رسم على جدران كهف قد يكشف عن الأصل القديم للعقل الحديث
صيادون نصف بشر ونصف حيوانات في مشهد أسطوري يدلل على الخيال المتقدم للفنانين الأوائل في إندونيسيا
بقلم: مايكل برايس
ترجمة: صفاء كنج
قبل نحو 44 ألف سنة، تسلق رسام حافة كهف في جزيرة إندونيسية وبيده فرشاة مغموسة بالألوان ليرسم مشهداً حيوياً ربما استلهمه من رؤى وتجليات. يصور المشهد صيادين صغاراً برؤوس حيوانات مسلحين برماح يحاصرون خنازير برية هائلة وجواميس صغيرة. في دراسة جديدة، يجادل الباحثون في أن سرد المشهد البصري – الذي يزعمون أنه يمثل أقدم الفنون التصويرية المعروفة التي صنعها بشر معاصرون – يدل على أن البشر كان لديهم في الوقت الذي رُسمت فيه هذه الرسوم على جدران الكهوف، وربما في وقت أبكر بكثير، بالفعل خيال يشبه إلى حد كبير خيالنا.
يقول مؤلف الدراسة الرئيسي مكسيم أوبيرت Maxime Aubert، عالم الآثار من جامعة غريفيث Griffith University في ناثان بأستراليا: “نفكر في قدرة البشر على تركيب قصة، مشهد روائي، كواحدة من الخطوات الأخيرة للإدراك البشري … هذا أقدم فن على الصخر في العالم وجميع الجوانب الرئيسية للإدراك الحديث ماثلة هنا”.
أمضى أوبيرت وزملاؤه السنوات الخمس الماضية في استكشاف العشرات من الكهوف في جزيرة سولاويزي الإندونيسية، حيث عاينوا مئات من طبعات صور الأيدي Hand sten-cils والرسوم على جدران الكهوف وأقلام التلوين بالصباغ الأحمر والتماثيل الصغيرة المنحوتة. وتشير البيانات الأثرية إلى أن الفنانين أتوا مع موجة مبكرة من البشر المعاصرين قبل نحو 50 ألف عام. (يتحدر السُولاويزيون Sulawesians المعاصرون من موجات متتالية من السكان الأستراليين-الآسيويين Australasian التي بدأت بالوصول إلى المنطقة بعد ذلك بوقت طويل، قبل ما بين 3,500 و4,000 سنة).
في عام 2017، لاحظ المؤلف المشارك في الدراسة عالم الآثار وخبير الكهوف الإندونيسي باك حمرالله Pak Hamrullah، فتحة صغيرة في سقف كهف من الحجر الجيري استُكشف سابقًا. تسلق أحد أغصان شجرة التين ووصل إلى مغارة صغيرة رُسمت على جدارها البعيد لوحة بصبغ حجر المغرة الأحمر Red ochre. وقد ذُهِل أوبيرت عندما رأى ذلك.
يقول أوبيرت: ” قلت في نفسي: آه، إنه أشبه بمشهد كامل … كان هناك بشر، أو ربما نصف بشر ونصف حيوانات تصطاد هذه الحيوانات أو تأسرها … كان الأمر ببساطة مذهلاً”.
يبدو أن حيوانات الصيد في الرسم هي الخنزير السولاويزي Sulawesi warty pig وعجل صغير ذو قرنين يُسمى أنُوَا Anoa، أو جاموس قزم، وكلاهما لا يزال يعيش على الجزيرة. ولكن ما أسَر أوبيرت هي سمات الصيادين الثمانية المسلحين بالرماح أو الحبال وهي شبيهة بسمات الحيوانات. إذ بدا أن لدى العديد منهم بوزاً طويلاً أو خطماً وأن لدى أحدهم ذيلًا، في حين كان لآخر فم يشبه منقار الطير.
قد تكون السمات صورة لأقنعة أو نوعاً آخر من التمويه، لكن الباحثين يجادلون في أن التنكر على شكل حيوانات صغيرة سيكون تمويهًا سيئًا للصيادين، وأن الوجوه ربما تمثل كائنات أسطورية حيوانية – بشرية هجينة، كما يقول أوبيرت. مثل هذه السمات الهجينة ظهرت في عدة حالات في الأعمال الفنية المبكرة، بما في ذلك تمثال عاجي عمره 35 ألف سنة لرجل أسد عثر عليه في جبال الألب الألمانية.
حتى يتمكن من معرفة عمر لوحة كهف سولاويزي، انتزع أوبيرت بعناية قطعاً صغيرة بعرض سنتيمتر واحد من جدار الكهف الملون، متجنباً الرسوم ومحاولاً إلحاق أقل قدر ممكن من الضرر، وأحضر القطع إلى مختبره. على مر السنين، ومع تسرب مياه الأمطار عبر مسام حجر الكهف الجيري على الجدران، تركت رواسب معدنية صغيرة تسمى فشار الكهوفCave popcorn ، فوق الطلاء. يحتوي الفشار على كميات ضئيلة من اليورانيوم تتحلل بمرور الوقت إلى الثوريوم Thorium بمعدل ثابت. من خلال تحليل نسبة اليورانيوم إلى الثوريوم في الطبقة المعدنية الموجودة مباشرة فوق الصباغ، حسب الباحثون الحد الأدنى لسن اللوحة: 44 ألف عام، وكتبوا عن الأمر في الأسبوع الثاني من ديسمبر 2019 في مجلة نيْتشر العلمية Nature.
هذا التاريخ يجعل رسمة الكهف أقدم بأربعة آلاف عام على الأقل من اللوحات القديمة الأخرى المرسومة على الحجر والتي عُثر عليها في إندونيسيا وأوروبا، ونحو 20 ألف سنة أكبر من أقدم مشاهد الصيد في أوروبا. في عام 2018، أعاد العلماء عمر بعض الرسوم مثل الأقراص والتصاميم المجردة من كهوف في إسبانيا إلى 65 ألف سنة مضت، ولكنهم عزوها إلى إنسان نياندرتال وشكك بعض العلماء بدقة تأريخها.
يقول أوبيرت إن القدرة على تخيل كائنات لا وجود لها تشكل معلماً إدراكياً حاسماً وأساساً للديانات والمعتقدات الروحية. إن رؤية هذه القدرة تتجلى بالكامل قبل 44 ألف عام في سولاويزي تشير إلى أنها ربما كانت موجودة بالفعل لدى أوائل البشر المعاصرين الذين غادروا إفريقيا وانتشروا في سائر أنحاء العالم.
يقول نيكولاس كونارد Nicholas Conard، عالم الآثار من جامعة تيوبينغن Tübingen في ألمانيا وغير المشارك في العمل، إن هذا السيناريو منطقي بالنظر إلى أن كل مجتمع بشري حديث له تقاليده الإبداعية والأسطورية، و”هذه الصور تؤكد على أنّ رواية القصص والحكايات ممعنة في القِدَم”. ويضيف: “من المشجع أن نجد دليلًا ملموسًا للتصوير السردي في هذا التاريخ المبكر”.
وتضيف إيْبريل نويل April Nowell، عالمة الآثار من جامعة فيكتوريا University of Victoria في كندا، إن النتائج يجب أن تساعد أيضًا على تبديد الفكرة الخطأ التي عفا عليها الزمن والمتمثلة في أن الإنسانية ارتقت إلى الحداثة تماماً في أوروبا أولاً. “لقد عرفنا منذ فترة طويلة أن هذا الرأي لم يعد ينطبق، ولا يزال ثراء [هذا الاستنتاج وغيره من النتائج الحديثة] يؤكد … أهمية السجلات القديمة خارج أوروبا”.
© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved.