الهيدروجين المعدني سيكون الوقود الأفضل إذا نجحنا في إنتاجه
العنصر الأكثر شيوعا في الكون قد يكون في الوقت نفسه الأكثر روعة. تدعي مجموعتان مختلفتان من الباحثين أنهما حققتا ذلك- لكن هل تستطيع أي منهما الصمود أمام التمحيص؟
بقلم: مايكل بروكس
ترجمة: أنوار البغلي
من كان يتصور أن أعظم مادة في العالم يمكنها توليد هذا الكم من الحرارة؟ للأسف، إنها ليست النوع المفيد من الحرارة. على الأقل حتى الآن. بعد أكثر من 90 عاماً من المحاولات لإنتاج الهيدروجين بصورته المعدنية Metallic form، مازالت النتائج الوحيدة التي يمكن التأكد منها هي الانقسامات بين الباحثين حول هذه النتيجة.
وإنتاج الهيدروجين المعدني لأول مرة يعد إنجازا كبيرا ، إلى درجة نسب معها العديد من الباحثين هذا النجاح إلى أنفسهم. ولكن منافسيهم يشككون في ادعاءات هذه النجاحات بشدة. والرد على آخر الادعاءات، الذي نُشر في يونيو 2019، كان متوقعا. “هذا البحث يثير ضجة كبيرة حول نتائج ضئيلة”، كما تقول رانغا دياس Ranga Dias من جامعة روشيستر University of Rochester في نيويورك . قد تعتقد أن هذا الرد قاسٍ، ولكن كان هذا بالضبط ما قاله مؤلف ورقة البحث الجديدة عن ادعائه الشخصي عام 2017.
كل هذا الإثارة تأتي من حقيقة مفادها أن نسبة المخاطر عالية جداً. يدعي مؤيدو إنتاج الهيدروجين المعدني أن هذه الحالة من العنصر الشائع قد تُحدث ثورة في مجال العلوم والتكنولوجيا، منها أنها قد تكون إنجازا في مجال وقود الصواريخ، عندما تتحول مرة أخرى إلى هيدروجين جزيئي مطلقة بذلك كمية هائلة من الحرارة. وإضافة إلى الآمال الكبيرة لعلماء الكواكب، يعتقد أن أعماق الكواكب الغازية الكبرى مثل كوكب المشتري Jupiter تتكون من الهيدروجين المعدني. وإذا استطعنا إنتاجه في المختبرات؛ فقد نتوصل إلى الكيفية التي تتشكل بها هذه الكواكب. ولعل أكثر الشائعات حول الهيدروجين المعدني إثارة للاهتمام هي القدرة على العمل كموصل فائق في درجة حرارة الغرفة؛ مما يسمح بتدفق الكهرباء من دون تبديد للطاقة. ولهذه الأسباب، ستكون التجارب الناجحة حدثاً مهماً، كما تقول هيلين ماينارد-كاسلي Helen Maynard-Casely من المركز الأسترالي لتشتيت النيوترون Australian Centre for Neutron Scattering . وتُضيف قائلة: “أظن أنهم جميعاً يأملون بالحصول على جائزة نوبل”.
تبدو الإمكانات جيدة؛ إذاً كيف صارت الأمور بهذا السوء؟
يبدأ الموضوع بالهيدروجين، العنصر الأكثر وفرة في الكون. وهو أيضاً أبسطها، إذ تتكون ذرته من إلكترون واحد يدور حول بروتون. هذا الإلكترون المفرد يضع الهيدروجين في العمود الأول من الجدول الدوري مع الفلزات القلوية مثل الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم. وهذه العناصر الثلاثة تتوفر على الأرض في الحالة الصلبة وهي قادرة على توصيل الكهرباء، في حين يتوفر الهيدروجين غالبًا في حالته الغازيّة. ولكي يتحول إلى معدن، يجب على الذرات المفردة للهيدروجين أن تكون متراصة بإحكام مما يسبب تغيير مواضع الإلكترونات، ويسمح لها بالتحرك بحرية في جميع أنحاء المادة، ومن ثم توصيل الكهرباء.
تداعيات الضغط
وأول من أدرك أن مثل هذا التحول قد يكون ممكناً هما يوجين ويغنر Eugene Wigner وهيلارد بيل هنتينغتون Hillard Bell Huntington في عام 1935. فقد توقعا أن كل ما يحتاج إليه عنصر الهيدروجين حتى يتصف بمواصفات العناصر المجاورة له في الجدول الدوري هو الضغط – والكثير منه. إن تمكين إلكترونات ذرة الهيدروجين من التحرر من بروتوناتها، وفي المقابل التجول في أنحاء البنية الجامدة لمادة صلبة، يتطلب نحو 400 غيغاباسكال gigapascal (GPa) أي ما يعادل أربعة ملايين ضعف الضغط الجوي (أو طائرة ضخمة متوازنة على رأس إبرة). وأقل ما يمكن قوله إن تحقيق هذا القدر من الضغط في أي مختبر هو أمر صعب جداً. “تحقيق ضغط بمعدل أعلى من 100 غيغاباسكال هو عمل للمتخصصين”، كما تقول ماينارد-كاسلي. وتضيف قائلة: “وعدد قليل جداً من المتخصصين قادر على تحقيق ذلك بشكل روتيني”.
أقرب محاولة لتحقيق هذا العمل كانت في عام 1998. عندما استخلص فريق من جامعة كورنيل Cornell University في نيويورك نماذج من الهيدروجين باستخدام ما يسمى بـ “سندان الألماس” Diamond anvil. هذه الأداة هي عبارة عن قطعتين من الألماس مصممتين بطرف حاد جدا، بما يقارب ربع قطر شعرة بشرية. وعلى الرغم من صغرها الشديد، فإن هذه الأطراف تستطيع حبس بعض الهيدروجين فيما بينها. يلف الباحثون مسمارًا لدفع الألماستين كلا منهما باتجاه الأخرى لضغط الهيدروجين المحتجز بينهما. وفي النهاية، بعد تحطيم 15 زوجا من الألماس، استطاع الباحثون تحقيق ضغط بين الطرفين بمعدل 342 غيغاباسكال، والاقتراب من معدل الضغط الموجود في باطن الأرض. وفقا للنظرية، كان يجب أن يكون هذا الضغط كافيا لتحويل الهيدروجين إلى هيدروجين معدني. لكن لم يكن ذلك كافياً.
بعد أربع سنوات، أثبت فريق بقيادة بول لوبيير Paul Loubeyre، من الهيئة الفرنسية للطاقة الذرية French Atomic Commission (اختصارًا: الهيئة CEA) بالقرب من باريس، أن هذه النتيجة كانت متوقعة. كانت الحسابات لمعدل الضغط اللازم للتحول إلى الحالة المعدنية تعتمد على قياس “الفجوة” Gap بين حالتين مختلفتين للطاقة Energy states المتوفرة للإلكترون في ذرة الهيدروجين. فكلما زاد الضغط صغرت الفجوة. وهذا يسبب تغييرا في قدرة الإلكترون على امتصاص الضوء أو انبعاثه. فقبل أن تغلق الفجوة وتصير المادة معدنية، يمتص إلكترون الهيدروجين الضوء، لكنه لا يبُثُّه – وهذا ما يجعل المادة غير شفافة. لكن بمجرد أن تغلق الفجوة تستطيع الإلكترونات أن تتحرك بحرية كموصلات كهربائية، وتعيد بث الطاقة الضوئية الممتصة، مما يجعل المادة عاكسة بشدة. واعتمادا على ملاحظاتهم من التجربة ظن لوبيير وزملاؤه أنه لإنتاج الهيدروجين المعدني هناك حاجة لمعدل ضغط يعادل 450 غيغاباسكال.
استغرق الأمر 13 عاماً أخرى، لكننا وصلنا إلى ذلك. في الحقيقة، حققنا ضغطاً بمعدل 495 غيغاباسكال، وأنتجنا الهيدروجين المعدني. على الأقل هذا ما ادعته دياس وإسحاق سيلفيرا Isaac Silvera اللذان كانا يعملان في جامعة هارفارد Harvard University، في بحث خضع لمراجعة الأقران في عام 2017 ونشر في مجلة ساينس Science. وقد أصدرت هارفارد بياناً صحفياً حيث أطلق سيلفيرا على إنجازهما “الكأس المقدسة لفيزياء الضغط العالي”.
ليس الأمر بهذه السرعة، كما ذكر لوبيير: ” أعتقد أن البحث ليس مقنعاً أبداً”، وفق ما قال لمجلة نيتشر Nature التي تتمتع بسمعة تضاهي سمعة مجلة ساينس. يرجع السبب إلى أن ادعاء الصفات المعدنية يرتكز على قياسات انعكاسية Reflectivityالهيدروجين: تحت درجة ضغط 495 غيغاباسكال صار لامعاً. لكن، كما يقول لوبيير، قد يرجع ذلك إلى أسباب أخرى، مثل أكسيد الألمنيوم الذي يغطي أطراف الألماس، والذي قد يغير انعكاس الهيدروجين تحت الضغط.
استُقرئ Extrapolated الضغط الذي تحقق من معايرة أُخذت على أساس الطريقة التي يهتز بها الألماس تحت الضغط العالي، بدلًا من قياس الضغط مباشرة. لم يقتنع باحثون آخرون بهذا التفسير، واقترحوا وجود احتمال مفاده أن معدل الضغط لم يتعد 350 غيغاباسكال.
من جهته، يؤيد ميخائيل إيرميتس Mikhail Eremets ، من معهد ماكس بلانك للكيمياء Max Planck Institute for Chemistry في ماينز بألمانيا ما ذكر عن أن ادعاءات هارفارد لم تُثبت بعد. في رد نُشر في الأرشيف الإلكتروني للمسودات العلمية arXiv- وهو أرشيف على الإنترنت للأبحاث و الأوراق العلمية التي لم تخضع بعد لمراجعة الأقران- قال هو وزميله أليكساندر دروزوف Alexander Drozov : “لم نجد دليلاً مقنعاً على وجود الهيدروجين المعدني في بياناتهم المنشورة”. إنهم يعلمون تماماً عما يتحدثون عنه. فهم أيضاً يجرون محاولات لإنتاج الهيدروجين المعدني. إلى جانب الإشارة إلى احتمال أن يكون تغير الانعكاس ناتجا من المادة التي تغطي الألماس، فإنهم يشيرون أيضاً إلى أن قياس الضغط كان غامضاً. من الواضح ما يجب فعله الآن: إعادة التجربة. لكن القول أسهل من الفعل لأن التجربة قد دمرت نفسها.
لطالما خشيت دياس وسيلفيرا دائماً من هشاشة عينتهما Sample ، لذا قلصا عدد ومدى القياسات التي أجرياها. وقد شعرا بأن من الضروري أن ينشرا نتائجهما المهمة. لكن عندما عادا لإجراء المزيد من الأبحاث، اكتشفا اختفاء العينة. وبعد مرور عامين، ما يزالان يجهلان ما حدث لها. الفضة من الهيدروجين المعدني- إذا كان فعلاً هيدروجينا معدنيا- كان بسمك 10 مايكرومترات فقط. ربما انزلق من بين طرفي السندان وفُقد في قاع الجهاز. أو ببساطة ربما تبخر. لكنهما يصران على صحة ادعاءاتهما. ” لقد أجبنا عن جميع الانتقادات”، كما يقول سيلفيرا. ويوافقه دياس الرأي: ” نحن واثقون أن ما رأيناه كان هيدروجينا معدنيا”.
ترك الخلاف الباب مفتوحا أمام رؤية مؤكَّدة للهيدروجين المعدني- وقد تدخل لوبيير وفريقه للحصول على فرصة لنيل الجائزة.
وفي يونيو2019، نشر لوبيير ادعاء جريئا على الأرشيف الإلكتروني arXive. بعنوان <<ملاحظات المرحلة الانتقالية الأولى للهيدروجين المعدني تحت درجة ضغط 425 غيغاباسكال>> Observation of a first order phase transition to metal hydrogen near 425 GP”، وشارك في كتابة البحث زميلا لوبيير في الهيئة CEA: فلورينت أوشيلَّي Florent Occelli وبول دوماس Paul Dumas من منشأة أبحاث السينكروترون الفرنسية French Synchrotron SOLEIL research facility . ويذكر في البحث: “هنا نعرض لكم ]… [ المرحلة الانتقالية عند درجة ضغط 425 غيغاباسكال، من هيدروجين جزيئي عازل صلب إلى هيدروجين معدني”. وكما يقولون، فقد استطاعوا تحقيق هذه الدرجة من الضغط بسبب نوع جديد من سندان الألماس الذي ساعد على تطويره أوشيلي.
والآن لن تستغرب من وجود فرق أخرى من الباحثين تنادي بعدم صحة هذه النتيجة. إيرميتس يعتقد أن هذه الملاحظات مثيرة للاهتمام، لكنها بعيدة كل البعد عن أن تكون حاسمة. ودياس أعلنت رفضها بالقدر نفسه.
ولإثبات وجود حالة معدنية، من المهم شرح حالة من اثنتين، كما تقول دياس. الحالة الأولى هي أن الموصلية الكهربائية تظل محدودة في حين تتجه درجة الحرارة نحو الصفر المطلق. والحالة الثانية هي توضيح أن انعكاسية المادة تزيد مع زيادة الطول الموجي. “لم تظهر أي من هاتين الحالتين”، كما يقول دياس. إضافة إلى ذلك، كما يُضيف، فإن العديد من هذه الملاحظات شاهدتها فرق أخرى من الباحثين. ويضيف إيرميتس إن معظم هذه النتائج “الجديدة” أُبلغ عنها من قبل- بعضها أبلغ عنها فريقه. ويشعر بالظلم لأن نسخة لوبيير من البحث لا تستشهد بأي من أعمالهم.
مزيد من الضوء، قليل من الحرارة
حاولت مجلة نيوساينتست New Scientist التواصل مع لوبيير وزملائه للتعليق على الموضوع لكنها باءت بالفشل ولم تحصل على رد منهم، كما أن العديد من التساؤلات التي طرحها باحثون آخرون لم تلق إجابة. أما أحد المراقبين الخارجيين، مثل ماينارد-كاسلي فترى أن الطريقة الوحيدة للحصول على إجابات حاسمة هي الانتظار حتى يُنشر البحث في إحدى الدوريات الخاضعة لمراجعة الأقران. وتقول: “بصفتي عالمة، علي الانتظار إلى أن تظهر مراجعات الأقران”.
إذاً، إلى أين سيقودنا هذا الأمر؟ هل سنضطر إلى الانتظار مدة 90 عاماً أخرى حتى نصنع مصدرا أفضل لوقود الصواريخ وموصلا خارقا كالموجود داخل كوكب المشتري؟ ربما لا. يدعي دياس وسيلفيرا أنهما أعادا تجربتهما ورصدا النتيجة نفسها. ويقول سيلفيرا: “قبل نحو عام، أعدنا إنتاج عينة لامعة تحت درجة ضغط عالية، لكن لأسباب فنية لم نتمكن من قياس الضغط، لذلك لم ننشر تجربتنا”. منذ ذلك الحين، انتقلت دياس إلى جامعة روشيستر، وتقول: “أبني مختبرا جديدا بقدرات تمكن من إنتاج الهيدروجين المعدني. وإنني واثقة من قدرتنا على تكرار هذه التجربة”. لا ينتظر الجميع بتلهف، إذ يعتقد أشكان سلامات Ashkan Salamat الذي يدرس نظم الضغط العالي في جامعة نيفادا University of Nevada بلاس فيغاس أن الوقت حان للمضي قدماً. ويقول: “إذا لم نكن حذرين، فسينتهي الأمر بثلاثة او أربعة أشخاص يعيدون عمل بعضهم بعضاً، وكل منهم يدعي أنه الأول”. ويضيف قائلًا: “سيكون ذلك مملاً”، في حين يوجد الكثير مما ينتظر الاكتشاف. ويقول: “يبدو لي أن بداية المعدنة Metallisation مثبتة. لكن ما لا نعلمه هو إذا كانت سائلة أو صلبة، أو إذا كانتموصلاً خارقاً في درجة حرارة الغرفة. لا يزال هناك الكثير لعمله: ما نحتاج إليه الآن هو أن نعمل معاً للإجابة عن هذه التساؤلات”.
© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.