هل سيغير كوفيد-19 العلم؟ الأوبئة السابقة تقدم أدلة
من الموت الأسود إلى الإيدز، يمكن أن يؤدي تفشي المرض إلى حث العلماء على إعادة التفكير في كيفية دراسة الأمراض وحماية الصحة العامة
ستة عشر شهرًا من الجائحة كانت مربكة ومرهقة، ولكن على مدى التاريخ البشري، لا يمثل كوفيد-19 (COVID-19) سوى مجرد منعطف آخر. فقد تخللت الأوبئة المسار الزمني للبشرية لعدة قرون، مما نشر الذعر وقتل الملايين، سواء كان الجاني الطاعون أم الجدري أم الإنفلونزا. وعند انحسار العدوى، قد تترك بصماتها على المجتمع، بعضها لا يدوم طويلاً وبعضها باقٍ.
وفي الأشهر المقبلة ستسعرض مجلة ساينس Science – من خلال سلسلة من المقالات الإخبارية – كيفية ظهور وضع طبيعي جديد في العالَم العلمي. وبالطبع، لا يزال كوفيد-19 باقيًا معنا، خاصةً فيما عدا الأقلية من البلدان التي تجني الآن ثمار التطعيم واسع النطاق. ومع ذلك، مع دخول الجائحة Pandemic مرحلة مختلفة، نتساءل كيف يمكن أن تتغير أساليب البحث، وكيف يجد العلماء طريقهم، وأي اتجاه يسلكون.
على الرغم من أن الماضي ربما لا ينبئ بالمستقبل، إلا أن تاريخ الفاشيات (الوباء) Epidemic يوضح كيفية حدوث التغيير. وتقول إيريكا تشارترز Erica Charters، مؤرخة الطب من جامعة أكسفورد University of Oxford والتي تدرس كيفية انحسار الأوبئة: “يقول المؤرخون غالبًا إن ما سيفعله الوباء هو الكشف عن خطوط الصدع الأساسية”. ولكن الطريقة التي نتصدى بها متروكة لنا. وتتابع قائلة: “عندما نتساءل،” كيف يغير الوباء المجتمع؟ “فهذا يشير إلى أن هناك شيئًا ما في المرض سيوجهنا. لكن المرض ليس له تأثير كما البشر”.
فالفاشيات السابقة دفعت العلماء والأطباء إلى إعادة النظر في كل شيء بدءًا من فهمهم للمرض وحتى أساليب الاتصال فيما بين بعضهم البعض. وأحد أكثر أنواع الطاعون الذي خضع للدراسة هو الطاعون الدبلي Bubonic plague الذي انتشر في أوروبا في أواخر أربعينات القرن الرابع عشر والذي اشتهر بالموت الأسود Black Death، ثم ضرب أجزاءً من أوروبا وآسيا وشمال إفريقيا على فترات متقطعة وعلى مدى 500 عام تالية. وانتشر الطاعون بفعل البكتيريا المنتقلة عبر لدغات البراغيث المصابة، وتضمنت السمات المميزة للطاعون تورم الغدد الليمفاوية تورماً غريباً، والنوبات التشنجية، وفشل عمل الأعضاء. وقد كانت المدن عاجزة أمام انتشاره. ففي عام 1630 مثلا، مات ما يقرب من نصف سكان ميلانو. وفي عام 1720، توفي 60 ألف في مرسيليا وفرنسا.
ومع ذلك، فإن مجرد تسجيل هذه الأرقام يؤكد كيفية إعادة توجيه الطب في مواجهة الطاعون. فإلى حين اكتساح الموت الأسود، لم يكن الكُتّاب الطبيون يصنفون روتينياً الأمراض المتميزة، وبدلاً من ذلك غالبًا ما كانوا ينظرون إلى المرض على أنه اختلالٌ جسديٌ معممٌ. وقد كتب فرانك سنودن Frank Snowden، مؤرخ الطب من جامعة ييل Yale University، في كتابه بعنوان الفاشيات والمجتمع: من الموت الأسود إلى الزمن الحالي Epidemics and Society: From the Black Death to the Present: “لم تكن الأمراض كيانات ثابتة…الإنفلونزا يمكن أن تتحول إلى دزنتاريا”.
