التلوث بالرصاص يتعقب صعود ملوك العصور الوسطى وسقوطهم
عينة لب جليدية تحفظ سجلاً دقيقاً من غبار الرصاص من المناجم الإنجليزية
بقلم: آن غيبونز
ترجمة: صفاء كنج
تقع قرية كاسلتون Castleton الخلابة في مقاطعة بيك Peak District بإنجلترا، عند سفح نتوء من الحجر الجيري تتوجُّه قلعة تعود إلى القرون الوسطى. وفي الوقت الحاضر يتوافد المتنزهون للاستمتاع بالجمال الطبيعي الأخّاذ للمنطقة، محل أول حديقة وطنية في المملكة المتحدة. ولكن قبل 800 عام غطت أراضي المستنقعات البرية والوديان التي تنمو فيها الأشجار طبقة من “الرصاص السام الملوث” Toxic Lead pollution، كما يقول عالم الآثار كريس لافلاك Chris Loveluck، من جامعة نوتنغهام University of Nottingham، ويضيف قائلا: “إذ كانت غابة الصيد الملكية القريبة من القلعة أرضًا صناعية”.
في هذه المنطقة عمل المزارعون في تعدين وصهر الكثير من معدن الرصاص إلى الدرجة التي خلّفت بها آثاراً سامة في أجسادهم – الرياح حملت غبار الرصاص إلى الثلاجات الجليدية Glacier على بعد 1,500 كيلومتر في جبال الألب السويسرية. ويقول لافلاك وزملاؤه إن الثلاجة تحتفظ بسجل تفصيلي لإنتاج الرصاص في العصور الوسطى تمكنوا من فك شيفرته باستخدام طريقة جديدة يمكنها تتبع الترسب خلال بضعة أسابيع أو حتى أيام.
ويتعقب الرصاص إنتاج الفضة Silver لأنه غالباً ما يُعثر عليه في عرق الخام Ore نفسه، ووجد الفريق أن تلوث الرصاص الذي حُمل إلى مسافات بعيدة وفر مقياساً حساساً للاقتصاد الإنجليزي في العصور الوسطى. وكما ذكروا في دراسة نشرت في الأسبوع الأول من أبريل في مجلة أنتيكويتي Antiquity الأكاديمية، ارتفع مستوى الرصاص عندما تولى الملوك الحكم وسكوا العملات الفضية وبنوا الكاتدرائيات والقلاع. وانخفضت مستويات المعدن عندما تسببت الأوبئة أو الحروب أو الأزمات الأخرى في إبطاء نشاط التعدين وخلا الهواء من التلوث. وتقول المؤرخة جوانا ستوري Joanna Story من جامعة ليستر University of Leicester، التي لم تشارك في الدراسة: “هذا رائع – هناك ارتباط بين مستويات الرصاص وتوالى الملوك”.
يربط معظم الناس تلوث الرصاص بالثورة الصناعية Industrial Revolution، عندما انتشر استخدام الرصاص على نطاق واسع في الأصباغ والأنابيب والسيراميك. ولكن الباحثين عرفوا منذ فترة طويلة أن الرومان استخلصوا أيضًا مستويات عالية من الرصاص لأنهم كانوا يصهرون الفضة وخامات أخرى. وحدد العلماء مؤخراً مستويات عالية مذهلة من الرصاص ترسبت في العصور الوسطى في عينة لب جليدية Ice cores استُخرجت من جليد القطب الشمالي Arctic وفي رواسب بحيرات في أوروبا. واقترحت دراسة أجريت في العام الماضي (2019) أن معظم التلوث جاء من مناجم في ألمانيا.
غير أنّ الدراسة الجديدة تشير إلى إنجلترا. وبالتعاون مع لافلاك ومؤرخين من جامعة هارفارد Harvard University، حلل اختصاصي الثلاجات الجليدية بول مايفسكي Paul Mayewski وفريقه من جامعة ميْن University of Maine في أورونو، الرصاص من عينة لبية جليدية أستُخرجت عن طريق الحفر في عام 2013 من نهر كول نيفيتي الجليدي Colle Gnifetti Glacier في جبال الألب السويسرية. تحتفظ العينة اللبية التي يبلغ طولها 72 متراً بأكثر من 2000 سنة من التساقطات الناجمة عن التلوث والبراكين والعواصف الرملية الصحراوية. ولفك شيفرة هذا السجل بأعلى دقة ممكنة، استخدم الفريق الليزر لنحت برادة من الجليد بسماكة 120 مَيكرون، تمثل كل منها بضعة أيام أو أسابيع فقط من تساقط الثلوج، على امتداد طول العينة. ومن ثم حللوا العينات- نحو 50000 عينة من كل متر من اللب الجليدي- لمعرفة ما تحتوي عليه من نحو عشرة عناصر، بما في ذلك الرصاص.
بيانات اللب الجليدي تكشف عن نطاق التلوث الإقليمي وتظهر طفرات ملفتة في معدن الرصاص بين 1170 و1219 من الحقبة الحالية، ويقول المؤرخ ألكسندر مور Alexander More، من جامعة هارفارد ولونغ آيلاند Harvard and Long Island University، في بروكلين إنها: “أعلى مستويات تلوث بالرصاص قبل العصر الحديثModernity “. وتطابقت مستويات الرصاص مع تلك المسجلة في عام 1890، في ذروة الثورة الصناعية. (بلغ الرصاص ذروته في عينة لبية من سبعينات القرن العشرين، نتيجة استعمال البنزين الذي يحتوي على الرصاص).
وللعثور على مصدر طفرات الرصاص في القرون الوسطى، صمم الفريق نموذجاً للكيفية التي تحمل بها الرياح التلوث. ووجدوا أنه خلال الصيف، حملت الرياح الرصاص إلى ثلاجة من الشمال الغربي؛ من إنجلترا. وفي الصيف، بين حصادي موسمي الربيع والخريف، كان الموسم الذي استخرج خلاله مزارعو مقاطعة بيك أكبر كمية من الرصاص. وتقول المؤرخة آن كارمايكل Ann Carmichael من جامعة إنديانا Indiana University في بلومنغتون: “كانت النساء والأطفال يكسرون الصخور ويصهرون الخام في كاسلتون، ثم يُحمل الرصاص ويُنقل عبر جبال الألب الغربية”.
حفزت بيانات عينة اللب الجليدية لافلاك إلى التحقق من طريقة العمل في وثائق اللفائف الإنجليزية English Pipe rolls، وهي مخطوطات تاريخية تسجل الضرائب السنوية التي دفعها العاملون في المناجم على حمولات الرصاص. وخلال ورشة عمل في عام 2018 في هارفارد، وجد علماء الجيولوجيا والمؤرخون أن بإمكانهم مطابقة تلوث الرصاص في عينة اللب الجليدية السويسرية مع الضرائب المدفوعة ومع أحداث سجَّلها التاريخ الإنجليزي. وعلى سبيل المثال، عندما بيّن مايوفسكي على الرسم البياني أن التلوث بالرصاص انخفض في عام 1170، عرف لافلاك والمؤرخ من هارفارد مايكل ماكورميك Michael McCormick على الفور السبب. ويقول لافلاك: “كان عام 1170 هو العام الذي قُتل فيه رئيسَ أساقفة Archbishop كانتربري [توماس بيكيت Thomas Becket] بإيعاز من الملك هنري الثاني Henry II، وفيه صدر قرار الحرمان الكنسي بحق هنري. … لم يدفع أحد أي ضريبة”. وتوقفت أنشطة التعدين.
وبعد عشر سنوات بلغ تلوث الرصاص ذروته. وفي ذاك الوقت كان هنري الثاني قد تصالح مع البابا و”بدأ بتمويل إعادة بناء الأديرة السسترسية Cistercian abbeys”، كما يقول لافلاك. ويضيف قائلًا: “وكانت لديه طلبيات ضخمة من الرصاص” لبناء السقوف والمزاريب والصهاريج وكل هذا ينعكس في الضرائب على المناجم في مقاطعة بيك وفي كارلايل في شمال إنجلترا.
وعاد مستوى الرصاص ليرتفع في عينة اللب الجليدية مرة أخرى في عام 1193، عندما سُجن ريتشارد الأول Richard I (“قلب الأسد” Lionheart) في ألمانيا بأمر من الإمبراطور الروماني هنري السادس Holy Roman Emperor Henry VI، الذي طالب بفدية. ويقول ماكورميك: “يبدو أن جهوداً متضافرة جداً بُذلت لدفع الفدية”، وهذا أعطى دفعة كبيرة لأنشطة تعدين الرصاص والفضة.
ولكن ريتشارد الأول ترك لشقيقه الذي سيخلفه، جون الأول John I، خزينة مستنزفة. وخسر جون النورماندي في حرب مع فرنسا وبات يُنظر إليه على أنه ملك ضعيفً. واستقوى باروناته عليه وتمردوا في عام 1215، عندما أجبروا جون على توقيع الوثيقة العظمى Magna Carta، مما يمنح البارونات والكنيسة مزيداً من الحقوق ويقلل من قدرة جون على زيادة الضرائب، كما يقول ماكورميك. وتوفي جون في عام 1216 وخلال عملية انتقال السلطة العسيرة إلى ابنه هنري الثالث Henry III، لم تُسكّ النقود المعدنية وبذلك توقف التعدين. وانخفضت مستويات الرصاص في عينة اللب الجليدية.
أما بالنسبة إلى عمال المناجم وعائلاتهم، فربما تكون الفترات الاقتصادية الجيدة؛ فترة ارتفاع إنتاج الرصاص، قد تسببت أيضاً بآثار صحية مدمرة، كما يقول لافلاك الذي يشارك في دراسة مستمرة على هياكل عظمية عثر عليها في كاسلتون.
ولكن الكيميائي الجيولوجي باولو غابرييلي Paolo Gabrielli من جامعة ولاية أوهايو Ohio State University في كولومبوس، يشير إلى ضرورة توخي الحذر إذ ربما ساهمت مناجم دول أخرى أيضاً في طفرات الرصاص التي عثر عليها في عينة اللب الجليدية. ويطرح جو ماكونيل Joe McConnell ، اختصاصي المياه الثلجية من معهد أبحاث الصحراء Desert Research Institute، أسئلة حول مدى دقة الدراسة الجديدة. وماكونيل جزء من مجموعة بحثية منافسة اقترحت أن مناجم ألمانية هي مصدر المستويات العالية من الرصاص في عينات اللب الجليدية من القطب الشمالي. ويشير إلى أن الكثير من الثلج الذي يسقط على الثلاجات الجليدية السويسرية تذريه الرياح، ومن ثم فإن السجل الذي يتركه في الجليد غير مكتمل.
وتتمثل إحدى طرق تسوية الجدل بالتحقق من سجلات التعدين: يقول مكورميك إن تعدين الفضة والرصاص بلغ ذروته في منطقة ألمانية واحدة قبل هذه الفترة. ويمكن للباحثين أيضاً دراسة ما إذا كان الرصاص المستخرج من المناجم الإنجليزية وذاك المستخرج من المناجم الألمانية لهما توقيعات نظائر Isotopic signatures مميزة؛ إذا كان الأمر كذلك، فإن النظائر التي عثر عليها في السجل الجليدي قد تحدد المنطقة الأكثر تلويثاً. وفي هذه الأثناء، تحلل فرق أخرى عددا من اللب الجليدي في أماكن أخرى في جبال الألب بحثاً عن الرصاص. وتقول كارمايكل: “علينا إنجاز هذا العمل بسرعة قبل أن تذوب كل هذه الثلاجات الجليدية”.
© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved.