jules Verne ونرتحل إلى مركز الأرض، حيث مصدر المجال المغناطيسي. لكن هذا أمر غير عملي تماماً. بدلاً من ذلك، فقد سعت العقول المبدعة بحثاً عن أقطاب متجمدة في أعماق الكوكب منذ أحقاب قديمة، وبنت كرات دوّارة عملاقة من الصوديوم السائل. وجميع هذا قد يساعدنا على فهم كوكبنا فهما أفضل، وأن نتجنب العواصف الشمسية، وربما نسلك الطريق الصحيح إلى هدفنا.
وعلى الرغم من أن قلةً منّا فقط قد وصلوا إلى مناطق قريبة من القطب الشمالي، فإنه مَعْلَم مألوف كما نشعر نحو وادي غراند كانيون أو قمة إيفرست. فالأطفال يعرفونه على أنه المكان الذي يعيش فيه بابا نويل. ولكن هناك أكثر من قطب واحد عند سقف العالم (انظر الشكل): فهناك القطب الشمالي الجغرافي، الذي هو نقطة تلاقي محور دوران الأرض مع سطحها. وهناك القطب الشمالي المغناطيسي، حيث يشير المجال المغناطيسي للكوكب إلى الأسفل مباشرة. إنها تلك النقطة التي تتحرك، كما يفعل نظيرها في الطرف الآخر من الكوكب؛ فالقطب الجنوبي المغناطيسي لا يوجد في وسط القارة المتجمدة الجنوبية (أنتاركتيكا) كما قد تتوقع بل أمام شاطئ منطقة تدعى أرض فيكتوريا Victoria Land.
وطوال قرون كانت آلية توليد مجال الأرض المغناطيسي وعمله سرّاً أثار اهتمام المفكرين بدءاً من رينيه ديكارت René Descartes إلى إدموند هالي Edmond Halley. وحتى آينشتاين Einstein ذاته اعتبر ذات مرة أن مصدر هذا المجال هو إحدى أكبر المشكلات غير المحلولة في علوم الفيزياء. وحاول تجربة الفكرة التي تقول إن هذا المجال هو، بشكل ما، نتيجة عدم تطابق بين الشحنات على جسيمين: الإلكترون، والبروتون. ولكن الفكرة التي انتصرت كانت تلك التي اقترحها أول مرة الفيزيائي الإيرلندي جوزف لارمور Joseph Larmor قبل 100 سنة. فقد اقترح لارمور أن المجال المغناطيسي كان نتيجة وجود سائل ناقل كهربائيّاً يضطرب في مركز الأرض ـــ أي مولد كهربائي أرضي Geodynamo.
لدينا أسباب كثيرة تدعونا إلى الاعتقاد أن لارمور كان محقّاً. فنحن نعرف من موجات الصوت الارتدادية عبر كوكبنا أن له لبّاً (نواة) معدنيّاً مكوناً من جزأين: لب داخلي، أكثر حرارة بقليل من سطح الشمس، بدرجة تبلغ 6000 درجة سيليزية، لكنه يظل صلباً بسبب الضغط الهائل عليه. وهناك لبُّ خارجيٌّ يتكون من حديد مصهور، وهو أكبر حجماً من قمرنا بنحو سبعة أضعاف.
الفارق في درجة الحرارة بين الأطراف الخارجية والداخلية للنواة الخارجية يعني أن السائل يتدفق باستمرار مُولِّداً تيارات حمل حراري Convection currents. فيصعد الحديد السائل (المصهور) الحار نحو السطح الخارجي للب الخارجي، ثم يبرد، ويصير فأكثر كثافة، فيهبط ثانية. والمعدن مشحون جدّاً بالإلكترونات، وهذا الدفق المتحرك من الشحنات الكهربائية يولد مجالاً مغناطيساً.
ولو أن حركة السائل كانت تعتمد على آلية الحمل الحراري وحدها؛ لكان ممكناً للمجال المغناطيسي الأرضي أن يتخذ شكلاً بسيطاً نسبيّاً. ولكن دوران الأرض محوريّاً يدفع السائل ليدور باتجاه مختلف، وبقوة Force تعتمد على مكان وجود هذا السائل في الكوكب. يأتي دور اللزوجة Viscosity المتغيرة للمعدن السائل بسبب اختلاف الكثافات على مسافات مختلفة من اللب الداخلي. وكل هذا يقود إلى نمط معقد من تدفقات مضطربة في اللب الخارجي؛ مما يخلق تشابكاً في خطوط المجال المغناطيسي.
باعتبار ذلك كله، قد يبدو مثيراً للدهشة أن القطب الشمالي المغناطيسي لا يتحرك بصورة أكثر جموحاً. ولكن التدفقات تجري بسرعة بطيئة. يقول غاري غلاتسمير Gary Glatzmaier من جامعة كاليفورنيا University of California في سانتا كروز: «عندما نقول إن التدفق مضطرب، فنحن نعني أن هذا يحدث على مقياس زمني يمتد عبر عشرات الآلاف من السنين».
«طوال الـ 18 سنة الماضية، كان القطب الشمالي يتجه بسرعة نحو الشرق،
وهو حاليّاً يتحرك باتجاه سيبيريا»
يمكن تفسير تجول القطبين من خلال اضطراب الحركة البطيئة هذه. لكن من غير الواضح ما سيحدث بعد ذلك. هل يستمر القطب الشمالي بالتحرك؟ وإلى أي مدى؟ هل يوشك على انقلاب كلي؟ هذه أسئلة تستحق أن تُطرح. فنحن نعلم أن المجال المغناطيسي للأرض، قبل كل شيء، يعكس الجسيمات المشحونة القادمة من الرياح الشمسية بعيداً عنّا، التي كانت ستنهمر على أرضنا لولاه. لا أحد يتوقع حدوث خطب كبير بسرعة. ولكن إذا حدث ذلك؛ فسيكون الثمن باهظاً.
وإحدى طرق معرفة مستقبل المجال المغناطيسي هي النظر في ماضيه. عندما يسخن تشكيل صخري مغناطيسي مثل الفلسبار Feldspar ثم يبرد ثانية، تنتظم البلورات فيه بتوافق مع المجال المغناطيسي السائد في ذلك الوقت. يقول جون تاردونو John Tarduno، من جامعة روشستر University of Rochester في نيويورك: «هناك بلورات معينة تحتوي على بقايا مغناطيسية، وهي تمثل بذلك سجلات ممتازة لتاريخ المجال المغناطيسي». وقراءة هذه البلورات تقدم لنا سجلاً لما حدث في المجال المغناطيسي قبل ملايين كثيرة من السنين.
إنه سجل حافل حقّاً، إذ يظهر أن المجال المغناطيسي الأرضي ضعف عبر تاريخه، ثم ازداد قوة، بل وانقلب تماماً في بعض الأحيان. ونحن نعلم بحدوث 183 عملية انقلاب قطبي حدثت في الـ 83 مليون سنة الماضية، آخرها حدث قبل 780 ألف سنة. وقد حلل تاردونو وزملاؤه صخوراً مغناطيسية عمرها 565 مليون سنة جُمعت من مناطق في كيبيك بكندا، ووجدوا أن المجال المغناطيسي حينها كان أضعف بقدر عشرة أضعاف تقريباً منه اليوم؛ وهذه أضعف شدة قيست له. وفي ذلك الحين شهدت الأرض حقبة امتدت 75 ألف سنة كان المجال المغناطيسي فيها في حالة اضطراب شديد، ويغير اتجاهه بسرعة، وتضعف قوته ثم تزداد.
وهذا لا يؤكد فقط أن مجال الأرض المغناطيسي كان يتغير طوال الدهور الجيولوجية بل يكشف أيضاً ما هو أكثر عن باكورة تاريخ الأرض. يقول تاردونو: «يبدو الأمر وكأن المجال المغناطيسي كان على حافة الانهيار». ولو حصل ذلك؛ لكان من المستبعد تماماً أن تنشأ الحياة المعقدة على الأرض؛ فمن دون مجال مغناطيسي، سنخسر غلافنا الجوي تماماً بفعل الرياح الشمسية، وسيقصف الإشعاع الشديد جميع الأنواع الحية. إذاً، ما الذي حال دون وقوع هذه الكارثة؟ بحسب تفسير تاردونو للسجلات المغناطيسية، فقد كان السبب هو تشكل اللب الداخلي الصلب للأرض.
عند تلك اللحظة، يبدو كأن اللب الكامل للكوكب كان منصهرا، لكنه بدأ يبرد بدرجة كبيرة. وهذا كان سيبطئ من سرعة تيارات الحمل الحراري، ليُضعِف المجال المغناطيسي مبدئيّاً. ولكن هذا سيسمح أيضاً للجزء الأعمق من اللب بأن يبدأ بالتبلور. وستقذف العناصر الأخف مثل السيليكون والأكسجين من اللب الصلب إلى اللب الخارجي الجديد؛ مما يجعل الأجزاء الأعمق أقل كثافة، ويضيف قوة جديدة إلى تيارات الحمل الحراري، ويقول تاردونو: «نعتقد أنه عندما بدأ اللب الداخلي بالتشكل، فقد وفّر مصدر طاقة جديداً للمجال المغناطيسي».
كشفت دراساته أيضاً قطاعاً من سطح الأرض يمتد من زيمبابوي إلى تشيلي، حيث المجال المغناطيسي ضعيف جدّاً اليوم. وفي الواقع ضعيف لدرجة أن الأقمار الاصطناعية التي تعبر في مداراتها فوقه تكون بحاجة إلى حماية. فمن غير وجود درع طبيعية من المجال المغناطيسي، تتعرض أجهزتها الإلكترونية لخطر الاحتراق بفعل الرياح الشمسية. واكتشف تاردونو وزملاؤه أنه عند مكان معين في هذا القطاع أسفل إفريقيا الجنوبية، عند نقطة الحدود بين طبقة الوشاح Mantle واللب، يكون المجال في الواقع معكوساً، والبوصلة هناك تشير نحو الجنوب، يقول تاردونو: «هذا أمر مذهل».
ولاحظ تاردونو وزملاؤه مثل هذه الشذوذات في جميع أنواع الأماكن من أزمنة قديمة بل إنهم بدؤوا برصد آلية تحركها، ويقول تاردونو: «لقد وصلنا إلى نقطة نستطيع معها تعقب بعض هذه الشذوذات في تدفقات اللب». بل إنهم يستطيعون رؤية الكيفية التي تطورت بها أحياناً إلى انقلابات كاملة. ويقول تاردونو: «في بعض المرات تنمو هذه الاختلافات بقدر كبير إلى درجة أن المجال كله تنقلب قطبيته فجأة». وهذا ما يطرح السؤال التالي: هل تشير هذه التحركات الخفية عند القطب الشمالي إلى حدوث انقلاب وشيك؟
هذا هو أحد الأمور التي يحاول غلاتسمير ورفاقه اكتشافها. ولفعل هذا، عليهم أن يمضوا إلى أبعد من عمليات قياس السجلات التاريخية القديمة. وعليهم أن يُعدّوا نمذجات حاسوبية للمجال المغناطيسي يمكنها التنبؤ بما سيفعل هذا المجال تاليّاً. وعلى سبيل المثال، بدءاً من القوانين الأساسية في الفيزياء التي تطبق على سائل موصل ومتحرك، يمكنهم إنتاج «ثنائية قطبية» Dipole: شكل من أشكال المجال المغناطيسي له قطبان متعاكسان. وعندما يجرون نمذجاتهم الجديدة، فإنهم يرون تباينات في شدة المجال مع مرور الزمن وتغير المكان. وهم يرون أيضاً قطبين يتجولان، بل حتى انقلابات عرضية. إنها كلها تطابق ما نراه في العالم الحقيقي. بل إن إحدى نمذجات المحاكاة هذه استطاعت في شهر إبريل 2019 إعادة إنتاج سلوك يقلد «الهزّات المغناطيسية الأرضية» Geomagnetic jerks السريعة التي تَعرَّض لها القطب الشمالي على فترات متقطعة أثناء رحلته شرقاً.
«عندما يتعلق الأمر بنمذجات فيزيائية تحاكي لبّ الأرض،
لا يوجد ما هو أفضل من كرة من الصوديوم السائل قطرها ثلاثة أمتار»
ومهما بلغت روعة نمذجات المحاكاة هذه، فهي لا تنصف المجال المغناطيسي الحقيقي، ويقول أيضاً: «إن نمذجاتنا الحاسوبية معقدة، لكنها ليست بدرجة تعقيد المجال الواقعي هناك في الأسفل». فلا أحد لديه طاقة حاسوبية كافية لنمذجة المجال المغناطيسي بواقعية. ويقول أيضاً: «تلتوي بنية التدفق المجال المغناطيسي القائم وتمزقه وتولد مجالاً مغناطيسيّاً أكبر في أثناء ذلك. نحن مضطرون إلى استخدام نمذجة تقريبية لذلك وبدائية جدّاً».
كما تغدو الأمور أكثر تعقيداً إذا ما رغبت بتوقع اتجاه حركة المجال المغناطيسي في أي منطقة معينة على السطح. ونمذجات المولد الكهربائي الأرضي Geodynamo لن تحقق ذلك بنجاح كامل؛ لأن مناطق الصخور المغناطيسية المركزة قد تتداخل مع المجال المغناطيسي المحلي، فتُحدِث انحرافات تبتعد فيها خطوط المجال عن خطوط الشمال ــ الجنوب العمودية. ولذلك لا تشير البوصلة إلى اتجاه الشمال مباشرة في مناطق من كاليفورنيا وأماكن أخرى عديدة.
ربما نحن بحاجة إلى نمذجة أكثر واقعية – نموذج فعلي بدلاً من النمذجات الرقمية. ومع انطلاق النمذجات الفعلية لمحاكاة ما يحصل في الأرض، فلا يوجد شيء أكثر مدعاة إلى الإعجاب من كرة الصوديوم السائل تلك التي يبحث فيها دانييل لاثروب Daniel Lathrop في جامعة ميريلاند University of Maryland.
تعامل بعناية
كما سيخبرك أي مدرس كيمياء، فالصوديوم هو معدن يصعب التعامل معه، حتى بكميات صغيرة منه. فهو يشتعل عندما يكون رطباً، وأحياناً تلقائيّاً في جو مشبع بالرطوبة، ولذلك فهو عادة ما يحفظ بأمان في خزانة المواد الكيميائية في المدرسة.
لكن لاثروب لا يتعامل مع كميات صغيرة منها. فهو يحرك كرة صوديوم -قطرها ثلاثة أمتار، مُغلَّفة بفولاذ لا يصدأ- حركة دورانية حول محورها. ويزن النموذج بكامله نحو 20 طنّاً، وفي مركزه يوجد لبّ معدني صلب بقطر متر واحد، يمكن تدويره بمفرده 15 دورة في الثانية. كما وزعت مصفوفة من 31 مقياساً مغناطيسيّاً Magentometers حول السطح الخارجي لتقيس المجال المتولّد. ولأن نموذج اللب أصغر كثيراً من لب الأرض، فإن فريق جامعة ميريلاند يعوض عن ذلك الفرق بمعدن موصليته أفضل من الحديد وبسرعة دوران أعلى: فالكرة تدور أربع مرات في الثانية عندما تُدفع إلى سرعتها القصوى.
وبذلك أظهر لاثروب وفريقه أن التدفق المضطرب لمعدن سائل سيضخّم مجالاً مغناطيسيّاً ويحافظ عليه، وبيّن أن فرضية لارمور عن المولد الكهربائي الأرضي تتوافق مع الحقائق فعلاً. ومع ذلك، فهم لم يستطيعوا حتى الآن توليد مجال مغناطيسي يظهر تلقائيّاً على غرار ما يفترض أن الأرض أنتجته. وبدلاً من ذلك، فهم يطبقون مجالاً ضئيلاً جدّاً، يجري تضخيمه بصوديوم شبه سائل. وتبدو دراستهم واعدة، لكنها محبطة: لا يمكننا إظهار أن المجال المغناطيسي للأرض ينشأ عن مجرد حركة سائل موصل، ومن دون أن نكون واثقين من صلاحية النموذج، كما لا نستطيع استخدام الكرة للتنبؤ بأوقات انقلابات المجال.
ربما تفتقد تجربة لاثروب إلى مكوّن أساسي: فقد وجد الفريق تدفقاً ضعيفاً في المعدن، يبدو أن سببه حركة بِدارية (ثلاثية المحاوِر) Precession. وهذه الحركة هي نوع من دوران محوري إضافي، يشبه ما يحدث عندما ندفع بلطف مغزلًا يدور حول ذاته ليدور أيضاً بحركة بطيئة حول المحور الرأسي إضافة إلى دورانه حول محوره. وبالتأكيد، فإن لب الأرض هو عرضة لهذا نظراً لتعرضه لقوة جذب القمر أثناء دوران الأرض حول الشمس. ولكن إعدادات تجربة لاثروب لا تحتوي على آلية واضحة لإحداث حركة بِدارية. إذ يبدو أن التدفقات الضعيفة التي رآها لاثروب تنتج من الطريقة تدور بها الأرض نفسها في تجربته.
ربما نتعلم المزيد من مشروع جديد ومُطوَّر قيد الإنشاء في مدينة دريسدن بألمانيا. ففي العام الماضي (2018) تمكن الباحثون في مختبر مركز هلمهولتز دريسدن روسندورف Helmholtz-Zentrum Dresden-Rossendorf (اختصارًا: المركز HZDR) من حساب أنّ جعل الصوديوم يدور على محورين يجب أن يُطلق المجال المغناطيسي تلقائيّاً. كما حاكت حساباتهم الطريقةَ التي تتحرك بها الأرض حركة بِدارية بميل قدره 23.5° درجة عن المحور الرأسي لمستوى مدارها.
والتنفيذ العملي لهذه الفكرة صعب على ذوي القلوب الرهيفة. وسيتضمن أسطوانة مملوءة بثمانية أطنان من الصوديوم السائل، وستدور بسرعة عشر مرات في الثانية على طول محورها الطويل، ومرة واحدة في الثانية على محور مختلف قليلاً. ويأتي بالطبع عامل السلامة في المقام الأول. ويقول آندريه جيسيكه André Giesecke، من المركز HZDR: «لدينا مبنى مكرس لتجارب الصوديوم السائل، وهناك مبنى ثانٍ ضمن المبنى الأول لاحتوائه. ولا يوجد أحد في المبنى أثناء تنفيذ التجارب».
وتستحق هذه الدراسات المذهلة ما يبذل لها من جهد، إذ يمكن لفهم أفضل لمجال الأرض المغناطيسي أن يساعد على تجنب خطر أكبر بكثير: إذا استطعنا فهم الكيفية التي يتغير بها مجالنا المغناطيسي؛ فسنستطيع فعل المزيد لحماية شبكاتنا الكهربائية من الرياح الشمسية الشديدة التي قد تشق طريقها عبر مجال مغناطيسي ضعيف؛ أو أن نمنع احتمال إصابة البشر بالضرر بفعل الأشعة الكونية. أما في الحالة المتطرفة؛ فقد نخسر مجال الأرض المغناطيسي كاملاً، كما حدث لكوكب المريخ قبل نحو أربعة بلايين سنة. وسيضعف هذا من قبضة الأرض على غلافها الجوي، ويجعل كوكبنا في النهاية غير قابل للحياة كما هي حال الكوكب الأحمر. قد يكون مجالنا المغناطيسي هشّاً، وربما تتجول أقطابه هنا وهناك. لذا دعونا لا نعتبر أنّ ديمومةَ سلامة درعنا المغناطيسية أمرٌ مُسلَّمٌ به.
© Copyright New Scientist Ltd.