غير أن سنوات الطاعون حفزّت مزيدًا من الدراسة المنهجية للأمراض المعدية وأنتجت نوعًا جديدًا من الكتابة: رسائل الطاعون Plague treatises، بدءًا من الكتيبات المبسطة عن الحجر الصحي إلى الكتالوجات الطويلة من العلاجات المحتملة. وظهرت مثل هذه الرسائل في جميع أنحاء العالم الإسلامي وأوروبا، كما يقول نوخيت فارليك Nükhet Varlık، مؤرخ الطب من جامعة روتغرز Rutgers University في نيوآرك. وتقول: “كان هذا هو أول مرض يحصل على مؤلفات خاصة به”. وقد توسعت الرسائل حول الأمراض لتشمل حالات أخرى، مثل مرض النوم Sleeping sickness والجدري. بل حتى قبل اختراع المطبعة، يبدو أن الناس كانوا يتشاركون هذه الرسائل. فغالبًا ما احتوت رسائل الطاعون العثمانية على ملاحظات مكتوب على هوامشها من قبل الأطباء الذين يدلون بتعليقاتهم على هذا العلاج أو ذاك.
تزامن الطاعون والأوبئة اللاحقة أيضًا مع ظهور علم الأوبئة Epidemiology والصحة العامة Public Health كتخصصات، على الرغم من أن بعض المؤرخين يتساءلون عما إذا كانت الأمراض هي الدافع دائمًا. ويقول فارليك إنه من القرن الرابع عشر إلى القرن السادس عشر، تطلبت القوانين الجديدة في الإمبراطورية العثمانية وأجزاء من أوروبا حصر عدد القتلى أثناء الأوبئة. كما عجّل الطاعون من تطوير الأدوات الوقائية، بما في ذلك مستشفيات الحجر الصحي المنفصلة، وإجراءات التباعد الاجتماعي، وبحلول أواخر القرن السادس عشر، إجراءات تتبع الاتصال، كما يقول صامويل كوهن Samuel Cohn، مؤرخ العصور الوسطى والطب من جامعة غلاسكو University of Glasgow. ويتابع قائلا: “كل هذه الأشياء التي يعتقد الكثير من الناس أنها حديثة جدًا … قد ابتكرت وتطورت” منذ ذلك الوقت. كما انتشر مصطلح “العدوى” Contagio، إذ سعى المسؤولون والأطباء إلى التأكد من كيفية انتشار الطاعون.
كذلك، دمرت الكوليرا التي تسببها بكتيريا موجودة في الماءِ نيويورك ومناطق أخرى في القرن التاسع عشر. ولم تؤدِ فقط إلى ممارسات جديدة للصرف الصحي، ولكن أيضًا إلى نشوء مؤسسات الصحة العامة. وقد كتب تشارلز روزنبرغ Charles Rosenberg، مؤرخ الطب وهو أستاذ فخري من جامعة هارفارد Harvard University، في كتابه المؤثر سنوات الكوليرا: الولايات المتحدة في 1832، 1849 و1866 (The Cholera Years: The United States in 1832, 1849, and 1866): “لقد أثبتت الإحصائيات ما كانت تعرفه البديهة المنطقية بالفعل: في أي فاشية، كان الأفراد ذوو الاحتمال الأقل في النجاة والبقاء على قيد الحياة هم أولئك الذين عاشوا في أسوأ الظروف”. لتحسين تلك الظروف، أنشأت مدينة نيويورك مجلس متروبوليتان للصحة Metropolitan Board of Health في عام 1866. وفي عام 1851 نظمت الحكومة الفرنسية أول مؤتمر ضمن سلسلة من المؤتمرات الصحية الدولية International Sanitary Conferences التي امتدت إلى ما يقرب من 90 عامًا وساعدت على توجيه تأسيس منظمة الصحة العالمية World Health Organization في عام 1948. ويقول روزنبرغ: “كانت الكوليرا” حافزًا للاجتماعات والتعاون في مجال الصحة العامة الدولية الأولى”.
في هذه الأثناء، استمرت الجهود لفك رموز المرض: على الرغم من أن الأطباء الذين اعتبروا الجراثيم مذنبة ظلوا أقلية في منتصف القرن التاسع عشر، إلا أن المرض “لم يكن حادثة في دراما الاختيار الأخلاقي والخلاص الروحي”، ولكن “نتيجة تفاعل الإنسان مع “بيئته”، كما كتب روزنبرغ. هذا، وقد كانت البراغيث هي الناقلة للطاعون خلال الجائحة العالمية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقد أثر مفهوم الحشرات كناقلات للأمراض على الصحة العامة وعلم الأوبئة منذ ذلك الحين.
وياله من مزيج غريب من تذكر ونسيان العديد من الفاشيات. ويقول ديفيد بارنز David Barnes، مؤرخ الطب من جامعة بنسلفانيا University of Pennsylvania، إن بعضها يختفي سريعًا من الذاكرة. ويقول إن إنفلونزا عام 1918 قتلت ما يقدر بنحو 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، إلا أن الحرب العالمية الأولى طغت عليها، وهي مثال كلاسيكي على محنة منسية. ويتابع قائلا: “يمكن للمرء أن يتوقع أن يكون ذلك بمثابة صدمة ثورية وتحولية، ومع ذلك لم يتغير الكثير” في أعقابها. ولم يكن هناك استثمار كبير في البنية التحتية للصحة العامة، ولم يكن هناك ضخ ضخم للأموال في الأبحاث الطبية البيولوجية. فعلى الرغم من أن جائحة عام 1918 ساعدت على تحفيز مجال جديد هو علم الفيروسات Virology، إلا أن هذا البحث تقدم ببطء حتى ظهور المجهر الإلكتروني في أوائل ثلاثينات القرن العشرين.
وعلى النقيض من ذلك، فإن ظهور فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز HIV/AIDS في ثمانينات من القرن العشرين ترك إرثًا قويًا، كما يقول بارنز. فهناك سلالة جديدة من المرضى الناشطين الذين قاتلوا بإصرار من أجل بقائهم، مطالبين بالوصول السريع إلى العلاجات التجريبية. فقد ربحوا المعركة في نهاية المطاف، وأعادوا تشكيل سياسات الموافقات اللاحقة على الأدوية. ولكن، يقول بارنز: “لم تكن الفاشية بحد ذاتها – الضرر وعدد الوفيات الناجمة عن الإيدز – هي التي أدت إلى حدوث ذلك… لقد كان النشطاء منظمين ومثابرين، ولم يشهد مجتمعنا على الإطلاق أي شيء كهذا”.
ومن خلال منظور التفاعل البشري هذا، يتمعّن بارنز وغيره من المؤرخين في الإرث العلمي المحتمل لكوفيد-19. وتسلط هذه الجائحة، مثل أسلافها، الضوء على حقائق غير مريحة، تتراوح من تأثير عدم المساواة المجتمعية في الصحة العامة، مرورا بمقدار الهدر بسبب التجارب الإكلينيكية (السريرية)، وصولا إلى الاستثمارات الزهيدة في الصحة العامة. وتلوح في الأفق أسئلة حول كيفية دعم المختبرات، مالياً أو غير ذلك، التي شلتها الجائحة.
وفي أعقاب كوفيد-19، هل سيعيد الباحثون صياغة ما يدرسونه وآلية عملهم، مما قد يؤدي إلى تسريع التغييرات الجارية بالفعل؟ أم أن ما يسميه سنودن “فقدان الذاكرة المجتمعي” سيبدأ بالتغييب، تغذيه الرغبة في ترك الجائحة وراءنا؟ سوف تأتي الإجابات على مدى عقود. ولكن العلماء بدأوا بتشكيلها الآن.
بقلم: جينيفر كوزان-فرانكل
ترجمة: مي بورسلي
©2021, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved