الحمض النووي المستخرج من بحيرات القطب الشمالي يتقفى آثار المناخ في الماضي
تحولات النباتات القديمة توفر أدلة على تأثيرات الاحترار المناخي في المستقبل
بقلم: بول فوسن
في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا
ترجمة: صفاء كنج
يقبع في الجزء العلوي من القطب الشمالي الكندي في جزيرة بافن Baffin Island، تحت عشرة أمتار من المياه وأكثر من ذلك من الطين، أرشيف مبرَّد لما كانت عليه الحياة على الأرض في سالف الزمن. والرواسب العميقة في بحيرة صغيرة تدعى CF8 تحتوي على حبوب اللقاح القديمة وأحافير النباتات. ولكن يبدو الآن أن الطين يخبئ شيئًا آخر: الحمض النووي DNA القديم الذي يعود إلى عصر إيميان Eemian بين الجليدي الذي ساد قبل 125,000 عام عندما كان القطب الشمالي أكثر دفئًا مما هو عليه في الوقت الحالي، والذي خلفته نباتات كانت ستختفي لولا ذلك دون أن تترك أثراً.
وتقول سارة كرومب Sarah Crump، عالمة المناخ القديم Paleoclimatologist من جامعة كولورادو University of Colorado في بولدر، التي عرضت عملها في سان فرانسيسكو في الأسبوع الثاني من ديسمبر 2019 خلال الاجتماع السنوي للاتحاد الجيوفيزيائي الأمريكي American Geophysical Union: “نشعر بالثقة بأننا نحصل على نتائج جديرة بالتصديق”. وتقر كرومب بأن النتيجة تحتاج إلى تأكيد. ولكن إذا ثبتت صحتها، فقد تفتح نافذة على النظم الإيكولوجية التي ازدهرت في منطقة أعالي القطب الشمالي في وقت كانت فيه درجات الحرارة أكثر ارتفاعًا ببضع درجات عما هي عليه حاليا. كما أن من شأن ذلك أن يشهد على قوة الحمض النووي الرسوبي Sedimentary DNA، كما يُصطلح على تسميته، في إظهار الكيفية التي استجابت بها النباتات القطبية الشمالية Arctic plants للتحولات المناخية قديماً – الأمر الذي قد يلمح إلى الكيفية التي ستستجيب بها لذلك في المستقبل. وتقول أولريكه هيرتسشو Ulrike Herzschuh، عالِمة الإيكولوجيا القديمة Paleoecologist من معهد ألفريد فيغنر في بوتسدام Alfred Wegener Institute بألمانيا، التي تستخدم هذه التقنية لدراسة الكيفية التي تتفاعل بها غابات الأرز الصنوبرية في سيبيريا بروسيا بعد نهاية العصر الجليدي الأخير قبل نحو 12,000 سنة: ” نرى حالياً أن لدينا أدلة مفيدة حقًا لإعادة رسم خريطة التنوع البيولوجي”.
وعلى الرغم من أن البحث عن أجزاء من الحمض النووي DNA المحفوظ في الرواسب بدأ قبل عقدين من الزمن، فإنه تسارع في السنوات القليلة الماضية مع انخفاض تكلفة التسلسل الجيني Genetic sequencing. ونظرًا لأن درجات الحرارة الباردة تساعد على الحفاظ على الحمض النووي DNA، فإن المنطقة القطبية الشمالية كانت أرضًا لصيد العينات بامتياز، فجذبت علماء الجينات وعلماء الجيولوجيا لاستخراج عينات من التربة دائمة التجمد )الصقيعيةPermafrost ( وتربة الكهوف وغيرها من البيئات، بحثًا عن أدلة جزيئية على حيوانات العصر الجليدي العملاقة التي عاشت فيها (Science, 24 July 2015, p. 367).
وفي الآونة الأخيرة، صارت بحيرات القطب الشمالي تعد مخزناً رئيسياً لمحفوظات الحمض النووي القديم الرسوبي، لأنها تجمع أدلة على النظم الإيكولوجية بكاملها. فالأوراق والأزهار والروث، أو جزء ما من كل كائن حي يعيش حول بحيرة ينتهي في الماء. ويقول بيتر هاينزمان Peter Heintzman، عالم الأحياء الجزيئية من جامعة القطب الشمالي النرويجية Arctic University of Norway (اختصاراً: الجامعة UiT) في ترومسوه: “لديك مزيج معقد جدا من الحمض النووي DNA هناك”. يخرج الحمض النووي من خلاياه بالتحلل، ثم يعلق على الحبوب المعدنية أو المركبات العضوية التي توفر له الحماية من الأشعة فوق البنفسجية والأكسدة. تبقى درجات الحرارة في قاع البحيرة بالكاد فوق درجة التجمد، مما يحافظ على استقرار الحمض النووي DNA. وسنة بعد أخرى، تتواصل عملية تراكم الرواسب التي تسمح طبقاتها بالحصول على تأريخ واضح لترسب الحمض النووي DNA.
دأب العلماء على استخدام حبوب اللقاح من العينات اللبية Cores المأخوذة من قاع البحيرات لدراسة المجتمعات النباتية الغابرة. لكن معظم النباتات في المنطقة القطبية الشمالية تساعد الحشرات على تلقيحها وليس الرياح، وينتهي الأمر بغبار الطلع في التربة – وما يوجد على التربة ربما ذرّته الرياح من مسافة بعيدة. ومن ثم فإن الحمض النووي DNA في رواسب البحيرة يحمل صورة أدق عن النباتات والحياة البرية حولها. على سبيل المثال، في دراسة نشرت في شهر نوفمبر 2019 في مجلة التغيرالبيولوجي العالمي Global Change Biology، استخدمت كرومب وباحثون آخرون الحمض النووي DNA القديم لإظهار أنه، بعد ارتفاع درجة حرارة الكوكب إثر العصر الجليدي الأخير، وصلت أشجار البتولا القزمة Dwarf birch إلى جزيرة بافين بعد نحو 2000 عام من التاريخ الذي خلص إليه الباحثون من دراسة حبوب اللقاح. وتقول كرومب: “سجلات حبوب اللقاح منحازة بعض الشيء، مما يدفعنا إلى الاعتقاد أن الهجرة كانت سريعة في حين أنها كانت في الواقع أبطأ وتعيقها حواجز الهجرة”.
ليس من السهل استخراج الحمض النووي DNA، وعلى العلماء أن يتوخوا الحرص لدى جمع كل عينة – وهي عادة غرام واحد من الطين – دون تلويثها بالحمض النووي DNA الحديث. ومن ثم في مختبر خال من الملوثات، يجب استخراج الحمض النووي DNA خلال عملية مُضنية من التجربة والخطأ. وتقول بيث شابيرو Beth Shapiro، عالمة الأحياء التطورية من جامعة كاليفورنيا University of California بسانتا كروز: “ليست هناك طريقة أكثر فعالية لسحب هذه الأشياء”. ويبدو أن التربة الغنية بالمواد العضوية تطرح إشكالية خاصة؛ فهي ممتلئة بجزيئات مثل الحمض الدِبالي Humic acid، الذي يتصرف مثل الحمض النووي DNA وقد يفسد جهود السلسلة الجينية اللاحقة.
لتحديد الأنواع النباتية في خليط الحمض النووي DNA الناتج – ومعظمه يأتي من الميكروبات – يلجأ الباحثون في أكثر الأحيان إلى السَلْسَلة الشريطية الوصفية Metabarcoding، وهي تقنية تستهدف وتضخّم قسمًا من الحمض النووي DNA الشائع تقريباً في النباتات، لكن المحصور بين أقسام مُميِّزة للأنواع Species. يلجأ باحثون آخرون ببساطة إلى سَلسلة كل الحمض النووي DNA الموجود في عينة ما ومن ثم غربلة النتائج بحثاً عن المادة الجينية الثمينة، أو يستخدمون مسابير جينية يمكنها التقاط السلاسل القصيرة من الحمض النووي DNA النباتي. لكن قواعد البيانات الحالية لمتتاليات النباتات لا توفر على الدوام مصدراً موثوقاً به بدرجة كافية لتحديد الأنواع الموجودة في عينة الرواسب. وتقول إنغر ألسوس Inger Alsos، عالمة النباتات القديمة Paleobotanist من الجامعة UiT: “كان بين البيانات التي حُمِّلت الكثير من المتتاليات الخطأ”.
للتغلب على هذه المشكلة، انتهت ألسوس وزملاؤها تقريبًا من إنشاء مكتبة مرجعية كاملة لجينوم نباتات القطب الشمالي أسموه فيلونورواي PhyloNorway، يحتوي على نحو 2,000 نوع. (يصف جهد مماثل لنباتات جبال الألب 4,000 نوع). وبالاستعانة بقواعد البيانات المحسّنة هذه، تأخذ ألسوس ومعاونوها عينات من أكثر من 30 بحيرة في شمال النرويج وجبال الألب، لدراسة الكيفية التي انتشرت بها الشجيرات عبر مساحات التندرا القديمة مع انحسار العصر الجليدي الأخير. وسيفحص مشروع أوروبي آخر، يسمى النظم الإيكولوجية المستقبلية القطبية الشمالية Future Arctic Ecosystems، عشرات العينات اللبية المستخرجة من البحيرات في القارات المحيطة بالقطب الشمالي، ودراسة الأدوار المزدوجة التي يؤديها المناخ والحيوانات العاشبة Herbivores الكبيرة مثل الماموث، في تشكيل مجموعات النباتات السابقة. ويتولى باحثون آخرون أخذ عينات من البحيرات في جنوب شرق التيبت في الصين أو مقاطعات ولاية وايومنغ الأمريكية – أي في أي مكان بارد أمكن للحمض النووي DNA البقاء سليما فيه.
تتحدى النتائج المبكرة الفكرة البسيطة التي مفادها أن تغير المناخ يؤدي إلى تغيرات بالجملة في الأنواع النباتية. وتقول هرتسشو: “هذا في أغلب الأحيان غير ذي معنى”. وقد نأخذ على سبيل المثال غابات الصنوبر السيبيرية التي تدرسها، إذ وجدت أن بعض أنواع الصنوبر لم تنتقل باتجاه الشمال مع ارتفاع حرارة الكوكب بعد العصر الجليدي الأخير، على الرغم من تفضيل هذه الأشجار مناخاً أكثر برودة. وتقترح، بدلاً من ذلك، أن الاحترار سمح للغابة بأن تتكثَّف، فكان ذلك مؤاتياً للصنوبر المحب للبرد. تدرس ألسوس عينة لبية من بحيرة بولشوي شتشوتشي Bolshoye Shchuchye، في الطرف الشمالي لجبال الأورال الروسية تروي قصة ذات صلة. ويقترح الحمض النووي DNA أن نباتات أطول غزت المنطقة مع ارتفاع درجة حرارتها: الشجيرات الصغيرة في البداية ثم الأشجار. لكن أزهار القطب الشمالي استمرت، ربما عبر الانسحاب إلى مناطق أكثر ارتفاعاً.
ومع ذلك، فقد يؤدي ارتفاع درجة حرارة المناخ في المستقبل إلى إزاحة أو استئصال هذه المعاقل. وللحصول على أدلة على مصير النظم الإيكولوجية في عالم أكثر دفئًا، يرغب الباحثون في العثور على سجلات أخرى للحمض النووي القديم تمتد إلى عصر إيميان. وتبدو هرتسشو متفائلة: إذ يعود أقدم سجل سيبيري لديها حتى الوقت الحالي إلى 70 ألف سنة، والحمض النووي في القاع في حالة حفظ جيدة كما هي حاله على السطح. وتقول: “لا نرى إشارة تحلل واضحة في مكان ما”.
وفيما تمن علينا البحيرات بسجلات أقدم، تقول هرتسشو إن المجال لا يتجه نحو دراسة التغيرات في التنوع النباتي ووفرته فحسب، ولكن أيضًا الكيفية التي تتكيف بها الأنواع الفردية مع تغير المناخ. وتضيف قائلة: “لسنا بعيدين عن تتبع التطور عبر الزمن”.
© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved.