كيف تحافظ على صحة دماغك: الأشياء الـسبعة التي يجب أن تفعلها كل يوم
المُحافظة على دماغك في حالٍة جيدةٍ لن يؤدي إلى تجنب التدهور العقلي فقط، بل يمكنه أيضاً تحسينَ علاقاتك وتعزيز رفاهكَ ـ ولا يفوت الأوان أبداً لإحداث فرق
بعد ظهر يومٍ قائظٍ في عام 1862 في مصر تحديدا بالأقصر، كان إدوين سميث Edwin Smith يساومُ تاجر آثارٍ لشراء ورقة بردي غير معروفةٍ. مع أنّه ظنّ أنها مهمةٌ، إلا أن سميث لم يكن يعرف أنه سيتضحُ أنها ليستْ أقدم نصٍ طبي معروفٍ فقط، فعمرها أكثر من 4,000 سنة، ولكنّها أيضاً أول ذِكرٍ موثَقٍ للدماغِ على الإطلاق. وماذا قالتْ الورقة عن أعقدِ كيانٍ في الكون المعروف؟ إنّه “أحشاء الجمجمة”، ويُتَخَلَصُ منها دون مراسمَ أثناء التحنيط.
لقد تعلمنا الكثير عن الدماغ منذ ذلك الحين. ومع ذلك، لم يَصِرْ تعلم أفضل طريقةٍ لرعاية هذا الشيء في الطابق العلوي أولويةً رئيسيةً للباحثين إلا في الأعوام الـ 25 الماضية. من السهل التسليم لفكرةِ أنه مع تقدمنا في العمر، يتراجع أداء أدمغتنا تدريجياً، وتتدهور الذكرياتُ، وتتباطأ ردودُ الأفعال. ولكن كميةً غزيرةً من الأبحاث الجديدة تظهر أنه لا يفوت الأوان أبداً لتحسين صحة دماغنا ـ وهو مفهومٌ يتجاوز غياب المرض.
إن نظرةً ممتدةً على كيفية تشكيل التطور على مدى مليوني عامٍ لوظيفة أدمغتنا تكشفُ عن طرقٍ جديدةٍ وغير متوقعةٍ للحفاظ على صحتِها لفترةٍ أطول.
في عام 2018، حددت مجموعةٌ دوليةٌ من الاختصاصيين تُشَكِلُ المجلس العالمي لصحة الدماغ Global Council on Brain Health اختباراً بسيطاً بصورةٍ مدهشةٍ لتقييم ما إذا كان دماغُك بحالةٍ جيدةٍ: ما إذا كنت تعملُ بصورةٍ جيدةٍ في الحياة اليومية. وقد يبدو هذا مُبَسَطاً بصورةٍ مفرطةٍ، لكن المجموعة، التي أعمل مستشاراً لها، وجدَتْ أن الدماغ يتطلب ثلاث وظائف حيويةٍ تعمل معاً بسلاسةٍ: الوظيفةُ التنفيذيةُ Executive function، أو قدرتنا على التفكير والاستنتاج؛ ووظيفة المعرفة الاجتماعية Social cognition التي تمكننا من التفاعل بنجاحٍ مع الآخرين؛ ووظيفة تنظيمُ المشاعر Emotion regulation التي من خلالها نولد إحساسنا بالرفاه Well-being.
من الصعب المبالغةُ في تقدير مدى أهمية اختياراتِ نمط الحياة التي نتخذها في الحفاظ على هذه الوظائف عاملةً بصورةٍ جيدةٍ، منفردةً أو مع بعضها البعض. فقد أشارتْ دراسةٌ بارزةٌ نُشِرَتْ في مجلة نيتشر Nature في عام 2012 إلى أن ثلاثة أرباع التغيّر في القدرة المعرفية في حياتنا ـ مُقَاسةً بتقييمات الذكاء العام General intelligence– تُحَدِدُهُ عوامل نمط الحياة، ويُحَدِدُ الحمض النووي DNA 25% فقط. ومع تقدم أدمغتنا في العمر، تُحْدِثُ مجموعةٌ من العمليات الفيزيائية، بما في ذلك انكماشُ المناطق المرتبطة بالذاكرة والإدراك والتعلم والانتباه. نعلم الآن أن هذه العمليات تبدأ بالازديادَ في العشرينات والثلاثينات من العمر، ولكن هناك بعض الأدلة على أن الآليات الأساسية للشيخوخة Ageing تبدأ في الدماغ حتى في أعوامنا الأولى.
