ما هو الكوارك؟ ولماذا ربما لا تكون أكثر لبنات بناء المادة الأساسية موجودة؟
الكواركات جسيمات تحت ذرية يُعتقد أنها تؤلف كل شيء يُمكننا رؤيته تقريباً. واتضح حديثا أنها قد تكون وهماً نتج من خدعة كمّيّة.
بقلم: جوشوا هوغيغو
ترجمة: همام بيطار
تحظى رواية يقظة فينينغان FINNEGANS WAKE بسمعة خاصة كونها واحدة من أصعب الروايات في اللغة الإنجليزية. مزجت هذه الرواية، التي استغرق جيمس جويس James Joyce 17 عاماً في كتابتها، بين كلمات مخترعة وعبارات حقيقية متحدية بذلك قواعد اللغة. وينتهي السطر الأخير من هذه الرواية في منتصف الجملة، لتدرك أنّ الكلمات التي يجب أن تأتي بعدها هي تلك الموجودة في بداية الكتاب. ويقول البعض إنها محاولة من جويس لإعادة توليد حلم، في حين يدعي آخرون أنه لا معنى لها على الإطلاق.
قد يبدو من الغريب حينها أن تُستخدم كلمة بلا معنى من هذا الكتاب العصي على الفهم لتُطلق على أحد الجسيماتParticles التي تُعتبر إحدى لبنات بناء الواقع: الكوارك Quark. والكوارك، وفقاً للفيزياء الحديثة، هو ما ستراه إذا أخذت قطعة من مادة ما وواصلت تقطيعها إلى نصفين مراراً وتكراراً حتى تبلغ حدًا لن تستطيع معه مواصلة التقطيع.
الكواركات Quarks أساسية كأي شيء آخر. لكنها غريبة جداً. فلهذه الجسيمات خصائص كمية غريبة تُعرف بالنكهة Flavour والدوران المغزلي (عزم اللف الذاتي) Spin. وهذه الجسيمات تتوق لأن تكون معاً، فتتجمع في أزواج Pairs أو مجموعات ثلاثية Triplets. كما أن لها نوعا من الشحنة لا يكون موجباً أو سالباً، وإنما ألوانا Colours .
الآن وفي تطور ينافس أي رواية تجريبية، يبدو أنّ الكواركات ربما لا تكون موجودة بالفعل. ووفقاً لأبحاث طويلة جديدة، قد تكون هذه الجسيمات وهماً، ونتاج خدعة كمّيّة (كمومية) لم نفهمها تماماً بعد. وبذلك فإنّ الأصل العبثي لتسمية هذه الجسيمات ربما يكون مناسبًا. كما أن البحث عن أسس الواقع قد يتبيّن أنه أمرً غير ذي معنى أو فحوى كما هي الحال مع حلم نتذكر نصفه فقط.
بدأ البحث عن المكونات الأساسية للمادة منذ آلاف السنين، إذ صاغ الفيلسوف الإغريقي ديموقريطس Democritus كلمة جديدة لوصف الوحدات الأساسية للمادة: أتوموس (الذرات) Atomos التي تعني غير القابل للتجزئة. وفي الوقت الذي قد يتفق فيه فيزيائيو العصر مع ديموقريطس من حيث المبدأ، فإن التاريخ سخر من المصطلح سخرية بغيضة. ففهمنا المعاصر للذرات يُشير إلى أنها مؤلفة من جسيمات تُعرف بالإلكترونات Electrons التي تدور حول أنوية Nucleus مكونة من البروتونات Protons والنيوترونات Neutrons. وهذان الأخيران مؤلفان بدورهما من الكواركات (انظر: لبنات ليغو الطبيعة).
ومن المغري التفكير بهذه الجسيمات على أنها كرات صغيرة تدور مثل الكرات على طاولة السنوكر، لكن لطالما عرفنا أن هذه الجسيمات أكثر غموضاً من ذلك. بدأت المشكلة مع الضوء. فعلى مدار قرون، اختلف العلماء حول طبيعته، إذ اعتقد البعض أنه عبارة عن دفق مستمر من الجسيمات، في حين ادعى آخرون أنه موجة Wave. ومع ظهور نظرية الكمّ Quantum Theory في بداية القرن العشرين، اضطررنا لقبول فكرة مفادها أن الضوء قد يأخذ أحد الشكلين حسب الحالة. وقد امتد المنطق نفسه الذي طُبق على فوتونات Photons الضوء ليشمل كل الجسيمات الأخرى. فالإلكترونات والبروتونات والنيوترونات، وحتى الكواركات، يمكن اعتبار أنها تتمظهر على شكل موجات أو جسيمات.
ومنذ ذلك الحين صارت الأشياء مشوشة أكثر. فنحن نعلم الآن أنه في ضوء ظروف مناسبة، يمكن جعل الجسيمات تفعل أشياء أكثر غرابة. داخل مواد معدة بشكلٍ خاص، يُمكن أن تندمج الإلكترونات لتشكل بحراً ثنائي الأبعاد حيث تفقد داخله هويتها الفردية.
ونتيجة لهذا السلوك الجمعي، تظهر بعض الجسيمات الغريبة التي يمكن أن تكون أثقل من الإلكترونات، أو يكون لديها فقط جزء من شحنة الإلكترون، أو شحنة معاكسة تماماً له. فكر في حشد من مشجعي كرة القدم وهم يؤدون حركة الموجة المكسيكية Mexican wave: يبقى الإستاد ممتلئا بالأفراد، لكن الراصد الخارجي يرى حينها ظاهرة جديدة لا تشبه أبداً مشجعين منفردين. وتُعرف هذه الظواهر في فيزياء الجسيمات بأشباه الجسيمات Quasiparticles.
وعلى الرغم من كل الفوارق الصغيرة في هذه الصورة، فإن حياة الفيزيائيين تصبح أسهل عندما يفكرون بالجسيمات على أنها جسيمات حقيقية توجد في العالم. لكن لم يكن الأمر كذلك عندما صِيغت الكواركات لأول مرة.
ففي خمسينات القرن الماضي، ظهرت جسيمات أكثر مما في وسع الفيزيائيين التعامل معه. وكان مصدرها إما أعماق الفضاء، أو أنها ظهرت إلى حيز الوجود داخل مصادمات الجسيمات Particle Colliders. وقد أدى ذلك إلى إنشاء حديقة فوضوية من الجسيمات ذات الكتل، والشحنات والأحجام المختلفة التي بدا من المستحيل حشدها معاً. أما الرؤية التي ساهمت في ترتيب تلك الفوضى فقد طوّرها ثلاثة باحثين هم موراي غيل-مان Murray Gell-Mann ويوفال نيمان Yuval Ne’eman وجورج زويغ George Zweig، كل على حدة.
فقد لاحظ أولئك العلماء أن العديد من تلك الجسيمات يخضع لنوعٍ من التناظر Symmetry، مما يشير إلى أن كل تلك الجسيمات أُنتجت على هيئة مجموعات مختلفة من المكونات الجوهرية نفسها.
وعوضا عن معالجة تلك الجسيمات داخل الحديقة على أنها مكونات أولية، استحدث غيل-مان والآخرون مجموعة جديدة من الجسيمات أقل حجما. وبوجود هذه الكواركات (صاغ غيل-مان تسمية هذه الجسيمات وكان له الفضل الأكبر في دراستها، وكان بذلك الحاصل الوحيد لجائزة نوبل عن ذلك العمل)، اختفت فوضى فيزياء الجسيمات فجأة وصارت مرتبة. وتقول تارا شيرز Tara Shears من جامعة ليفربول University of Liverpool في المملكة المتحدة: “تقديم فكرة الكواركات كان ثوريا”، وتتابع قائلةً: “أشارت فكرة التشابه، أو التناظر في السلوك إلى وجود بنية أشد عمقًا، وهو شيء نتمسك به تمسكا شديدا في أبحاثنا المعاصرة”.
وحوش رياضياتية Mathematical monsters
في البداية لم يكن أحد متأكدا فيما إذا كانت الكواركات جسيمات حقيقية، أم أنها مجرد فكرة مفيدة للتنظيم. وخلال محاضرة ألقاها عام 1972، حذّر غيل-مان جمهوره من إقحام “أجسام خيالية في نماذجنا، سينتهي بها المطاف إلى التحول إلى وحوش حقيقية ستلتهمنا”.
وكان هناك دليلان يُشيران إلى أن الكواركات كانت أكثر من مجرد وحوش في الرياضيات. فأولاً، لاحظ الفيزيائيون الذين يُطلقون الإلكترونات على البروتونات أنّ بعضا منها يرتد بزوايا واسعة جداً، ويُشير ذلك إلى أن الإلكترونات صدمت شيئاً ما داخل البروتونات -شيئا مثل الكوارك. إضافة إلى ذلك، بيّن نموذج غيل-مان أن مجموعات محددة من الكواركات ماتزال غير مكتشفة. وكما هي الحال مع الثغرات في الجدول الدوري الأصلي للعناصر، الذي وضعه ديمتري مينديليف Dmitri Mendeleev، فقد منح هذا الأمر قدرة تنبؤية للنموذج. وكلما ظهر جسيم مفقود كما هو متوقع، زاد تقبل نموذج الكوارك.
لقد كانت لحظة احتفال، لكن الكثير بقي غامضًا. وكان أحدها هو سبب ازدهار بعض المجموعات المحددة من الكواركات دون غيرها. على سبيل المثال، يمكنك الجمع بين كوارك وضديده (جسيمه المضاد) Anti- Quark لتشكل ميزونا Meson، أو يمكنك إلصاق ثلاثة كواركات معاً لتشكل بذلك باريونا Baryon، كالبروتون أو النيوترونً. لكن لن يكون بوسعك إنتاج جسيم مركب ومؤلف من أربعة أو خمسة كواركات بسهولة (انظر: كواركات مراوغة)، أو الحصول على كوارك وحده فقط. لماذا يحصل ذلك إذاً؟
تكمن الإجابة في خاصيةٍ مميزةٍ للكواركات تُعرف بالشحنة اللونية Colour Charge، التي ليس لها أي علاقة بالألوان التي نراها في حياتنا اليومية. وتقول فريا بليكمان Freya Blekman من جامعة بروكسل الحرة Free University of Brussels في بلجيكا: “اللون هو مجرد شيء اخترناه لتسميتها لأنها تأتي في ثلاثة أنواع”. يمكن للكواركات من ألوان مختلفة -هي الأحمر، والأخضر، والأزرق- أن تجتمع معاً لأن شحنتها اللونية تلغي بعضها بعضاً لتشابه بذلك اندماج الألوان المختلفة للضوء معاً لتعطينا في نهاية المطاف اللون الأبيض.
وباستخدام المنطق ذاته، يُمكن لكوارك وضديده (جسيمه المضاد) أن يجتمعا معاً بافتراض أنّ شحنتهما اللونية هي الأحمر وضديد-الأحمر. وهذا يُفسر أيضاً سبب عند انفلات الكواركات المنفردة من الذرات داخل الكواشف: إذ إنه من دون شركائها اللونيين، ستكون تلك الكواركات غير مستقرة. وتقول بليكمان: ” الكواركات دائماً تساند الفريق “.
بحلول أواخر سبعينات القرن الماضي، صار لدينا أكثر الأوصاف اكتمالاً للكواركات والقوى التي تربطها: الكروموديناميكا الكمية (ديناميكا لونية كمية) Quantum Chromodynamics، (اختصاراً: النظرية QCD)، التي سُميت نسبة إلى الشحنة اللونية للكوارك.
النظرية QCD ليست مثالية. فمن جهة، فإن استخدامها في أكثر الحسابات الفيزيائية تعقيداً يحتاج إلى وقتٍ طويل جدا. وتقول روث فان دو ووتر Ruth Van de Water، من مختبر فيرمي الوطني للتعجيل Fermi National Accelerator Laboratory بالقرب من شيكاغو: “قد تحتاج الحسابات إلى ثلاث سنوات كاملة حتى ننتهي من إجرائها”، وتضيف إنه بسبب ذلك فإن العديد من مجموعات الكوراكات لم تُحسب بعد بالاعتماد على النظرية QCD. وبدلاً من ذلك، فقد أنجزوا الحسابات باستخدام نماذج أقل تطورا ولا تضع في الحسبان كل التفاعلات التي يمكن أن ينتجها الكوارك. ويقول الفيزيائي هوارد جيورجي Howard Georgi، من جامعة هارفارد Harvard University: “معرفتنا بالنظرية QCD مشابهة نوعا ما لمحاولة تخيل ما يبدو عليه فيل عبر إدراك بعض الأجزاء الصغيرة منه”، ويضيف قائلاً: “قد تصف إحدى الطرق الجذع دون صعوبة، لكنها سيئة جداً بالنسبة إلى وصف الأذنين”.
هذه ليست مشكلة جديدة، فمنذ سبعينات القرن الماضي، كان عالم الفيزياء جيرارد تي هوفت Gerard ‘t Hooft يواصل البحث عن طريقة لجعل النظرية QCD أكثر مرونة. وقد توصل إلى حل وسط جريء بشأن الدقة عبر تجاهل أجزاء من معادلات النظرية QCD التي تصف اللون. وقد أدى ذلك إلى تبسيط هائل وفقاً لفان دو ووتر، مما سمح بإجراء حسابات معقدة بحسبة بسيطة.
عندما حاول تي هوفت ذلك، اكتشف أنه يمكن إعادة إنتاج خصائص الميزونات بدقة مذهلة. ويقول جيورجي: “كان ذلك مثيراً جدا”.
لكن وحوش غيل-مان الرياضياتية كانت على وشك الانقضاض، فتنحية مصطلح اللون حرّر الكواركات من الحاجة إلى الألوان الثلاثة. وبدلا من ذلك، صار بإمكانها امتلاك أي عدد ترغب به من الألوان -حتى لو كان عدداً لانهائياً. ولأن مجموعة من الكواركات لن تكون مستقرة إلا إذا مُثلت جميع الألوان بقدرٍ متساوٍ، فإنّ وجود عدد لا حصر له من الألوان يعني بالضرورة وجود باريونات مع عدد لا نهائي من الكواركات.
“عدد لانهائي من الألوان يعني عدداً لانهائياً من الكواركات. ولذلك عواقب”
كان لذلك عواقب. يتمتع كل كوارك بخاصية تعرف بالدوران المغزلي. فعند مضاعفة عدد الكواركات، يعني ذلك مضاعفة كمية الدوران المغزلي القصوى. وفي الحالات القصوى عندما يتحاذى الدوران المغزلي لكل الكواركات، فإن الباريون الناتج عن تجمعها معا يمتلك حينها دورانا مغزليا إلى درجة يصعب على نموذج تي هوفت وصفه. ويعد هذا صحيحاً ليس فقط بالنسبة إلى عالم تي هوفت التخيلي الملون واللانهائي، وإنما بالنسبة إلى بعض الجسيمات في العالم الحقيقي، مثل الباريون دلتا++، Delta++ baryon، المكون من ثلاثة كواركات عليا تتحاذى دوراناتها المغزلية.
جاء حل هذه المسألة من مكان غير متوقع: نظرية الأوتار String Theory، وهي الإطار الذي وُضع لتوحيد فيزياء النسبية المختصة بالأحجام الكبيرة مع فيزياء الكم المختصة بالأحجام الصغيرة جداً. وفي وقتٍ مبكر من العقد الأول من القرن الحالي، بدأ علماء نظرية الأوتار بملاحظة أنّ معادلاتهم تسمح للكواركات بفعل شيء غريب. ففي ضوء ظروف خاصة، يُمكن لتلك الكواركات أن تتمتع بجزءِ كسري فقط من الدوران المغزلي الاعتيادي. وذلك شيءٌ لم تجر مشاهدته قطً في التجارب، أو تنبؤات النظرية QCD، وقد بدا كوحش رياضياتي آخر. غير أنه منذ بضعة أعوام، بدأ بعض الأفراد بملاحظة أن النظرية QCD يُمكن أن تصف أيضًا الكواركات التي لديها جزء كسري من الدوران المغزلي.
وحديثا، قد تكون قصة الكوارك على وشك التغير بشكلٍ جوهري؛ ففي عام 2018 وجد زوهار كومارغودسكي Zohar Komargodski، من معهد وايزمان للعلوم Weizmann Institute of Science، طريقة ممكنة لدمج كل الأفكار المتباينة المتعلقة بالكوارك معاً: باستخدام نموذج تي هوفت لانهائي الألوان، لكن عبر إعطاء الكواركات حرية أخذ أجزاء كسرية من دورانها المغزلي. يعترف الفيزيائيون بأن عمله يظهر براعة ومهارة، لكنه معقد جدا أيضاً. ويقول جيورجي: “أود فهمه بشكلٍ أفضل قليلاً”.
ما يتفق عليه الجميع هو أنّ ذلك يفتح آفاقاً جديدة. فبينما لم يستطع نموذج تي هوفت تفسير الجسيمات الغريبة ذات الدوران المغزلي العالي، فإنّ نموذج كومارغودسكي يستطيع ذلك. ويقول جيورجي: “الصورة (التي ترسمها) مختلفة كلياً”. فعوضاً عن تجمع ثلاثي الأبعاد من الكواركات المتصارعة من أجل الحصول على موضع، فإن ذلك النموذج يتنبأ بأن الدوران المغزلي العالي للكواركات يسحب الباريون ليصير صفيحة ثنائية الأبعاد من رغوة كمية ينتج عنها كوارك ذو دوران مغزلي بمقدار كسري.
أسس الواقع المهزوزة Reality’s shaky foundations
الأمر مشابه جداً للطريقة التي تنشأ معها الموجة المكسيكية في الاإستاد، أو تلك التي تظهر من خلالها أشباه الجسيمات انطلاقاً من مجموعة من الإلكترونات. بعبارة أخرى، فإنّ ذلك يؤكد أن الكواركات داخل تلك الجسيمات ليست أولية على الإطلاق، وإنما نتيجة لسلوك رغوة كمية. ويقول كومارغودسكي: “إنها كحالة جديدة من المادة، أو حالة جديدة للكوارك”. لطالما عرفنا أن الكواركات عبارة عن وحوش غريبة جدا يتعذر تفسيرها باستخدام التعبيرات المعتادة. ويقول جيورجي: “لكن أشباه جسيمات كومارغودسكي مختلفة تماماً، وهي غريبة الأطوار”.
كما أنها قد تكون مفيدة جدا. عندما طوّر تي هوفت تبسيطه في سبعينات القرن الماضي، لم يقلق أحد حينها حول فشل النموذج في حساب خصائص الباريونات ذات الدوران المغزلي العالي مثل باريون دلتا++. وذلك لأنها تميل إلى الظهور في بيئات غريبة تحت ضغط فائق مثل لب النجوم النيوترونية Neutron Stars. لكن النجوم النيوترونية في أيامنا هذه هي واحد من أنشط مجالات البحث في الفيزياء: علم فلك موجات الجاذبية (الموجات الثقالية) Gravitational Wave Astronomy.
خلال الأعوام القليلة الماضية، رصد تعاون لايغو LIGO موجات الجاذبية الناشئة عن تصادم أجسام هائلة في الفضاء، بما في ذلك التهام ثقب أسود Black Hole لنجم نيوتروني. فتحت تلك الإشارات نافذة جديدة على الكوزموس Cosmos، لكن الأمر لايزال غير واضح قليلاً. إذ لا يمكننا استقراء الكثير عن النجوم النيوترونية عبر الإشارات الصادرة عنها إلا فيما يتعلق بكتلتها، والسبب الرئيسي في ذلك هو عدم وجود نظرية يمكنها وصف المادة تحت الضغط الشديد الذي يُكوِّن تلك النجوم.
أو على الأقل ليس لدينا تلك النظرية حتى الآن. يقول مانك رو Mannque Rho من معهد الفيزياء النظرية Institute of Theoretical Physics بباريس في فرنسا: “ما اقترحه كومارغودسكي مثير جداً لأنه وثيق الصلة بتلك النجوم”، وهو يحاول اليوم تطوير عمل كومارغودسكي ليصير أداة يمكن استخدامها مع إشارات موجات الجاذبية لصياغة معادلة تخبرنا المزيد عن النجوم النيوترونية، بما في ذلك أقطارها وكثافتها.
التطبيق العملي هو مجرد جزء من القصة. ويُثير عمل كومارغودسكي أيضا أسئلة عميقة حول طبيعة الكواركات، وإذا ما كان هنالك ظروف تكون الكواركات في ظلها ناشئة وليست أولية، وهل يعني ذلك أن الكواركات أكثر بقليل من كونها مجرد معنى تجريدي؟ وإذا كانت كذلك، فما هو جوهر الواقع؟
ربما من المستغرب أن كومارغودسكي نفسه لايزال يعتقد أن الكواركات أجسام حقيقية وأولية. وهو يشّبه الموقف بالسلوك الغريب للإلكترونات: فعلى الرغم من وجود بعض الحالات التي تأخذ فيها خصائص غريبة، فإنّ ذلك لا يعني الحاجة إلى تحسين مفهوم الإلكترونات بالكامل، ويُضيف: “لكن لكل فرد رأيه الخاص”.
ينظر رو إلى الأمر بشكل مختلف، إذ يعلق قائلا: “تفقد الطبيعة الأساسية للكوارك معناها في ضوء الأنظمة شديدة الارتباط مثل المادة الكثيفة”، ويضيف: “أعتقد أنّ الكواركات ليست أساسية بعد الآن”. ربما لا ينبغي أن يكون ذلك مفاجئاً، فمعظم الفيزيائيين يعتقدون أن النموذج القياسي في فيزياء الجسيمات Standard model of particle physics لا يلتقط الحقيقة الكاملة عن الواقع لأسبابٍ ليس أقلها أننا لا نعرف سبب كونها ما هي عليه. وقد تمثل الكواركات عتبة أخرى على سلم الواقع، لكننا لم نصل إلى القاع حتى الآن. ربما عدنا إلى البداية مجدداً.
كواركات مراوغة
كوارك أو كورك؟ Kwark or kwork؟
عندما كان عالم الفيزياء موراي غيل-مان Murray Gell-Mann يسعى إلى تسمية مجموعة جديدة من الجسيمات الأساسية التي جاءت في ثلاثة أنواع، وضع اسم كورك “Quork” قبل أن يقع نظره على السطر الغامض “ثلاثة كواركات لموستر مارك!” في رواية جيمس جويس James Joyce لعام 1927: يقظة فينيغان Finnegans Wake. ومنذ ذلك الحين، انقسم العلماء حول كيفية لفظ الكلمة. وتقول تارا شيرز Tara Shears من جامعة ليفربول في المملكة المتحدة: “لقد سمعت الكواركات وهي تلفظ بجرس بارك ‘bark’ ودورك‘dork’”، وتضيف قائلة: “أقولها بالطريقتين لإضفاء الإرباك!”.
خلف الغرابة Beyond strange
يتنبأ النموذج القياسي في فيزياء الجسيمات Standard model of particle physics بوجود ستة أنواع، أو نكهات، من الكواركات: العلوي Up، والسفلي Down، والغريب Strange، والساحر Charm، والقعري Bottom، والقمي Top. ونحن نعلم أن بوسع الكواركات تغيير نكهاتها، لكن يبدو لنا الآن أنها قادرة أيضاً على إجراء تحولات أكثر جذرية من ذلك. ويقول بينيدتا بيلفاتو Benedetta Belfatto من معهد غران ساسو للعلوم Gran Sasso Science Institute بلاكويلا في إيطاليا: “هذا يعني أن هناك شيئا ما مفقودا من التصور الذي وضعناه”.
ينص أحد الاحتمالات على تحول بعض الكواركات إلى كوارك آخر لم نره في السابق، وفقاً لروث فان دو ووتر Ruth Van de Water من مختبر فيرمي الوطني للتعجيل Fermi National Accelerator Laboratory بالقرب من شيكاغو، وقد يكون هذا الكوارك أثقل من تلك الستة التي نعرفها الآن.
أجزاء الكوارك Quark nuggets
تمثل المادة المعتمة Dark Matter واحدا من أكثر الألغاز المحيرة في علم الفيزياء. فهي مادة غير مرئية تمثل ما يعادل نحو 27% من الكون، ويمكننا الإحساس بها عبر تأثيرات جاذبيتها فقط. لكن مم تتكون هذه المادة؟
أجزاء الكوارك، المعروفة أيضاً بالغريبيَّات Strangelets، عبارة عن جسيمات افتراضية مؤلفة من كوراكات علوي وسفلي وغريب بحيث تمتلك الخصائص المناسبة للمادة المعتمة. يتطلب تشكل هذه الجسيمات ضغطاً هائلاً، لكن أريل غيتنيتسكي Ariel Zhitnitsky من جامعة كولمبيا البريطانية University of British Columbia في كندا يعتقد أنه يعرف ما يجب فعله: حقل افتراضي جديد يمتد عبر الكون، ويكون فقاعات مضغوطة بدرجة كافية لخلق أجزاء الكوارك التي تعمل كمادة معتمة. قد يبدو الأمر كمجموعة من التخمينات التي تتناقض مع غيرها، لكنه مثيرٌ حقاً. والأكثر إثارة للجدل، وفقا لغيتنيتسكي، هو أن أجزاء الكوارك تلك يمكن أن تصطدم مع ضديداتها (جسيماتها المضادة) داخل الشمس، مطلقة بذلك كميات هائلة من الطاقة لتفسر السبب الكامن وراء الحرارة الشديدة للغلاف الجوي للشمس.
البنتاكوارك والهيكساكوارك Pentaquarks and Hexaquarks
في الجسيمات المألوفة مثل البروتونات والنيوترونات، تأتي الكواركات في مجموعات مكونة من ثلاثة ألوان (انظر: المقال الرئيسي)
نظرياً، هنالك طريقة لتشكل مجموعات مؤلفة من خمسة كواركات تُعرف بالبنتاكوارك Pentaquarks ، لكن لم يكن أحد متأكدا من وجودها حتى حلول عام 2015 عندما تمكن فريق في مصادم الهادرونات الكبير Large Hadron Collider بالقرب من جنيف في سويسرا من رصد أحدها داخل كاشفاته.
هل يمكن العثور على الهيكساكوارك Hexaquarks أو السبتاكوارك Septaquarks: نعم وبكل تأكيد. فنوى ذرات الديوتريوم Deuterium -نظائر الهيدروجين- هي هيكساكواركات. وستسمح لنا قواعد اللون أيضاً بالحصول على سبتاكوارك Septaquark إذا تمكنا من ضغط خمسة كواركات وضديدي كواركين معاً داخل الجسم نفسه.
لبنات ليغو الطبيعة
إذا ما أطلت البحث، فستجد حينها أنّ معظم مادة الكون مؤلفة من كواركات، وهي تأتي في ست “نكهات”، منها اثنان فقط (العلوي Up والسفلي Down) وُجدَا في المادة الاعتيادية.
© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.