بقلم: ريتشارد ويب
ترجمة: عبد الرحمن أياس
هل أنتم محدَّدون مسبقاً؟
ماذا تفعلون الآن؟ تقرؤون هذه الكلمات. لماذا؟ من المفترض أن السبب هو أنكم اخترتم ذلك. وحتى لو لم تفعلوا – إذا شاهدتهم هذه الكلمات بعد سنوات في المستقبل وهي تبطّن صندوقاً منسياً من الأواني الفخارية في العلية، مثلاً؛ فإنه يمكنكم دائماً أن تختاروا إشاحة نظركم بعيداً الآن. فلديكم نوعية غامضة من الإرادة الإنسانية الحرة.
غامضة لأنها على الرغم من مناقشتها لآلاف السنين فلم يتمكن الفلاسفة من تحديدها – وعلى الرغم من أننا مقتنعون جداً بأننا نمتلكها، يجب أن تكون عند مستوى ما وهماً، فهي في الواقع مثل إحساسنا بالذات.
لنبدأ بالفيزياء. كلما قررتم شيئاً؛ يُطلق نمط معين من الخلايا العصبية في الدماغ إشارات لتحويل فكرتكم الخاصة إلى عمل – تتحركون نحو المطبخ لصنع القهوة، ربما، أو تصيغون نطقاً ستندمون عليه لاحقاً. وفي نهاية المطاف، يرجع كل شيء إلى نبضات الإلكترونات – أي الجسيمات الأساسية التي تتبع القوانين الصلبة للفيزياء، والتي بموجبها يُحدَّد كل شيء من قبل ما حدث مباشرة قبله.
هذا لا يترك مجالاً كبيراً للإرادة الحرة، على ما يبدو. وتقول جنان إسماعيل Jenann Ismael، الاختصاصية بعلم فلسفة الفيزياء من جامعة كولومبيا Columbia University بنيويورك: “إن القوانين الفيزيائية، إذا كانت حاسمة، تقول لي إن ما أقوم به كلّه، وما يحدث في العالم كلّه، وكل قرار أتّخذه، يصدر منطقياً من قوانين الطبيعة والظروف الأولية للكون”. وبما أننا لا نتحكم في قوانين الطبيعة ولا الظروف الأولية للكون، لا يمكننا أن نسيطر سيطرة كاملة على أفعالنا – أليس كذلك؟
ليست الإجابة بهذه السرعة. وتقول إليانور نوكس Eleanor Knox، الاختصاصية بعلم الفلسفة، من كلية كينغز كوليدج لندن King’s College London، إننا يجب أن نحدد مصطلحاتنا أولاً. وتضيف قائلة: “هناك تصور راسخ حقاً عن الإرادة الحرة، وهذا ما يأتي به طلابي جميعاً إلى الفصول الدراسية. ولكي تكون لدي إرادة حرة، يجب أن أكون قادرة الآن على التصرف فقط من دون أي صلة بأي خطة طارئة – أي كيفما أحب أن أتصرف”.
وحتى مع ترك الفيزياء جانباً، فمن الواضح أن الحال ليست كذلك. وتقول إسماعيل: “نعتقد أننا عندما نتخذ قراراً، يكون موضع السيطرة على السلوك في الداخل. لكن في الحقيقة، هناك جميع أنواع التأثيرات: التأثيرات الثقافية، التأثيرات النفسية، التأثيرات التي هي أكثر تكويناً لنفسيتنا التي لا نتحكم فيها وما إلى ذلك”.
“قوانين الفيزياء لا تترك مجالاً كبيراً على ما يبدو للإرادة الحرة”
إن خياراتنا هي نتيجة لحزمة من الميول التي شكلتها الطبيعة الوراثية والبيئة المحيطة – وهذا منتج فريد من الظروف، ولسنا بالضرورة مسيطرين عليه سيطرة مباشرة. حسناً، لكن هناك حجة مفادها بأن هذا أنتم إذ تكونون “أنتم”. ولا يزال بإمكانكم اختيار عكس ما قررتموه للتو. وهذا، في نهاية الأمر، هو جوهر الإرادة الحرة كما نختبرها.
والقول إن هذا النوع من الإرادة الحرة لا يتوافق مع قوانين الفيزياء القطعية هو بالأحرى فهم للأشياء بطريقة خاطئة، إلا إذا كنتم تدعون إلى نوع غامض وغير مادي لجوهر العقل. وتقول نوكس: “ما نسميه الإرادة الحرة كله يجب أن يكون قابلاً للتمييز في نهاية المطاف بقوانين الفيزياء”.
والسؤال هو كيف. إن إماطة اللثام عن هذا السؤال المُثير هي موضوع مجال جديد ومزدهر من الأبحاث ينظر، مثلاً، فيما إذا كانت هذه الخاصية تنجم عن قدرة الكائنات الحية والواعية على تنظيم المعلومات ودمجها من العديد من المصادر.
لكن “الإرادة الحرة” مصطلح مثقل بالمفاهيم إلى درجة أن المشاركين في الأبحاث يفضلون التفكير وفق مفهوم مختلف هو ما يُسمَّى الوكالة Agency – وهي قدرة لا يمكن إنكارها، حتى وإن لم يكن من الممكن تفسيرها بعد، تتعلق بتجميع الآمال والأحلام والرغبات والدوافع واستخدامها لتغيير العالم.
© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC