كل ما نعرفه عن الكون، والقليل مما لا نعرفه
ما هو حجم الكون؟ وما هو شكله؟ وما مدى سرعة توسعه؟ ومتى سينتهي؟ نجيب عن هذه الأسئلة والمزيد في دليلنا الأساسي عن الحالة الراهنة للمعرفة الكونية.
بقلم: ستيوارت كلارك
ترجمة: همام بيطار
إذا سألت عالِم كوزمولوجيا عن عمر الكون قبل قرنٍ من الزمن، فربما كانت إجابته ” لانهائيا “، فهذه طريقة رائعة لتجنب السؤال عن كيفية تشكله. ففي عام 1917 رُسخت هذه الفكرة عندما عرض ألبرت آينشتاين Albert Einstein نموذجه الذي تضمن كوناً ساكناً في نظريته العامة عن النسبية The General Relativity.
تصف نظرية النسبية العامة General Relativity الجاذبية، وهي القوة التي شكَّلت الكونَ نتيجة لوجود الكتلة التي تحني نسيجه المعروف بالزمكان Space-time. ففي منتصف عشرينات القرن الواحد والعشرين، أثبت عالم الفيزياء الفلكية جورج لوميتر George Lemaître أنّ الكون، وفقاً لهذه النظرية، ليس ساكناًStatic وإنما يتوسع Expanding، وذلك عنى أنه كان أصغر في الماضي.
وفي ستينات القرن الواحد والعشرين تغيرت فكرة لوميتر التي نصت على أن كل شيء نراه اليوم وُجد يوماً ما في “ذرة بدئية” Primordial Atom، عندما اكتشف علماء الفلك أقدم ضوء في كوننا: إشعاع الخلفية الكونية الميكروي Cosmic Microwave Background، وقد أشار ذلك الاكتشاف إلى أن كل شيء بدأ في حالة كثيفة وساخنة عُرفت بالانفجار الكبير (العظيم) Big Bang.
وفي أيامنا هذه، فإن معظم علماء الكوزمولوجيا واثقون من حدوث ذلك قبل نحو 13.85 بليون عام، ويستند هذا الرقم على التقديرات المتعلقة بتوسّع الكون. لكن، وعلى الرغم من ذلك، فهناك قدرٌ من عدم اليقين ﻷن المناهج المستخدمة في وضع تلك التقديرات أعطت قيماً مختلفة. ولذلك، فإنّ المجال المحتمل لعمر الكون يقع بين 12 بليون و14.5 بليون سنة.
يمكننا التحقق من ذلك بمقارنة بذلك بعمر أقدم النجوم التي نعرفها. فمن الواضح أن النجم HD 140283، المعروف أيضاً بنجم متوشالح Methuselah، معمرٌ جداً لأن الهيدروجين والهيليوم يشكلان معظم مادته، وهما العنصران اللذان سادا بعد وقوع الانفجار الكبير، ويعتقد علماء الفلك أن عمر هذا النجم يبلغ 14.46 بليون عام، يزيد أو يقل بمقدار 0.8 بليون عام، مما يجعله أقدم من كوننا بقليل.
ولكنّ حقيقة أن عمر أقدم النجوم التي نعرفها قريبٌ جداً من تقديراتنا لعمر الكون تقترح أن النموذج القياسي في كوزمولوجيا Standard Model of Cosmology -وهو نموذجنا النسبي العام لتطور كوننا- والذي يقدم إلينا تلك التقديرات هو نموذج مضمون. وطول عمر الكون ليس موضع شك، لكن لا يتحقق لنا مثل ذلك اليقين عند النظر إلى العديد من الخصائص الأخرى لكوننا.
ما هو حجم الكون؟
تأمل قليلاً في سماء الليل، وستتعجب حينها من مدى اتساعها. اعتقد البشر لفترة طويلة من التاريخ الإنساني أن الكون منفصلٌ عن الأرض والنجوم المحيطة بها، أي وجود نوعٌ من الفراغ بيننا وبين السماوات. ومع ذلك، ومنذ بدء الثورة العلمية في القرن السابع عشر من القرن العشرين، قدّم علماء الفلك طرقا مختلفة لتقدير المسافات التي تفصلنا عن الأجرام السماوية.
تُعرف هذه المناهج مجتمعة بسلم المسافة الكونية Cosmic distance ladder. يقول جيمس شومبيرت James Schombert من جامعة أوريغون University of Oregon.: “إنها مجرد وسيلة مُساعِدة”، فكل جزء من السلم يستند على الجزء الموجود أسفله حتى تصل في نهاية المطاف إلى أجرام سماوية بعيدة وساطعة سطوعا كافيا لرؤيتها عند أكبر المقاييس الكونية: إنها المجرات Galaxies والنجوم المتفجرة المعروفة بالسوبرنوفا (مستعرات العظمى) Supernovae.
يعني ذلك أنه بوسعنا قياس حجم الكون بأكمله، أو على الأقل نستطيع المحاولة. فأبعد المجرات عناً هي مجرة GN-z11، استغرق ضوؤها 13.4 بليون سنة ليصلنا، أي معظم عمر الكون تقريباً. وأثناء رحلة ذلك الضوء، توسّع الزمكان. وبالاعتماد على معدل التوسع الكوني الذي قدّمه النموذج القياسي، فإن المسافة التي تفصلنا عن تلك المجرة تبلغ نحو 32 بليون سنة ضوئية. وعند استخدام الاستقراء لمعرفة حجم الكون المرصود كاملاً، قدّر علماء الفلك أن قطره يصل إلى 93 بليون سنة ضوئية، أي نحو متر (100 مليون بليون بليون كيلومتر).
ولكن تلك المسافات تُمثل فقط المسافات التي تفصل بين أبعد الأشياء التي يمكننا رصدها. ويقول توني باديلا Tony Padilla من جامعة نوتنغهام في المملكة المتحدة University of Nottingham: “بالطبع لن تسير متر، ومن ثمّ تصطدم بجدار “، ويتابع: “يتجاوز الكون تلك الحدود”. ولكنه لا يمكننا رؤية ما يقع وراء هذا الأفق الكوني، وعوضاً عن ذلك نصوغ مجموعة من الاستدلالات المبنية على ما يخبرنا به النموذج القياسي.
يعتقد معظم علماء الكوزمولوجيا أن الكون توسَّع أسيا Exponential expansion، يعرف بالتضخم الكوني Cosmic Inflation، مباشرة بعد الانفجار الكبير. إنها أفضل الطرق لموازنة ملاحظاتنا المتعلقة بكونٍ سلس ومتجانس عند المقاييس الهائلة للانفجار الكبير؛ لأن نظرية الكم Quantum Theory تخبرنا بأن تقلبات صغيرة في الطاقة Energy fluctuations في أماكن عشوائية كانت ستؤدي إلى توزيع غير متساوٍ للمادة في كوننا. إذاً، من دون فكرة التضخم، ما كان لتلك العشوائية أن تصل إلى توزيع متجانس في الوقت الذي مر بعد الانفجار الكبير.
تقترح فكرة التضخم أيضاً كوناً أكبر بكثير من الذي نراه. وفي الوقت الذي يُعتقد فيه أن حقل “التضخم” “Inflation” field، الذي غذّى الكون بالطاقة، تنتهي حدوده عند منطقة ما من الكون الواسع، إلا أنه يواصل إيقاد نوبات تضخم جديدة في أماكن أخرى. ويعلق باديلا قائلاً: “في الواقع، تحصل على أكوان كبيرة (التضخم الأزلي) في هذه السيناريوهات، وأعنى بذلك أنها فائقة الضخامة”.
وسواء كانت جزءاً من كوننا، أم منفصلة عنه، فتلك مجرد وجهة نظر. فمن الواضح أننا بحاجة إلى الحصول على صورة أفضل للحظات الأولى من عمر كوننا إذا أردنا فهم اتساع الكون فيما وراء الأفق الكوني.
ما مدى سرعة توسّغ الكون؟
بمرور الوقت يصير الزمكان أكبر كما هي حال العجين داخل الفرن. ففي عام 1929 جاء الدليل الرصدي على ذلك عندما أثبت عالم الفلك إدوين هابل Edwin Hubble أن المجرات البعيدة تواصل الابتعاد عنا. وقد كان باستطاعتنا أيضاً قياس معدل التوسّع، المتمثل بسرعة توسع كل مليون فرسخ فلكي من الفضاء لكل ثانية، بقياس المسافات التي تفصلنا عن العديد من المجرات ومن ثمّ مقارنتها بانزياحها نحو الأحمر Redshift، أي مقدار الزيادة في الطول الموجي للضوء الصادر عن كل مجرة نتيجة لتوسّع الكون.
وخلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، بيّن تلسكوب هابل الفضائي Hubble Space Telescope أن معدل التوسّع الحالي قريب من 75 كم/ثانية لكل مليون فرسخ فلكي. في السابق، اعتقد علماء الفلك أن تلك النتيجة راسخة، وأن كل ما تبقى أمامنا هو قياس مدى تباطؤ ذلك المعدل نتيجة لنضال قوة الجاذبية في جذب مادة الكون وطاقته نحو بعضها البعض. وعندما جاءت الإجابة، تحطم كل شيء.
في نهاية تسعينات القرن العشرين اكتشفنا أن التوسع لم يكن يتباطأ على الإطلاق. وإنما على النقيض من ذلك، كان يتسارع، ولم يكن لدينا في الفيزياء حينها أي فكرة قادرة على تفسير المشاهدة الرصدية. والأمر الوحيد الذي كان بإمكانه التلاؤم مع ذلك هو عامل ‘غش’ أقحمه آينشتاين في معادلات النسبية العامة عندما اعتقد أن الكون ثابت. وعند استخدامه، يستطيع هذا “الثابت الكوني” Cosmological Constant عكس تباطؤ التوسّع الناتج من الجاذبية وتحويله إلى توسّع متسارع. وقد مثّل ذلك ولادة الطاقة المعتمة Dark Energy، وهي إضافة غريبة إلى النموذج القياسي في الكوزمولوجيا تواصل تحدي كل محاولات وصفها.
في عام 2013 صار اللغز أكثر غموضاً عندما قدّم قمر وكالة الفضاء الأوروبية European Space Agency (اختصارا: إيسا ESA) الاصطناعي بلانك Planck Satellite أكثر خرائط الخلفية الكونية الميكروي دقةً، إذ أشارت تلك البيانات، عند إدخالها في النموذج القياسي، إلى أن معدل التوسّع الكوني يبلغ 68 كيلومترًا لكل مليون فرسخ فلكي، أي أبطأ من تلك التقديرات الناتجة من دراسة السوبرنوفا.
ولمواءمة القيمتين معاً، نقّح الفيزيائيون حساباتهم، وحددوا بدقة أفضل المصادر المحتملة للخطأ، وقد أدى ذلك إلى ازدياد التناقض، مما يعني أن النموذج القياسي لا يستطيع وصف الكون الذي نرصده. قاد ذلك الأمر بعض علماء الكون إلى التساؤل عمّا إذا كانت النسبية العامة، وهي الحجر الأساسي في ذلك النموذج، بحاجة إلى إعادة ضبط.
وبالتأكيد هناك مساحة للمناورة. فوفقاً لتيسا بيكر Tessa Baker، عالِمة الكوزمولوجيا في جامعة كوين ميري Queen Mary University في لندن، فإنه على الرغم من أنّ اختبارات الجاذبية في مجموعتنا الشمسية، وفي حالات محددة أخرى، دقيقة جداً، إلا أنه عند المقاييس الكونية الكبيرة لايزال هناك مجال واسع أمام الجاذبية لتعمل ضمنه بخلاف ما تنبأ به آينشتاين. وتقول بيكر: “في الواقع، الحدود التجريبية لطريقة عمل الجاذبية عند مسافات قريبة من مليون فرسخ فلكي ضعيفة”، وتضيف بأن قوة الجاذبية قد تزيد بنحو 10% إلى 20% عند تلك المقاييس.
عموما، لدى العلماء النظريين الكثيرُ من العمل في أيامنا هذه. ولكن كريس فان دين بروك Chris Van Den Broeck، عالم الفيزياء في المعهد الوطني للفيزياء تحت الذرية National Institute for Subatomic Physics في أمستردام بهولندا، ليس مستعداً لدق ناقوس وفاة النموذج القياسي، إذ يعلق قائلاً: ” التوتر موجود، لكنني غير مقتنع حتى الآن بضرورة الذعر”.
ما هو ثقل الكون؟
منذ زمن طويل وفكرة حساب كمية الأشياء الموجودة في الكون تحتل عقول علماء الكوزمولوجيا، وذلك ناجمٌ أساسا عن عدم قدرتنا على رؤيتها كلها.
خذ ، على سبيل المثال، المادة المعتمة Dark Matter التي سُميت بذلك لأنها لا تتفاعل مع الضوء. فقد أُقحم هذا المصدر الغامض للمادة بهدف تفسير السبب الكامن وراء ترابط المجرات والعناقيد المجرية مع بعضها البعض، بعد أن أدركنا أنّ قوة الجاذبية الناتجة من المادة العادية المرئية غير قادرةً وحدها على إنجاز المهمة. ومنذ ذلك الحين، صارت تلك المادة عنصراً حيوياً في النموذج القياسي، بذراع جاذبيتها الخفية التي تُشكّل بنية الكون.
وحتى الآن، لم نكتشف المادة المعتمة. ومع ذلك، عند النظر إلى نمط الاهتزازات الحرارية في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، والتي تدل على وجود تفاعل بين المادة والطاقة في المراحل المبكرة من عمر الكون، يستطيع الفيزيائيون تقدير مدى وفرتها مقارنة بالمادة العادية. والنتيجة هي أن المادة المعتمة أكثر وفرة من العادية بنحو خمسة أضعاف.
تُشكل المادة العادية نحو 5% من الكون، في حين تشكل المادة المعتمة 27% تقريباً، أما الطاقة المعتمة فتؤلف نحو 68% من كتلة الكون -وهي شكلٌ غامض آخر من الكتلة/الطاقة. فهذه هي الحقيقة، حتى الآن على الأقل.
لكن، برز مؤخراً لغز آخر بعد قياس حجم تجمع المجرات معاً عند امتدادات تصل إلى 8 كيلو فرسخ فلكي. وتعتمد قيمة هذه الكمية، المعروفة أيضاً بـ سيغما-8 (أو sigma-8)، على مقدار الكتلة الموجودة في الكون لأنها تُمثل الجاذبية الناتجة من تلك الكتلة والتي تسهم في الحفاظ على تجمع العناقيد المجرية معاً. ويُمكننا قياس هذه الكمية باستخدام عمليات الرصد، أو التنبؤ بها بالاعتماد على النموذج القياسي. ومن جديد، تُنتج القياسات الدقيقة تناقضاً مقلقاً.
وعند اعتماد النسب المختلفة للأشكال المتنوعة من المادة، واستخدام وصف النسبية العامة للجاذبية، يتنبأ النموذج القياسي بأنّ سيغما-8 تساوي 0.81. ولكن هندريك هيلدبرانت Hendrik Hildebrandt وزملاؤه من جامعة رور-بوخوم Ruhr-University Bochum في ألمانيا حصلوا على نتيجة مختلفة عند قياسهم لهذه الكمية في عام 2017.
استخدم هيلدبرانت وفريقه تقنية تُعرف بتأثير عدسة الجاذبية الضعيفة Weak Gravitational Lensing الذي يقيس حجم التشوه الذي يتعرض له الضوء الصادر عن مجرات بعيدة عند مروره بالقرب من أجسام فائقة الكتلة تقع بيننا وبين تلك المجرات. وقد قادتهم هذه التقنية إلى قيمة تساوي 0.74 لسيغما-8، مما يشير إلى وجود كميات من المادة في الكون أقل مقارنة بتنبؤات النموذج القياسي.
ومن المقرر أن تكرس المراصد المستقبلية، مثل مرصد فيرا روبين الأرضي Vera Rubin Observatory، ومهمة أقليدس Euclid التابعة للوكالة إيسا، وقتاً لتحسين هذا القياس. فإذا استمر ذلك التناقض، سنحتاج حينها إلى شرح تفسيري. وإذا لم نستطع تقديم التفسير المناسب، فهذا سبب آخر يدفعنا إلى التفكير بضرورة إصلاح النموذج القياسي للكوزمولوجيا.
ما هو شكل الكون؟
عندما يتحدث علماء الكوزمولوجيا عن هندسة الكون، فإنهم يشيرون بذلك إلى الشكل العام للزمكان. وفي كوننا الذي يواصل التوسّع، فإنه يوجد احتمالان أساسيان. فإذا كانت الجاذبية الناتجة من كل المادة أقوى من التوسّع الكوني، فإنها ستدفع كل الأشياء إلى الاقتراب من بعضها البعض في نهاية المطاف. وفي هذه الحالة، فإننا نعيش في كونٍ “مغلق”Closed أو كروي الشكل. أما إذا كان السبب الكامن وراء توسّع الكون أقوى من الجاذبية، فإنه لدينا كونٌ متوسع أو “مفتوح” Open ويُشبه السرج.
ومع ذلك، فمن المثير للاهتمام أن الكون لا يوجد في حالة توازن بين هذين الاحتمالين. وتساعدنا نظرية التضخم الكوني على تفسير هذه الصدفة من خلال إصلاح صورتنا عن أي انحناء كلي للكون، إذ صارت فكرة أننا نعيش في كونٍ مسطح راسخة في النموذج القياسي للكوزمولوجيا في أيامنا هذه. ومع ذلك هناك بعض الشكوك.
أليساندرو ميلكيوري Alessandro Melchiorri من جامعة سابينزا Sapienza University في روما بإيطاليا جزء من فريق علمي حلّل بيانات مهمة بلانك التي قاست الاهتزازات الحرارية في الخلفية الكونية الميكروية بأكبر دقة ممكنة. وقد تضمن أحد الأشياء التي حللها الباحثون مدى تشوه ضوء الخلفية الكونية الميكروي نتيجة لتأثير عدسة الجاذبية الضعيفة أثناء رحلته نحونا. وجد العلماء أن مقدار التأثير أكبر مما تنبأ به النموذج القياسي -إلا إذا استبعدت فرضية الكون المسطحFlat universe . ويقول ميلكيوري: “إذا حاولت ملاءمة النموذج، وسمحت بذلك للانحناء بأن يُحدث تغييرا، فإنك سترى حينها أن أفضل حل هو كونٌ “مغلق” مع المزيد من المادة المعتمة”.
لكن، وكما أوضح ميلكيوري وزملاؤه في دراسة لاحقة هذا العام، فإنّ فكرة الكون المغلق تؤدي أيضاً إلى تفاقم التناقضات التي يراها الكوزمولوجيون في أماكن أخرى من النموذج القياسي، وليس أقلها حقيقة أن سرعة توسّع الكون أكبر من تنبؤات النموذج القياسي. إنّ تفسير ذلك التناقض يصير أكثر صعوبة إذا كان الكون كروياً وليس مسطحاً.
إلى حد كبير، تشير كل القياسات الأخرى التي أجريناها إلى كونٍ مسطح. ولذلك، فمن المحتمل أن نتائج عملية الرصد الأخيرة هي مجرد مصادفة إحصائية ستزول مع انطلاق عمليات المسح الكونية المستقبلية من تلسكوب فيرا روبين والقمر الاصطناعي إقليدس.
إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن أفضل الطرق للمضي قدماً سيكون حينها الحصول على بيانات أفضل عن الطبيعة الحقيقية للانفجار الكبير والتضخم الكوني. وهنا تدخل موجات الجاذبية Gravitational Waves إلى المشهد. فهذه التموجات الحاصلة في نسيج الزمكان، والتي يُعتقد أنها ناتجة من تصادمات بين ثقوب سوداء بعيدة، قد تفتح نافذة جديدة على المراحل المبكرة في حياة كوننا إذا تمكنا من اكتشاف بعضها الذي جاء نحونا من أبعد مكانٍ في الكون. ويقول فان دين بروك: “هناك مجموعة من الآليات [الكونية] التي يمكننا أن تخيل أنها تسببت في وميضٍ من إشعاع الجاذبية بعد جزء من الثانية من وقوع الانفجار الكبير”.
ستكون موجات الجاذبية البدئية تلك مرئية حالياً على شكل خلفية من التموجات القادمة من كل الاتجاهات. إنها مميزة بمعنى أن أطوالها الموجية ستكون أكبر بكثير من تلك المكتشفة، والتي نتجت من تصادمات ثقوب سوداء، وذلك بفضل توسّع الكون.
تعمل أفضل الكاشفات الأرضية لموجات الجاذبية عند ترددات عالية جداً، وبذلك لن يكون بوسعها رصد الموجات البدئية. ولكنّ وكالة الفضاء الأوروبية تُخطط لكاشفٍ فضائي: الهوائي الليزري لقياس التداخل Laser Interferometer Space Antenna ( اختصاراً: الهوائي LISA). يقول باديلا: “إذا تمكنا من رؤية موجات الجاذبية البدئية، سيكون الأمر مثير جداً”، ويتابع: “سنبدأ بعد ذلك بتعلم المزيد عن كوننا”. وربما الأكثر أهمية حينها أنه سنعرف فيما إذا حصل التضخم الكوني، وفيما إذا كان الكون مسطحاً أيضاً.
ما هو عدد الأكوان الموجودة؟
كما ذكرنا سابقاً، عندما صاغ الكوزمولوجيون فكرة التضخم الكوني القائلة إن الكون تضخم بشكلٍ أسي خلال لحظة وجيزة جداً، أدركوا بسرعة حصولهم على أكثر مما توقعوا. ويقول باديلا: “يمكن أن يحدث التضخم في أي مكان وزمن”، ويتابع: ” لقد حصل في رقعتنا الكونية منذ وقت طويل، وجعل ركننا الكوني كبير جداً، ولكن ربما كانت هناك أجزاء مختلفة من الكون لايزال التضخم فيها مستمراً”.
يُنتج هذا السيناريو، المعروف بالتضخم الأزلي Eternal Inflation، مجموعة من الأكوان “الفقاعية” “Bubble” universes المختلفة، التي تتزاحم مع بعضها البعض، ويظهر المزيد منعها بمرور الوقت. أهلاً بك في عالم الكون المتعدد التضخمي Inflationary Multiverse. لا يوجد لدينا أي طريقة لرصده أو سبره لأن كل الأكوان الفقاعية التي يحتوي عليها تقع خارج حدود كوننا المرصود. وعلى الرغم من ذلك، فإن العديد من الكوزمولوجيين مقتنعون بوجوده لأنه نتيجة منطقية لنظريتين: التضخم وميكانيكا الكم Quantum Mechanics، التي أثبتت صحتها بدرجات مختلفة.
ولم يمنع عدم القدرة على رؤية تلك الأكوان الأفراد من تخيل عددها، وما قد تحتوي عليه. فعدد تلك الأكوان لانهائي إذا اعتمدنا فكرة الكون المتعدد التضخمي القياسي. وما يُمكننا إيجاده في كلٍ منها قد يكون شيئاً مختلفاً جداً عما نراه في كوننا.
نشأت فكرة الانتقاء والمزج الكونية هذه من محاولات تفسير الجاذبية بالطريقة نفسها التي شرحنا من خلالها قوى الطبيعة الرئيسة الثلاث الأخرى على أنها قوة كمية. وتستبدل نظريات الأوتار String Theories تلك الجسيمات نقطية الشكل بأوتار صغيرة ومهتزة، وتوجد في أبعاد متعددة -عادة ما تكون 10 أو 11 اعتماداً على نسختك المفضلة. وتتنبأ تلك النظريات بما لا يقل عن عشرة احتمالات لما يمكن أن تبدو عليه الفيزياء داخل فقاعات الكون المتعدد التضخمي، إذ ستكون لكلٍ منها قوانين فيزياء مختلفة وقيم مختلفة لثوابت الطبيعة.
أو ربما هناك كونٌ آخر، وقد رأينا فعلاً دليلاً على وجوده. ففي عام 2016 اكتشف هوائي القطب الجنوبي العابر Antartic Impulsive Transient Antena (اختصارا: الهوائي ANITA) جسيم عالي الطاقة High-energy particle يبدو أنه تسارع خارجاً من الأرض بدلاً من أن يكون قادماً من الفضاء. وبعد عامين على ذلك الحدث، حصل اكتشاف مشابه. وينص أحد التفسيرات على أن هذا الجسيم ربما جاء من كونٍ موازٍ نشأ في نفس فترة ظهور كوننا، لكنه يسافر في الزمن إلى الوراء.
متى سينتهي الكون؟
قبل اكتشاف الطاقة المعتمة، وهي القوة الغامضة التي يُعتقد أنها مسؤولة عن توسّع الزمكان، اعتمد مستقبل الكون على الهندسة. فإما أنه كان مغلقاً، ومن ثمّ سينهار على نفسه في حدث “انسحاق كبير” Big Crunch، أو أنه مفتوح، ومن ثم سيواصل توسعه إلى الأبد. ولكن، يفترض النموذج القياسي حالياً أننا نحيا داخل كون مسطح سيواصل توسّعه إلى الأبد بفضل الطاقة المعتمة.
وإذا لم تكن الطاقة المعتمة شيئاً أكثر غرابة من الثابت الكوني -أي أنها لا تهتز بمرور الزمن، فإنّ توسع الكون سيصير ثابتاً في النهاية ليحمل بذلك المجرات بعيداً عن بعضها البعض. وتقول بيكر: “سنُترك إلى حدٍ كبير وحدنا في الكون”. وفقاً لهذا السيناريو، المعروف أحياناً بالموت الحراري Heat Death، أو التجمد الكبيرBig Freeze للكون، تموت كل النجوم، وتنمو الثقوب السوداء لتصير أكبر، وتميل المادة المتبقية في الكون إلى أن يكون لها درجة الحرارة نفسها. وبغياب الاختلاف في درجة الحرارة، لا يُمكن للطاقة أن تتدفق، ومن ثمّ سيدخل الكون تدريجياً نوعاً من الشيخوخة الكونية، حيث لا يحصل أي شيء على الإطلاق.
وبديل ذلك السيناريو هو التمزق الكبير Big Rip. هنا تزداد قوة الطاقة المعتمة زيادة مستمرة، ويواصل التوسّع الكوني تسارعه. وتقول بيكر: “هذا أكثر إثارة”، وتتابع: “فحتى الأجسام المرتبطة ببعضها البعض بفضل قوة الجاذبية ربما تنفصل في نهاية المطاف” لأن الطاقة المعتمة ستتغلب في هذه الحالة على قوة الجاذبية التي تحافظ على ترابط الأجرام السماوية.
لن نعرف أي من السيناريوهات السابقة صحيح إلا عندما نفهم طبيعة الطاقة المعتمة. ولكن قبل أن تشعر براحة كبيرة ناتجة من الاعتقاد أن هذا كل ما تبقى أمامنا في المستقبل ولا داعي إذاً للقلق حول مستقبل الكون، يجب أن تعلم أنه هناك طريقة واحدة يمكن أن تُنهي الكون غداً. وهذه الطريقة ترتكز على فكرة قادمة من نظرية الأوتار وتنص على وجود فسحة كبيرة ومليئة بأكوانٍ قوانينها الفيزيائية مختلفة. فإذا كان ذلك صحيحا، يُمكن لكوننا حينها أن يؤدي خدعة كمية تعرف بالنفق Tunnelling. ووفقاً لهذه الفكرة، قد يحول كوننا نفسه إلى كونٍ بقوانين فيزياء مختلفة تماما عما نعرفه.
لن يكون ذلك مثالياً لأنه، وعلى أقل تقدير، تعتمد بنية الذرات على توازن دقيق بين قوى الطبيعة. وعند اضطراب هذا التوازن، قد تتفكك الذرات التي تكون كل شيء في ومضة. تعلق بيكر قائلةً: “إذا مررنا بواحدة من هذه التحولات عند موعد الشاي غداً، فإنك بالكاد ستلاحظ ذلك”، وتتابع: “إنه وميض فقط، ومن ثمّ سينتهي كل شيء”.
ربما يكون السؤال الأقصى للكوزمولوجيين هو ما إذا كان بوسعهم تأكيد صحة نموذجهم القياسي المحبب قبل أن تومئ لحظة النسيان الكمي تلك.
- تُحسب المسافة التي تفصلنا عن النجوم النابضة Pulsating Star، المعروفة بالمتغيرات القيفاوية Cepheids، في مجرتنا درب التبانة باستخدام منهج المنظر Parallax Method، والتي تتضمن تثليث المسافات بالاعتماد على القياسات التي نجريها من موضعين مختلفين للأرض على مدارها حول الشمس. وتتلاشى النجوم النابضة وتسطع تبعاً لسطوعها الجوهري Intrinsic Brightness.
- يبحث علماء الفلك عن النجوم النابضة في المجرات القريبة، حيث تُرصد أيضاً انفجارات السوبرنوفا من النوع Ia. وعند مقارنة سطوع تلك النجوم النابضة بنظرائها في درب التبانة، يكون بوسعنا حينها قياس المسافات التي تفصلنا عن المجرات القريبة.
- تنفجر جميع السوبرنوفا من النوع Ia بالطاقات نفسها تقريباً، ولذلك فسطوعها الجوهري هو نفسه تقريباً. ومقارنة سطوع هذه السوبرنوفات المكتشفة في مجرات بعيدة بنظرائها في مجرات أقرب تساعدنا على تحديد بعد تلك المجرات.
إنّ الضوء القادم من تلك المجرات البعيدة يستطيل نتيجة لتوسّع الكون، وتعرف هذه الاستطالة بالانزياح نحو الأحمر Redshift. عند مقارنة هذا الانزياح نحو الأحمر بالمسافات المُقاسة باستخدام طرق أخرى، يُمكننا أن نقدر حينها معدل التوسّع الكوني.
- عندما نأخذ بالحسبان كلاً من معدل التوسّع الكوني والمسافة التي تفصلنا عن أبعد مرة، نستطيع حينها استقراء حافة الكون المرصود التي يُقدر بعدها بنحو 46.5 بليون سنة ضوئية عن الأرض.
© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC