نجح الحظر، ولكن ماذا بعد؟
تخفيف الإجراءات مع محاصرة الفيروس هي عملية تعتمد على التجربة والخطأ
تغطية مجلة ساينس Science لكوفيد- 19 مدعومة من مركز بوليتزر.
بقلم: كاي كوبفرشميت
ترجمة: د. عبد الرحمن سوالمة
العالَم، الآن، يحبس أنفاسه. وبعد أن شق فيروس كورونا المستجد طريقه عبر العالم، اعتمدت الدولة واحدة تلو الأخرى إجراءات صارمة لإيقاف انتشار سارس-كوف-2 SARS-CoV-2 وعدم إنهاك قدرة المستشفيات. وقد أوقفت الدول مؤقتًا اقتصادها وحياة مواطنيها، وبذلك ألغيت الأحداث الرياضية، والشعائر الدينية، وغيرها من التجمعات الاجتماعية. و إغلاق المدارس في 188 دولة أثـّر في أكثر من 1.5 بليون طالب. كما أُغلقت الحدود وأقفلت أعمال التجارية. بينما الدول لا تزال تشهد زيادة يومية في الحالات، إلا أن هناك دولًا أخرى، أولًا في آسيا والآن في أوروبا بشكل متزايد، استطاعت أن تثني المنحنى، مبطئة انتقال كوفيد-19 (COVID-19).
ولكن ما هي استراتيجية إنهاء الحظر Exit strategy ؟ يقول مارك ليبسيتش Marc Lipsitch، اختصاصي الوبائيات من كلية تي إتش تشان للصحة العامة Harvard T.H. Chan School of Public Health التابعة لجامعة هارفارد (اختصارًا: الكلية HSPH): “استطعنا الوصول إلى مركب النجاة. ولكنني غير متأكد من الكيفية التي سنصل بها إلى بر الأمان”.
وفي الوقت الذي تبحث فيه الحكومات حول العالم عن طريق للمضي قدمًا، عليهم الموازنة بين ثلاثة أمور؛ وهي صحة مواطنيها، وحريات الجمهور، والقيود الاقتصادية. فهل يمكن إعادة فتح المدارس؟ والمطاعم؟ هل يمكن للناس العودة إلى مكاتبهم؟ تقول كارولين بوكي Caronline Buckee، اختصاصية أوبئة من الكلية HSPH: “ليس هناك توافق علمي حول الكيفية التي سترخى بها قيود الحظر”. ويوافق أغلب الباحثين على أن إعادة فتح المجتمع سيكون إجراءً بطيئًا وطويلًا، ويتسم بالتجربة والخطأ. وتقول ميغان كوفي Megan Coffee، الباحثة في الأمراض المعدية من جامعة نيويورك New York University: “يجب أن يكون هدفًا نمشي إليه بخطوات بطيئة”.
الأرقام التي سيتعين علينا متابعتها في المرحلة القادمة ربما لا تكون العدد الفعلي للحالات لكل يوم، ولكن ما يدعوه اختصاصيو الأوبئة بالعدد التكاثري الفعال Effective reproduction number، أو العدد R، والذي يشير إلى معدل الأشخاص الذين يعديهم الشخص المصاب. وإذا كان R أكثر من 1، فإن الفاشية Outbreak تنمو؛ وإذا كان أقل من 1 فإنها تتناقص. والهدف من الحظر الحالي هو دفع العدد R إلى أقل من 1. وبمجرد تخفيف حدة الجائحة، فإنه يمكن للدول أن تخفف من القيود بينما يبقى العدد R يتراوح حول 1، أي أن كل شخص مصاب يعدي شخصًا واحدًا بالمعدل، مما يُبقي عدد الحالات الجديدة ثابتًا.
ويقول غابرييل ليونغ Gabriel Leung، وهو منمذِج من جامعة هونغ كونغ University of Hong Kong إنه لتنظيم العدد R، ” سيتعين على الحكومات إدراك أن هناك ثلاثة مقابض تحكمٍ على اللوحة”؛ وهي عزل المرضى وتتبع مخالطيهم Tracing، والقيود على الحدودBorder restrictions، والتباعد الاجتماعي Social distancing.
التحكم في المقابض
استطاعت سنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية إبقاء الوباء تحت السيطرة عن طريق التطبيق المتشدد لوسيلة التحكم الأولى؛ فهم يكتشفون الحالات الجديدة ويعزلونها في وقت مبكر، ويتتبعون مخالطيهم ويحجرونهم صحيًا، وفي الوقت نفسه يفرضون قيودًا خفيفة على سائرالمجتمع. ولكن هذه الاستراتيجية تعتمد على زيادة الفحص زيادة ضخمة، وهو ما يعيقه قلة مواد الكشف وغيرها في أماكن أخرى. كما أن تتبع المخالطين يتطلب الكثير من العمل. فمثلًا تعين ماساشوستس 500 متتبعٍ للمخالطين، ولكن تقريرًا حديثًا نشره باحثون من جامعة جونز هوبكنز Johns Hopkins University أظهر أن الولايات المتحدة ككل تحتاج إلى تدريب نحو 100 ألف شخص.
يمكن لتطبيقات الهواتف النقالة أن تساعد عن طريق التعرف أو التنبيه الأوتوماتيكي للأشخاص الذين اختلطوا بالشخص المصاب. ولكن الدول الغربية لم تستخدم هذه الأنظمة بعد. أما غوغل Google وآبل Apple، فقد اتحدتا لتضمين تطبيق لتتبع المخالطين في أنظمة تشغيلهما. وأما ألمانيا وفرنسا ودول أخرى، فتطور تطبيقات مبنية على بروتوكول يسمى ” تتبع القرب المحافظ على الخصوصية في عموم أوروبا ” Pan-European Privacy Preserving Proximity Tracing. ويعتمد البروتوكول على إشارات بلوتوث قصيرة المدى لقياس القرب بين جهازين من دون إدخال موقعيهما الدقيقين، وهو ما يساعد على درء بعض مخاوف الخصوصية.
ولكن من دون فرض استخدام هذه التقنيات إجباريًا كما فعلت الصين، كيف يمكن للدول التأكد من أن عددًا كافيًا من الأشخاص يحملون التطبيق الذي يعطي معلومات موثوق بها ويؤثر في انتشار المرض؟ وما هي المعايير التي تحدد مَن هو المخالِط بالتحديد؟ “إذا كنت أعيش في مبنى كبير يتكون من شقق، فهل سأحصل على عشرات التنبيهات في اليوم؟” هذا ما يتساءل عنه اختصاصي الأوبئة نيكولاس دافيس Nocholas Davies من كلية لندن لحفظ الصحة وطب المناطق الحارة London School of Hygiene & Tropical Medicine (اختصارًا: الكلية LSHTM). ويضيف دافيس قائلا إن الانتشار الواسع لاستخدام التطبيقات سيزيد أكثر من الحاجة إلى الفحص.
أما مقبض التحكم الثاني؛ القيود على الحدود، فإن أغلب الدول منعت دخول كل الأشخاص غير المواطنين تقريبًا. إذ إن حجر المواطنين العائدين، وهو ما بدأت نيوزيلندا وأستراليا بفعله في الأسابيع القليلة الماضية، يقلل أيضًا من خطر الإدخالات الجديدة للفيروس. ويرجح أن تبقى مثل هذه التدابير لفترة من الزمن؛ فكلما قللت الدولة انتقال المرض محليًا، زادت خطر نشوء أي فاشية مرضية جديدة من المسافرين. والزوّار الغرباء في الحالة الاعتيادية يصعب تتبعهم أكثر من المواطنين، وهم أكثر احتمالًا للبقاء في الفنادق و زيارة مناطق تكون مراكز لانتقال المرض منها، وذلك بحسب أليساندرو فيسبيغناني Alessandro Vespugnani، وهو منمذِج أمراض من جامعة نورث إيسترن Northeastern University، والذي يقول: “بمجرد أن تعيد فتح المجال للمسافرين، فإن ذلك قد يكون شيئًا لا يستطيع نظام تتبع المخالطين التعامل معه”.
ومقبض التحكم الثالث على اللوحة هو التباعد الاجتماعي، وهو العمود الفقري للاستراتيجية الحالية التي أبطأت انتشار الفيروس. ولكن لها أيضًا تكاليف اقتصادية واجتماعية هي الأكبر من نوعها، وتأمل العديد من الدول بأن تخفف القيود في الوقت الذي يساعد عليه عزل الحالات وتتبع المخالطين على إبقاء الفيروس تحت السيطرة. وفي أوروبا كانت النمسا الأولى في فتح المحالّ الصغيرة بتاريخ 14 أبريل. ويخطط أن تتبعها المحالّ الأخرى والمجمعات التجارية بتاريخ 1 مايو، وقد يشمل ذلك المطاعم بعدها بأسابيع قليلة. وبتاريخ 13 أبريل جادل تقرير نشرته الأكاديمية الوطنية الألمانية للعلوم German National Academy of Sciences، لصالح فكرة إعادة فتح المدارس تدريجيا، بدءًا من الأطفال الأصغر سنًا، مع تنظيم فترات الاستراحة بالتعاقب وفرض ارتداء الأقنعة إجباريّا. ولكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron قال إن الحظر في فرنسا سيستمر حتى تاريخ 11 مايو.
وتقول بوكي إن اختيار الطريق الأحوط أمر صعب، وسبب ذلك جزئيًا هو عدم وجود تجارب مُتحكَّم فيها (مضبوطة) Controlled Experiments تقارن بين تدابير التباعد الاجتماعي المختلفة. وتقول: “لأننا لا نمتلك دليلًا قويًا فعليًا، يصعب جدًا اتخاذ قرارات سياسية مبنية على الدليل نحو كيفية العودة إلى الوضع الطبيعي”. ولكن ليبسيتش يقول إنه باختيار السلطات حول العالم طرقٍ مختلفة للمضي قدمًا، فإن المقارنات ستبين لنا الكثير. ويقول: “أظن أنه سيكون هناك الكثير من التجربة، ليس عن قصد، ولكن بناء على مخرجات السياسات والأوضاع المحلية. آمل بأن يتعلم العالم من ذلك”.
أضف إلى ذلك أن معرفة أي التدابير يؤثر بعينه في العدد R ليس أمرًا مباشرًا؛ ذلك أن العداوى التي تحدث اليوم قد تظل أسابيع حتى تظهر على تقارير الأمراض. وفي عام 2004 نشر اختصاصي الرياضيات جاكو والينغا Jacco Wallinga ، من المعهد الوطني الهولندي للصحة العامة والبيئة Dutch National Institute for Public Health and the Environment- هو وزملاؤه طريقة إحصائية لتقدير العدد R في الوقت الفعلي، وهي الطريقة المستخدمة الآن حول العالم. كما يدخل الباحثون الآن بيانات عن أنماط الحركة وسلوك الأشخاص لتكون التقديرات أكثر دقة. ويقول آدم كوتشارسكي Adam Kucharski وهو منمذج من الكلية LSHTM: ” إذا فرضت الحكومات تدبيرًا ما أو رفعته، يمكنها أن تفهم الاستدلالات المباشرة، بدلًا من أن تضطر إلى الانتظار”.
هناك عامل آخر مجهول سيحدد مدى أمان تخفيف القيود، وهو المناعة. وكلّ شخص يصاب بالعدوى ويطور مناعة، فإنه يُصعّب على الفيروس الانتشار. ”إذا طور 30% أو 40% من الأشخاص مناعة ضد الفيروس، فهذا سيبدأ بتغيير الصورة كلها، هذا يساعدنا كثيرًا”؛ لأن ذلك سيقلل العدد R بمقدار النسبة المئوية نفسها، وذلك حسب ما يقوله مايكل أوسترهولم Michael Osterholm، مدير مركز أبحاث وسياسات الأمراض المعدية Center for Infectious Diseases Research and Policy من جامعة منيسوتا University of Minnesota في توين سيتيس (المدينتين التوأمين مينيابوليس – سانت بول).
ستزداد المناعة حتمًا عندما يزيد عدد الأشخاص المصابين، ولكن بعض الباحثين يجادلون مشجعين على تحفيز تكوين المناعة بشكل أسرع، عن طريق ترك الفيروس لينتشر في الأشخاص الأصغر سنًا، والذين يعتبرون أقل عرضة للمرض الشديد، وفي الوقت نفسه “شرنقة” (تخبئة) Cocooning الأشخاص الأكثر عرضة، ككبار السن. ونشرت المملكة المتحدة فكرة “مناعة القطيع” Herd Immunity هذه في فبراير ولكنها تراجعت عنها، كما فعلت هولندا. ويقول بعض العلماء إن هناك دولًا أخرى يجب أن تفكر في اتباع هذه الفكرة بمجرد أن يقل الضغط الذي فرضته الموجة الأولى من الحالات. ويقول أوسترهولم: “هل من الأفضل إصابة الأشخاص الأصغر سنًا الآن بدلًا من منع الإصابة؟ أظن أن هذا نقاش مهم جدًا يجب الخوض فيه”.
يشك المنتقدون في أن الأشخاص الأكثر عرضة يمكن حمايتهم فعلًا. وفي العديد من الدول، يعيش عدة أجيال تحت سقف واحد، والشباب يعملون في دور رعاية المسنين. كما أن العلماء ليسوا متأكدين من أن كوفيد-19 تنتج منه مناعة قوية طويلة الأمد. وتسعى العديد من الدراسات إلى الإجابة عن هذه التساؤلات.
سياسة إنهاء الحظر
حتى الآن، السيناريو الأكثر احتمالًا هو تخفيف تدابير التباعد الاجتماعي عندما يكون ذلك ممكنًا، ثم تشديدها ثانية عندما يزيد معدل العدوى مرة أخرى، وهي استراتيجية “الكبح والرفع” Suppress and Lift التي تتبعها سنغافورة وهونغ كونغ. وسنرى فيما بعد إذا كان بإمكان هذا النهج تحقيق التوازن السليم بين إبقاء الفيروس بعيدًا وتقليل الاستياء والضرر الاقتصادي.
وحتى سغافورة وهونغ كونغ كان عليهما أن يشددا بعض تدابير التباعد الاجتماعي في الأسابيع الأخيرة بعد تدفق حالاتٍ جديدة، هذا ما أشار إليه ليبسيتش. ولم يعد نظام التباعد الاجتماعي في سنغافورة يختلف عن ذلك الذي في مدينة نيويورك أو لندن. والاستراتيجيات المتبعة في كلتا المدينتين يَصعُب جدًا اتباعها في دولة كبيرة كالولايات المتحدة، ويقول: “يجب أن تكون كل بلدة ومدينة ودولة بمثل جودة سنغافورة لكي ينجح ذلك”.
يقول جيريمي فارار Jeremy Farrar، مدير صندوق ولكم ترست Wellcome Trust ، إنه في النهاية سنحصل على الطريق الذي يخرجنا من المعضلة التي تواجه العالم من خلال الأبحاث. وقد تكون على شكل علاج فعال للأشخاص الأشد مرضًا، أو دواءً يمكنه منع العدوى في العاملين في المجال الصحي، أو لقاحًا في نهاية المطاف؛ ويقول: “سياسة إنهاء الحظر هي العلم”.
© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved.