أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
ابتكارزعزعةمقابلات

زعزعة 2020: مقابلة مع كلايتون إم. كريستنسن

مع زيادة التكنولوجيا ورأس المال وتيرة الابتكار، صار تفكير كريستنسن أكثر أهمية اليوم من أي وقت مضى. فما الذي نعرفه الآن عن قوة الزعزعة وإلى أين تأخذنا؟

كلايتون إم. كريستنسن، قابلته كارين ديلون

في العقود التي تلت تقديم كلايتون إم. كريستنسن Clayton M. Christensen نظريته في الابتكار المزعزِع Theory of Disruptive Innovation للعالَم للمرة الأولى، أدى تفكيره إلى توليد عوائد بالبلايين من الدولارات، وإنشاء المئات من الشركات، وبروز نموذج فكري Paradigm جديد تماماً لكيفية قلب الشركات الداخلة إلى قطاع ما لشركات عملاقة راسخة. وأُتِيحت لكارين ديلون Karen Dillon — المتعاونة مع كريستنسن لفترة طويلة والمحررة الضيفة لهذا العدد الخاص من إم آي تي سلون مانجمنت ريفيو — الفرصة للجلوس معه قبل وفاته في يناير لتستشف كيف صقل تفكيره، وكيف بدا مستقبل الابتكار من خلال تلك العدسة، وما هي التساؤلات التي كان لا يزال يتصارع معها حتى ذلك الحين. وهذه نسخة محررة من محادثتهما.

إم آي تي سلون مانجمنت ريفيو: بمرور السنين، صارت عبارة الابتكار المزعزع تعني أشياء كثيرة للناس. ولكن الإيحاء الواسع النطاق والجارف بأن «المزعزِع» مرادف لـ«بداية طموحة» غير صحيح، أليس كذلك؟ لهدف التوثيق: كيف ترغب في تعريف الابتكار المزعزع؟

كلايتون إم. كريستنسن: يصف الابتكار المزعزع عملية Process يتجذر من خلالها منتج Product أو خدمة Service يغذيهما عامل تمكين تكنولوجي في البداية في تطبيقات بسيطة في الجانب الرخيص من سوق ما Low end of a market — بأن يكونا عادة أقل تكلفة وأسهل منالاً — ثم يتحركان بلا هوادة نحو الجانب الأغلى، فيزيحان في نهاية المطاف منافسين أساسيين. وليست الابتكارات المزعزعة ابتكارات مميزة أو «بدايات طموحة» تعمل لتغيير كيفية القيام بالأعمال في شكل كبير، بل تتألف بدلاً من ذلك من منتجات وخدمات بسيطة وسهلة المنال ميسورة التكلفة. وأحياناً كثيرة تبدو هذه المنتجات والخدمات متواضعة عند بدايتها، لكن بمرور الوقت، تمتلك الإمكانية اللازمة لتحويل Transform صناعة ما. وتحدث روبرت ميرتون Robert Merton عن فكرة «الطمس بواسطة التأسيس» Obliteration by incorporation، حيث يتعمم مفهوم إلى حد يجعل أصوله طي النسيان. وأخشى أن يكون ذلك قد حدث للفكرة الأساسية عن نظرية الزعزعة التي من المهم فهمها لأنها أداة يستطيع الناس استخدامها لتوقع السلوك. وهذه هي قيمتها — ليس فقط لتوقع ما سيفعله منافسكم بل أيضاً لتوقع ما قد تفعله شركتكم. فهي يمكنها أن تساعدكم على تجنب اختيار الاستراتيجية الخاطئة.

كنت من كبار المؤيدين لمنافع النظرية السببية Causal theory. فما رأيك في الحجة القائلة إن البيانات الكبيرة Big data تُجنب الحاجة إلى السعي وراء العلاقة السببية؟

كريستنسن: حسناً، من المهم أولاً أن ندرك أن البيانات ليست هي الظاهرة Phenomena في حد ذاتها. هي تمثيل Representation للظواهر. كذلك يجب أن ندرك أن الله لم يخلق البيانات؛ أي جزء من البيانات التي صادفتموها أو صادفتها أنا يوماً ما أنشأها إنسان ما. ومع عجزنا عن رصد هذا العالَم المعقد تعقيدا رائعا، نستخدم نحن البشر عقلانيتنا Rationality المحدودة لاتخاذ «قرارات» حول أي جوانب من الظواهر ينبغي أن نضمنها إلى بياناتنا، وأي جوانب ينبغي أن نستبعدها منها.

وتصبح هذه القرارات مضمنة في الأدوات التي نستخدمها لإنشاء البيانات ومعالجتها. وتعكس هذه القرارات، بحكم تعريفها، طرق تفكيرنا بالعالم الموجودة مسبقاً. وقد تكون طرق التفكير هذه جيدة وموثوق بها في بعض الأحيان — ترشدها العلاقات السببية المعروفة. ولكن هذا غير صحيح في بعض الأحيان. ولا يمكن لأي كمية أو سرعة أو نقاوة للبيانات أن تحل هذه المشكلة الأساسية.

وفي اعتقادي أننا، ليتسنى لفهمنا العلمي للعالم أن يتقدم، يتعين علينا أن نزحف باستمرار إلى داخل الشركات والمجتمعات الصغيرة وحياة الأفراد من أجل إنشاء بيانات جديدة في فئات جديدة تكشف عن تبصرات جديدة.

مثلاً، في أبحاثي المبكرة حول صناعة محركات الأقراص Disk drives، فهرستُ يدوياً كل محرك أقراص اشتُري أو بيع بمرور السنين بعد دراسة المئات من التقارير حول «الأقراص/ الاتجاهات». وبينما بدأت أرى نمطاً من الشركات المتخصصة بالمنتجات الرخيصة يبرز بسرعة ويتحدى الشركات الرائدة الراسخة، لم أدرك تماماً مدى عجز الشركات الرائدة الحالية عن الاستجابة للشركات الداخلة المزعزِعة إلى أن ذهبت إلى سيليكون فالي وتحدثت إلى المسؤولين التنفيذيين Executives في المواقع. والبيانات وحدها ما كانت لتولّد هذه التبصرات.

وتميل البيانات الكبيرة أيضاً إلى تغطية الحالات الشاذة أو تجاهلها ما لم تُعَد بعناية لتظهر هذه الحالات الشاذة للبشر. وهذا يعني أن البيانات الكبيرة تميل إلى التركيز في شكل أكبر على الارتباط المتبادل وليس العلاقة السببية، وهي بهذا تتجاهل الأمثلة حيث لا يتبع شيء ما الشيء الذي يميل إلى الحدوث في المتوسط. ولن يتسنى لنا أن نطور فهماً أعمق للعلاقة السببية إلا من خلال استكشاف الحالات الشاذة Anomalies. وإذا فكرتم في الأمر، فقد كان اتباع نهج البيانات الكبيرة هو ما غذى فهمنا للشمس والقمر والنجوم والأرض لسنوات، لكن فقط عندما نظر غاليليو Galileo عبر تلسكوب، تمكنا من أن نبدأ فهماً أعمق لكيفية تحرك هذه الأجرام السماوية نسبة إلى بعضها بعضاً.

علّقتُ بالقول إن عدم القدرة على توليد نمو مُزعزِع يساعد على شرح الوعكة الاقتصادية في اليابان. فهل تشعر بقلق من أن سلسلة الاندماجات Mergers التي تؤدي إلى شركات أكبر وأكبر يبدو أنها تركز في شكل أساسي على عمليات إعادة شراء الأسهم تنشئ الظروف نفسها في الولايات المتحدة؟

كريستنسن: أشعر بلا شك بقلق كبير من هذا الأمر. ففي الكتاب الأخير الذي كتبناه أنتم وأنا معاً، مفارقة الازدهار The Prosperity Paradox، نصِفُ ثلاثة أنواع من الابتكار، لكل منها أثر مختلف في نمو شركة ما، و — ومن ثم — دولة ما. واستدامة الابتكار Sustaining innovation، وهي أمر يفهمه أغلب الناس، تتلخص في العملية التي تجعل المنتجات الجيدة أفضل. وهذا يشكل أهمية كبرى بالنسبة إلى أي اقتصاد، لكن السوق، بمجرد أن تنضج، تولد قدراً ضئيلاً من صافي النمو Net growth على صعيد المصانع الجديدة، والوظائف الجديدة، والاستثمارات التكنولوجية الجديدة، وما إلى ذلك. وهناك أيضاً الابتكار في مجال الكفاءة Efficiency innovation، الذي يحدث عندما تحاول شركة ما أن تفعل أكثر بموارد أقل. وبطبيعة الحال، لا تعمل الابتكارات في مجال الكفاءة لتوليد نمو جديد، وذلك لأن الغرض منها يتلخص في استخراج نتائج أكثر من الموارد التي تخصصونها. وهي تولّد تدفقاً نقدياً حراً للشركات، وهو أمر بالغ الأهمية، لكن إن لم يُعَد استثماره على النحو الملائم، فلن تؤدي هذه الأموال النقدية بالضرورة إلى نمو جديد. وهناك نوع ثالث من الابتكار يتألف من تطوير منتجات بسيطة للسكان غير المعروضة عليهم ولم يكن بوسعهم تاريخياً أن يتحملوا تكلفتها أو لم يستطيعوا الوصول إليها. وهذه المنتجات هي ما نسميها الابتكارات المنشئة للأسواق Market-creating innovations، أي أنها تبني سوقاً جديدة لعملاء جدد. وتشكل هذه الابتكارات مصدراً للنمو في أي اقتصاد، مع تخصيصها للموارد، والاستثمار، والعمليات، والموظفين، والبنية التحتية من أجل خدمة هذا العدد الأكبر من العملاء.

وفي اعتقادي أننا في الولايات المتحدة، على غرار العديد من البلدان المتقدمة الأخرى، نستثمر قدراً أكبر مما ينبغي من الطاقة في الكفاءة واستدامة الابتكارات، وليس قدراً كافياً في الابتكار المنشئ للأسواق. وليست عمليات إعادة الشراء خاطئة بطبيعتها، لكنها حد أقصى يشير إلى عجز أي شركة (وربما نظام اقتصادي بالكامل!) عن تحديد الفرص المنشئة للأسواق. وهناك العديد من الأسباب التي تجعل هذا يحدث، لكن على الرغم من بعض التحسن التدريجي الأخير في الناتج المحلي الإجمالي GDP ومعدلات البطالة، فإن الصورة الاقتصادية البعيدة الأجل لا تبدو وردية للغاية في رأيي ما دامت هذه المشكلة الأكثر جوهرية بلا علاج.

في عام 2013 توقعت ارتجاليا أن 50% من الكليات والجامعات الأربعة آلاف في الولايات المتحدة ستفلس في غضون 10 إلى 15 سنة. وأنا أعلم بأنك كنت تقول هذا آنذاك في محادثة عفوية، لكن هذه الملاحظة استُشهِد بها عدة مرات منذ ذلك الوقت بوصفها «نذير النهاية» للتعليم العالي. والآن بعدما أُتِيح لك مزيد من الوقت للتفكير في هذا التوقع، هل تريد مراجعته؟

كريستنسن: سأوضح بعض الأمور حول التوقع. بدلاً من التركيز على الإفلاس، وهو أمر يصعب على الكليات أن تعلن عنه (لأسباب مؤسسية)، سيكون ما سنراه في نهاية المطاف كثيراً من عمليات الإغلاق والاندماج لدى الكليات. ومنذ عام 2015، أغلقت 14 كلية واندمجت تسع مدارس في نيو إنغلاند وحدها. وطُوِّرت أخيراً شركة استشارية جديدة لمساعدة الكليات على الاندماج. لذلك لن تختفي هذه المشكلة. وفي اعتقادي بلغ 50% من الكليات النهاية العليا للحجم، لكنها لم تخرج من نطاق الاحتمال، في حين يُعَد فشل 25% إلى 30% من الكليات على مدى العقدين المقبلين أمراً واقعياً للغاية.

وكان زملائي على قدر كبير من التبصر وأضافوا قدراً ضخماً من الدقة والتبصر لما توقعته قبل سنوات عديدة. فمايكل هورن Michael Horn، أحد المؤلفين المشاركين لي في كتابة الطبقة المُزعزِعة Disrupting Class والمؤسس المشارك لمعهد كلايتون كريستنسن Clayton Christensen Institute، كتب أخيراً ملخصاً بالِغ التفصيل لما كان في واقع الأمر توقعاً لنسبة 25% أعلناه معاً في النيويورك تايمز The New York Times في عام 2013. وعلى الرغم من تسارع وتيرة الزعزعة — في هيئة بدائل جامعية أسرع وذات تكلفة ميسورة أكثر وأكثر ملاءمة يغذيها التعلم عبر الإنترنت — والتهديد الضخم للمؤسسات الراسخة، لطالما شعرت في نهاية الطاف بأن الخطر الأكبر يتلخص في أن نماذج الأعمال Business models المؤسسات الراسخة ليست مستدامة ببساطة.

نود أن نستمع إلى أفكارك في شأن طبيعة الزعزعة اليوم في مقابل ما كانت عليه قبل عقدين. فكيف تطور التهديد الذي يواجه الشركات الراسخة؟ وكيف تغيرت فرصة زعزعة الأسواق الراسخة؟ نفترض أن كل شيء قد ازداد سرعة وأن تهديدات الشركات الداخلة بإزاحة الشركات الراسخة صارت اليوم أكبر — لكن هل هذه هي الحال حقاً؟

كريستنسن: إن آليات الزعزعة هي ذاتها حالها في أي وقت مضى، لكن الابتكارات الأخيرة في مجال التكنولوجيا ونماذج الأعمال تقدم فرصاً وتحديات فريدة لكل الشركات الراسخة والشركات الداخلة. مثلاً، لم تُزعزَع صناعة الفنادق لعقود، فقط لتأخذها على حين غرة شركات مثل الشركة إير بي إن بي Airbnb. فالإنترنت، إضافة إلى سهولة الوصول إلى الأجهزة المحمولة في كل مكان تقريباً، يعمل باستمرار على إنشاء نقاط دخول Entry points مبتكرة للغاية للشركات بغرض استهداف المستهلكين غير الاعتياديين بعروض ذات تكلفة ميسورة أكثر. لذلك لا أعتقد أنَّ خطر الإزاحة أكبر بالضرورة، لكن من المؤكد أن قدرة المنصات الرقمية على الظهور والتوسع أمر لم أتصوره في وقت مبكر من أبحاثنا ويستحق مزيد من الدراسة.

هل يمثل ظهور «التحول الرقمي» Digital transformation أي حالات شاذة في نظرياتك؟

كريستنسن: لا شك في أن هناك حالات شاذة تنتظر أن تُكتشَف، وسيُسفر مزيد من الأبحاث في الشركات التي تركز على التكنولوجيا الرقمية عن تبصر عميق في حدود نظرية الابتكار المزعزع. ولكنني أعتقد أنَّ الأسئلة الأساسية التي طرحناها لعقود تنطبق الآن بالقدر نفسه في سياق رقمي Digital كما في سياق تناظري Analog. من هم أفضل عملائكم؟ وما الذي تستطيع مؤسستكم القيام به أو لا تستطيع القيام به؟ ما هي «الوظائف» التي تحاولون مساعدة العملاء على القيام بها في حياتهم؟ وفي أي ظروف ينبغي عليكم دمج بنية شركتكم وبنية منتجكم، وفي أي ظروف ينبغي عليكم تفكيكهما؟ ومن هم المستهلكون غير الاعتياديين، وما الذي يحد من وصولهم؟ تُعَد هذه الأسئلة الاستراتيجية شاملة.

تتوقع نظرية الابتكار المزعزع ما قد تفعله شركة موجودة في مواجهة شركة داخلة جديدة مزعزعة. هذا يعني أن الشركات الراسخة لا بد من أن تكون ضليعة فيما لا ينبغي فعله. فلماذا، إذًا، لم يتمكن مزيد من الشركات من حل معضلة المبتكر؟

كريستنسن: لا شك في أن الشركات تعرف عن الزعزعة أكثر مما كانت تفعل في عام 1995، لكنني لا أزال أتحدث وأكتب إلى مسؤولين تنفيذيين لم يدركوا بحزم العواقب المترتبة على هذه النظرية. فالقوى التي تتحد لإحداث زعزعة تشبه الجاذبية — فهي ثابتة وتعمل دائماً داخل الشركة وحولها. ويتطلّب الأمر قادة ماهرين للغاية ومحنكين للغاية للتنقل في عالم الزعزعة على أساس ثابت، ويدرك العديد من المديرين على نحو متزايد كيف يفعلون ذلك.

وفي تجربتي، يبدو من الأسهل أحياناً كثيرة بالنسبة إلى المسؤولين التنفيذيين أن يكتشفوا الزعزعات التي تحدث في صناعة غيرهم بدلاً عن صناعتهم، فمعرفتهم العميقة والدقيقة قد تصرف انتباههم عن رؤية الإشارات الواضحة. ولهذا السبب تشكل النظرية أهمية بالغة. فالنظرية تتوقع ما سيحدث من دون أن يعكرها رأي شخصي. فأنا لا أمتلك رأياً حول ما إذا كانت شركة بعينها عُرضة للزعزعة أو لا — لكن النظرية تمتلك رأياً. ولهذا السبب تكون النظرية أداة قوية إلى هذا الحد.

يشكل فهم العديد من نظرياتك الأخرى أهمية حيوية لدى الشركات التي لا ترغب في تجنب الزعزعة فحسب، بل كذلك الشركات التي تطمح إلى أن تكون الجهة المزعزعة. وتشرح نظريتكم حول الوظائف التي يتعين القيام بها كيف يمكن لجهة مزعزعة محتملة أن تحدد المنتج أو العرض الصحيح في حين لا تستطيع جهة موجودة أن تفعل ذلك على نحو سليم أحياناً كثيرة. هل يمكنك أن تشرح ماهية الأمر وسبب قوته؟

كريستنسن: قضيت أنا وزملائي سنوات في محاولة فهم سلوك العملاء — أي لماذا يختار شخص ما شراء منتج أو خدمة ما من بين خيارات أخرى. وما نعرفه هو أن معظم الشركات تميل إلى التركيز على البيانات للمساعدة على توجيه قراراتها: هي تعرّف حصة السوق Market share معرفة جيدة، ومبيعات المنتجات في أسواق مختلفة، وهامش الربح Profit margin للمئات من البنود المختلفة، وما إلى ذلك. ولكن هذه البيانات كلها تركز على العملاء والمنتج نفسه — وليس ما يحاول العميل إنجازه في عملية الشراء. ونعتقد أن هناك طريقة أفضل لفهم هذا الاختيار. ونطلق على هذه الطريقة نظرية الوظائف التي يتعين القيام بها Theory of Jobs to Be Done.

وهناك تبصر بسيط لكنه قوي في أساس هذه النظرية: فالعملاء لا يشترون المنتجات أو الخدمات؛ هم يسحبونها إلى حياتهم لإحراز التقدم. ونطلق على هذا التقدم «الوظيفة» التي يحاولون القيام بها، وفي استعارة لدينا نقول إن العملاء «يوظفون» منتجات أو خدمات للقيام بهذه الوظائف. وعندما تفهمون هذا المفهوم، تصبح فكرة الكشف عن وظائف المستهلكين منطقية بديهيا.

ولا تمتلك كل «وظيفة» أبعاداً وظيفية فحسب، بل كذلك أبعاداً عاطفية واجتماعية. وما لم تفهموا السياق الكامل الذي يختار فيه عملاؤكم «توظيف» منتجكم أو خدمتكم، من غير المرجح أن تنشئوا العرض المناسب لهم. وسيقتصر الأمر على حالة راكدة بينكم وبينهم إلى أن «يصرفوا» المنتج ويوظفوا منتجاً يفهمهم في شكل أفضل. وأحياناً كثيرة يحدد المزعزعون الناجحون الوظيفة التي يتعين القيام بها من خلال عرضهم في شكل فوري. وتحاول الشركات ذات المنتجات الراسخة إضافة خصائص إلى منتجاتها لجعلها جذابة، لكنها في واقع الأمر تفتقد إلى التبصر الأساسي فيما يحاول العملاء إنجازه. ولهذا السبب، نجحت نتفليكس Netflix للغاية في زعزعة بلوكبستر Blockbuster. فقد أدرك ريد هيستينغز Reed Hastings بحدسه أن عملاءه وظفوا نتفليكس للاسترخاء في منازلهم كلما أرادوا ذلك. وركزت بلوكبستر في شكل كبير على زيادة ربحيتها (مثلاً، من خلال الرسوم التأخير المروعة التي دفعناها جميعاً بخجل) بدلاً من فهم السبب الذي دفعنا إلى توظيف فيديو في المقام الأول. وفهم الوظيفة التي يتعين القيام بها يوفر لنا خريطة طريق للابتكار الناجح.

«لقد رحبت دائماً بما يتحدى تفكيري. وأعتقد أنَّ فهم الحالات الشاذة — أي ما لا تشرحه نظرية ما — يساعد على جعل النظرية أفضل وأكثر قوة» — كلايتون إم كريستنسن

 

أعلم بأنك تستمتع بتحدي نظرياتك وتقويتها. وهناك يافطة في مكتبك بكلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد Harvard Business School تقول، «المطلوب حالات شاذة». هل «انتهيت» يوماً من تحسين نظرياتك؟

كريستنسن: لقد رحبت دائماً بما يتحدى تفكيري. وأعتقد بأنَّ فهم الحالات الشاذة — أي ما لا تشرحه نظرية ما — يساعد على جعل النظرية أفضل وأكثر قوة. فنحن ننقح النظرية بتلك التبصرات. فقد تطور تفكيري في شأن نظرية الزعزعة تطوراً ضخماً منذ أن نشرت نتائجها للمرة الأولى في عام 1995. ولم يكن هدفي قطّ أن أكون على حق بل أن أعثر على الإجابة الصحيحة. والأمران مختلفان للغاية. وكنت أعتقد منذ فترة طويلة أنَّ طرح الأسئلة المناسبة هو السبيل الوحيد للوصول إلى الإجابة الصحيحة. ويتطلّب فهم الأسئلة التي يجب طرحها عملاً حقيقياً.

برأيك، ما الذي يسيء الأشخاص فهمه حول نظرية الزعزعة؟

كريستنسن: بعيداً عما ذكرتِ بالفعل، وهو أن الزعزعة لا تعني «الإنجاز الخارق» Breakthrough أو «الجديد واللامع»، يعتقد عدد أكبر مما ينبغي من الأشخاص بأن الزعزعة عبارة عن حدث Event. فالزعزعة هي، بدلاً عن ذلك، عملية Process. وهي متشابكة بعملية تخصيص الموارد في الشركة، والاحتياجات المتغيرة للعملاء والعملاء المحتملين، والتطور المستمر للتكنولوجيا.

هناك مجموعة متنامية من الشركات التي تبدو أكثر مرونة في طريقة مقاربتها لاستراتيجيتها — مثل أمازون Amazon، وعلي بابا Alibaba، وتنسنت Tencent. لكن، هل هذه الشركات محصنة في مواجهة معضلة المبتكر؟

كريستنسن: هذا سؤال مثير للاهتمام للغاية. أنا أشعر بقلق دائماً حين نسمع أن الشركة الفلانية الناجحة جداً في زمنها كانت سبباً في حل مشكلة شاملة عميقة كهذه. تذكروا أن سيرس Sears وديجيتال إكويبمنت كورب Digital Equipment Corp وإيستمان كوداك Eastman Kodak لاقت كلها ترحيباً ذات يوم باعتبارها نموذجاً للإدارة الجيدة، إلى أن تغيرت الظروف.

ولكن يبدو أن هناك بعضاً من نقاط الارتباط المثيرة للاهتمام بين الشركات التي ذكرتيها. فقد بنت كلها مؤسسات تضع العملاء، ووظيفتهم التي يتعين القيام بها، في المركز. كذلك أظهرت قدرة على إدارة الاستراتيجية الناشئة جيداً. ومع ذلك، كانت أيضاً في ظروف مواتية شهدت فيها أعمالها الأساسية نمواً بمعدلات ضخمة، وتوفر لها حضور المؤسسين لمد يد المساعدة، ليشاركوا شخصياً في اتخاذ القرارات الاستراتيجية الرئيسية.

ولاحظ هاوارد يو Howard Yu، أحد طلبة الدكتوراه السابقين لدي (والذي يُدرِّس الآن في آي إم دي IMD)، مدى أهمية ما أسماه «الغوص العميق للرئيس التنفيذي CEO» في مصارعة التحديات المشتركة للابتكار، وكان من حسن حظ هذه الشركات كلها أن يكون لديها قادة مستعدون وراغبون، وقادرون على القيام بغوص عميق كهذا. والسؤال المطروح على كل من هذه الشركات هو، عندما يتباطأ النمو حتماً، وعندما يتحرك المؤسسون حتماً، هل طورت الأنظمة والعمليات والثقافة للحفاظ على هذه السيولة؟ أو حين تتغير الظروف هل ستنتهي القصة بالطريقة نفسها كما حصل مع شركات أخرى كانت مثالاً في الإدارة الجيدة؟ سنتعلم شيئاً مثيراً للاهتمام في أي من الحالين.

بالنظر فيما سبق هل أخطأت في مكان ما؟

كريستنسن: كانت لي أخطاء. من بين مباهج العمل كأستاذ جامعي يتحداني طلبتي في كل يوم، وأنا أعلم بأنني تعلمت منهم قدر ما تعلموا مني بمرور السنين.

ولعل الأمر الأكثر بروزاً أنني أسأت في البداية قراءة أبل آي فون Apple iPhone. فعندما أُطلِق الآي فون للمرة الأولى، اقترحتُ أن أبل دخلت في وقت متأخر إلى فئة مكرسة بالاستعانة باستراتيجية مستديمة، وأظهرت أبحاثي أن احتمالات نجاح هذه الاستراتيجية كانت منخفضة. لم أرَ الأمر مزعزعاً. ولكن بعد ذلك علمني أحد طلبتي السابقين، هوراس ديديو Horace Dediu، أنني أطرتُ المسألة في شكل غير صحيح. فقد اعتبرتُ أبل داخلاً متأخراً في مجال الهواتف المحمولة، في حين كانت في نظر هوراس بمثابة المحرك المبكر لأعمال «الحاسوب في جيبكم». وكان هوراس على حق. ومما يُحسَب لأبل أنها طورت نموذج أعمال سمح لها بأن تكون حاسوباً شخصياً محمولاً أفضل من أي شركة أخرى. وينسى الناس هذا الآن، لكن عند إطلاق الآي فون، كانت التطبيقات الوحيدة التي يمكنكم تشغيلها عليه هي تلك التي أنشأتها أبل. والواقع أن الشركة كانت ذات يوم تُشتهَر بحماية بنيتها المترابطة والخاصة. ويُحسَب لستيف جوبز Steve Jobs أنه أنشأ هو والفريق متجر التطبيقات آب ستور App Store وفتحا البنية بما يكفي للسماح بتفجر برامج مساعدة مفيدة Add-ons.

وعزز هذا المثال بالنسبة إلي أهمية الفهم الصحيح للفئات. فعندما يخبرني شخص ما بأنه مزعزع، يكون السؤال الأول الذي أطرحه دائماً هو، «بالنسبة إلى أي شيء؟». وهذا سؤال مهم، لأن الزعزعة مفهوم نسبي.

ما الأسئلة التي لا تزال ترغب في الإجابة عنها؟

كريستنسن: في العام الماضي أجريت محادثة مع مارك أندرسين Marc Andreessen حول مفارقة الازدهار The Prosperity Paradox، وناقشنا الدور الذي تؤديه الشركات في النمو الاقتصادي. وإذ كان عائداً للتو من اجتماع لمجلس إدارة الشركة أير بي إن بي Airbnb، وصف مارك كيف تعطي الشركة الناس العاديين منصة لعرض خدماتهم، سواء أكانوا يطهون وجبة لضيوفهم، أم يستضيفون فصلاً دراسياً، أم يقدمون جولة في مسقط رأسهم، وإلا فإن هؤلاء المواطنين لن يتمكنوا من المشاركة في صناعة السياحة، لكن بفضل المنصة الرقمية للشركة Airbnb، بات بوسعهم الآن أن يفعلوا ذلك.

وأدركت أن الشركات التي وضعنا لها ملفات تعريف Profiled لإثبات كيفية بناء الاقتصادات كانت في كل الحالات تقريباً شركات بنت منتجات مادية. وهذا يعني أنها تصنع بضائع وتوزعها وتبيعها وتخدمها وتصممها لسكان من المستهلكين غير الاعتياديين، ما أدى إلى نمو ضخم للشركة وأمتها. ولكن الشركة Airbnb وغيرها من الشركات المماثلة لا تضطر إلى القيام بأي من هذه الأشياء، غير أنها تعمل لتوليد الفرص في مختلف أنحاء العالم. وأنا حريص على استكشاف مزيد من إمكانية النمو لدى الشركات التي تعطي الأولوية للجانب الرقمي وفهم كيف يبدو النمو في السنوات المقبلة.

لا علاقة لأحد المواضيع التي أحببتُ استكشافها معك بمرور السنين بالتكنولوجيا بل بأمر أكثر أهمية، برأيي. أعلمُ بأنك فكرت كثيراً في تعليم الأطفال — سواء أفي حياتكم الشخصية أو في أبحاثكم. فما هي النصيحة التي قد تسديها إلى أهل الأطفال الصغار في شأن أفضل السبل لتعليم أبنائهم في العالِم المضطرب اليوم؟

كريستنسن: يقول أحد الاقتباسات المفضلة لدي إن الناس «ينخرطون بحماس في قضية طيبة». وأحياناً كثيرة جداً يخنق الأهل أطفالهم بالقوائم، والمناهج اللاصفية، وغير ذلك من الأشياء «الطيبة» فلا يتعلم الأطفال كيفية إدارة أنفسهم وتنظيم حياتهم. وفي عالمنا، هذه مهارة حيوية يجب أن يتحلى بها الأطفال بسبب مدى تشتت انتباهنا.

لقد قدمت نظرياتك التوجيه ليس فقط إلى رجال الدولة الأوائل في سيليكون فالي بل وأيضاً لجيل جديد من رواد الأعمال في مختلف أنحاء العالم. وقد تكون وصلت إلى قمة الثقافة الشعبية عندما كان اسمك الإجابة عن سؤال من مسائل برنامج ! Jeopardy! قبل بضع سنوات. ولكن ما الأمر الذي ترغب في أن يُؤثَر عنك أكثر من غيره؟

كريستنسن: أريد أن يُؤثَر عني إيماني بالله وإيماني بأنه يريد أن يكون كل البشر ناجحين. ويتلخص السبيل الوحيد لتحقيق هذه الغاية في مساعدة الأفراد في التحول إلى أشخاص أفضل، ويُعَد الابتكار المفتاح اللازم لفتح مزيد من الفرص لتحقيق هذه الغاية.

كارين ديلون Karen Dillon

(@kardillon) محررة سابقة في هارفرد بزنس ريفيو Harvard Business Review ومؤلفة ثلاثة كتب مع كلايتون إم كريستنسن حققت أعلى مبيعات. للتعليق على هذا الموضوع: http://sloanreview.mit.edu/x/61316.

Related Articles

Back to top button