والخبر السار هو: كما أنه لا يكون من السابق لأوانه أبداً تبني عاداتٍ تساعد على إبطاء -أو حتى عكس –الشيخوخة، فإن الأوان لا يفوت أبداً. فعلى سبيل المثال، وجدت دراسةُ أُجْريت عام 2019 أن الدماغ البشري البالغ يمكنه إنتاج خلايا عصبية (عصبوناتٍ) Neuron جديدةٍ حتى بعد بلوغ التسعينات من العمر. ومع ذلك، لا يوجد حلٌ سحري، ولا توجدُ لعبةُ دماغٍ سريعةٌ، أو نظامٌ غذائي سهلٌ لتعزيز صحة الدماغ. إن التأثير التراكمي للأشياء الصغيرة التي نفعلها كل يومٍ هو ما يصنع الفرق. إذًا، ما هي هذه الأشياء الصغيرة؟ وأيّها الأهم؟
- ثق بحدسك “البطني”
يمكننا رؤية عدم التوافق بين التغيرات السريعة التي شكلت أنماط الحياة الحديثة والتأثير التراكمي البطيء للتطور Evolution بأوضح ما يمكن في فهمنا الناشئ للميكروبات في أمعائنا. أظهر اكتشاف البصاق الأحفوري Fossilised spittle بالدنمارك في عام 2019، والذي يعود تاريخه إلى 6,000 عام، أننا فقدنا بمرور الوقت ملايين أنواع البكتيريا النافعة من أجهزتنا الهضمية. في الأعوام الأخيرة، أظهرَتْ دراساتٌ لا حصر لها روابطَ بين بكتيريا الأمعاء والقلقِ Anxiety، والاكتئاب Depression، والمزاجMood ، وحتى تفكيرِنا وسلوكِنا. بدأنا الآن نفهمُ ما يولِّد هذه الروابط. مثلا، أن نحو 90% من السيروتونين Serotonin، وهو موازِنٌ للمزاج، يُنْتَجُ في الأمعاء وأقل من 10% في الدماغ. وإضافة إلى ذلك، هناك الآن اشتباه قوي بأن لبكتيريا الأمعاء دورًا في العديد من الأمراض، بما في ذلك مرض التَصَلُّبُ الوَحْشِيُّ الضُمُورِيّ Amyotrophic lateral sclerosis (اختصاراً: التصلب ALS)، ومرض الآلزهايمرAlzheimer’s disease، وداء باركنسون Parkinson’s disease. لصحة الدماغ جيدةً، علينا الاعتناء بمحتويات القولون Colon.
هذا يستغرق وقتاً. فبعد الولادة، يستغرق الأمر ثلاثة أعوامٍ لإنتاج مجموعةٍ مستقرةٍ من ميكروبات الأمعاء، ويستلزمُ هذا ابتلاعَ مجموعةٍ واسعةٍ من البكتيريا. ما إن يتوازن مجتمع الميكروبات Micoflora، فإنه قد يؤثر التداخل مع هذا التوازن الذي حُصِلَ عليه بشق الأنفس في الكيمياء الحيوية للأمعاء. وبناءً على تحليل أكثر من 1000 عينةِ برازٍ بشري واستباناتٍ إكلينيكيةٍ (سريرية) مُفَصَلَةٍ، حددَتْ إحدى الدراسات الحديثة 69 عاملاً من عوامل نمط الحياة التي تضرُ بالميكروبيوم Microbiome. وهي تشمل ارتفاع مؤشر كتلة الجسم Body mass index (اختصاراً: المؤشر BMI)، وعدم ممارسة الرياضة، وعادات الأكل غير المنتظمة، والتوتر، والجفاف، وسوء صحة الأسنان، وتَلَكُّؤُ النَفَّاثَةِ Jet lag، وتغيير العلاقات الحميمة باستمرار.
ما الذي يهمُ الأمعاءَ في حياتك العاطفية؟ اتضح أن قبلةً مدتُها 10 ثوانٍ يمكن أن تنقل ما يصل إلى 80 مليون بكتيريا ـ ومن المحتمل أن يؤدي بعضها إلى استجابةٍ مناعيةٍ مثل الالتهابات الضارة. في العلاقات المستقرة، يطوّر الشركاءُ توازناً لبكتيريا الأمعاء بمرور الوقت.
لتعزيز صحةٍ مستقرةٍ للأمعاء، فإن تغذية البكتيريا النافعة بتناول مجموعةٍ واسعةٍ من الأطعمة النباتية يساعدُ أيضاً. في العقد الماضي أو نحو ذلك، كانت هناك زيادةٌ في الأبحاث عن طرقٍ محتملةٍ لتجديد بكتيريا الأمعاء الصحيّة -مثل عمليات زرع البراز أو حتى “حبوب البراز” -بهدف علاج حالاتٍ تتراوحُ من مُتَلاَزِمَةُ القولونِ المُتَهَيِّج Irritable bowel syndrome والسمنةِ إلى اضطرابات المناعة الذاتيّة Autoimmune disorder. في الآونة الأخيرة، بدأ الباحثون استقصاء كيفية فعل ذلك لتحسين صحة الدماغ، باستخدام بكتيريا الأمعاء للمساعدة على زيادة إنتاج الهرمونات أو الناقلات العصبية المهمة.
- انتبه لما تأكله
غالباً ما تعني الحياة الحديثة، التي يمكن أن تتطلب ساعاتِ عملٍ طويلةً، ومستوياتٍ عاليةً من التوتر، ومئاتً من عوامل التشتيت، أننا نتناولُ الطعامَ ونأكل الوجباتِ الخفيفة باستمرار. ولكن أدمغتنا تطورَتْ في وقتٍ كان فيه الطعام شحيحاً بصورةٍ دوريةٍ. وبالنسبة إلى الصيادين في ذلك الوقت، كان التحول من حرق أجسامِنا للسكر على شكل جلوكوز Glucose إلى حرق الطاقة المنبعثة من الخلايا الدهنية، وهو الأمر المعروف بالكيتوزية Ketosis، أمراً لا مفر منه. حالياً، لا يصلُ معظمنا أبداً إلى هذه المرحلة، إلا إذا تعمدنا الصوم أو اتباع نظامٍ غذائي منخفض الكربوهيدرات.
يمكن أن يؤدي هذا التحول الاستقلابي دوراً رئيسياً في المساعدة على تكوين خلايا دماغيةٍ جديدةٍ، أو ما يُعرَفُ بتخلق النسيج العصبي Neurogenesis. أظهرَتْ الدراساتُ التي أٌجْريت على الحيوانات وجود علاقةٍ واضحةٍ بين الصيام المُتَقَطِعِ ومستوياتِ عامل التغذية العصبية المشتقِ من الدماغ Brain-derived neurotrophic factor، وهو بروتينٌ حاسمٌ في تخلق النسيج العصبي، لا سيما في الحُصين Hippocampus ومراكز التعلم والذاكرة الأخرى. ويدرس العديد من الباحثين الآن ما إذا كان يمكن للصيامُ المتقطع أن يساعد على إبطاء وتيرة الشيخوخة.
ما نستهلكه مهمٌ أيضاً (انظرْ: اهتمّ بأمعائك). حالياً، يُنْتَجُ 75% من غذاء العالم من 12 نوعاً نباتياً وخمسةِ أنواعٍ حيوانيةٍ فقط. ويتناقض هذا النظام الغذائي المتجانس بصورةٍ مؤسفةٍ مع المجموعة الواسعة من العناصر الغذائية التي اعتمدنا عليها في معظم مراحل تطورنا. فلا يوجد مثالٌ أفضل في الدول الغربية بصورةٍ خاصةٍ من استهلاكنا لأحماض أوميغا الدهنية Omega fatty acid. في طعامنا حين كنا صيادين وجامعين، كانت نسبة دهون أوميغا-6 إلى دهون أوميغا-3 نحو 1:1. النسبة الآن 20:1، ويرجع ذلك إلى حدٍ كبيرٍ إلى الأطعمة المُعالَجة التي تحتوي على زيتٍ نباتي. فهذه مشكلةٌ لأن بعض أحماض أوميغا-6 الدهنية قد تعززُ التهاباتٍ مُفرِطَةً، والتي يمكن أن تحدَ من تكوين خلايا دماغيةٍ جديدةٍ وتسرّعَ موت الخلايا الموجودة. على النقيض من ذلك، تظهر العديد من الدراسات طويلة المدى أن دهون أوميغا-3 تحمي الدماغ. يُدرَسُ الآن التفاعلُ بين الاثنين، ولكن بالنسبة إلى صحة الدماغ، يبدو أن النسبة الصحيّة المُسْتَهْدَفَةَ هي 1:4 أوميغا-6 إلى أوميغا-3، والتي يمكن الوصول إليها بتناول مجموعةٍ متنوعةٍ من الأسماك الزيتية، أو الأطعمة مثل السبانخ أو بذور الكتان.
العديد من العناصر الغذائية الأخرى مهمةٌ لصحة الدماغ، لكن فيتامين د Vitamin D أساسي. وتوجد مستقبلاتُ هذا الفيتامين على نطاقٍ واسعٍ في الدماغ، وترتبط المستويات المنخفضة منه بضعفِ الأداء العقلي، والتدهور المعرفي. وللحصول على ما يكفي من فيتامين د، يمكننا تجربة “تشميسُ الدماغ”. ولكن بالنسبة إلى معظم السكان الذين يعيشون فوق خط عرض 35 درجة شمالاً أو تحت 35 درجة جنوباً -وهو ما يشمل كل المملكة المتحدة UK، ومعظم نيوزيلندا New Zealand وأمريكا الشمالية من واشنطن العاصمة Washington DC وما فوق -فمن المستحيل عملياً توليد ما يكفي بواسطة ضوء الشمس. وللأسف، لا يوجد دليلٌ قاطعٌ على أن مكملات فيتامين د تُبْطِئ التدهور المعرفي. وأفضل المصادر الغذائية هي الأسماك الدهنية والبيض والزبدة والكبد والحبوب المُدَعَمَة.
القاعدة العامة هي أن الجمع بين تشكيلةٍ واسعةٍ من أنواع الأطعمة والمغذيات هو أفضل طريقةٍ لتجنب العَوزِ. وهذا يعني اختيار نظامٍ غذائي نباتي بصورةٍ أساسيةٍ، إضافةً إلى الدهون الصحيّة، وبعض منتجات الألبان، وقليلٍ من الأسماكِ واللحوم الحمراء، بصورةٍ خاصةٍ إذا كان عمرك يزيد على 65 عاماً.
- تحرّك
إذا كانت هناك حلٌ سحري لإبقاء أدمغتنا شابة، فسيكون التمرين ـ إنه يبطئ التغييرات المرتبطة بالعمر، بل حتى يعكسها. فإذا نظرنا إلى المناطق الخمس في العالم التي تُصَنَفُ على أنها تضم أكبر عددٍ من المُعَمِرين، فإن النشاط البدني هو أسلوب حياة. إن الخرف Dementia والتدهور المعرفي في إيكاريا باليونان ، ولوما ليندا في كاليفورنيا ، ونيكويا في كوستاريكا ، وأوكيناوا في اليابان ، وسردينيا في إيطاليا أقل تواتراً بنسبة 75% مما هو عليه في معظم أنحاء العالم الغربي. فالدليل الدامغ هو أنّ للتمارين الهوائية تأثيراتٍ مفيدة في الدماغ، بما في ذلك تحسينُ المزاج ومهارات التفكير. مثل الصيام المتقطع، فإن التمارين الرياضية تقلل الالتهابات التي يمكن أن تمنعَ نمو خلايا الدماغ الجديدة. يزيد التمرين فعلياً تخلقَ النسيج العصبي بإطلاق البروتين الحاسم المذكور سابقاً، وهو عامل التغذية العصبية المشتقِ من الدماغ (اختصاراً: العامل BDNF).
إذن، ما مقدار التمرين الذي يجب أن نفعله ـ وما نوعه؟ لرفعِ مستويات العامل BDNF، تحتاجُ إلى 30 دقيقةٍ على الأقل من تمارين يوميةٍ كالمشي السريع أو ركوب الدراجات. إذا كنت تريد فعلاً رفع العامل BDNF إلى أعلى مستوى، فيجب عليك زيادة ذلك إلى تمرينٍ شديدٍ، مثل الركض أو التدريباتِ عاليةِ الكثافة.
ومع ذلك، فإن الخبر المُؤرِقَ هو أنه حتى ولو تمرّنا يومياً، فإن السلوك قليل النشاطِ لفترةٍ طويلةٍ قد يقضي على الفوائد. وما يصل إلى 13% من حالات مرض الألزهايمر عالمياً هي نتيجةٌ لقلة النشاط. لذا، فإن النصيحة بسيطةٌ: تجنبْ الجلوس أو اتخذْ وضعيةِ جلوسٍ أكثر نشاطاً وقفْ أينما ومتى أمكن ذلك. على الأقل، قمْ من كرسيّك لمدة 10 دقائق كل ساعة.
- ابقَ على تواصلٍ
نحن حيواناتٌ اجتماعيةٌ بامتيازٍ. لا عجب أن في عام 2020 كانت عمليات الإغلاق والتباعد الاجتماعي صعبة جداً. ولا يمكن أن يكون البحثُ أكثر وضوحاً. كلا العزلةِ الاجتماعية والشعور بالوحدة مدمران لصحتنا. فالأشخاص الذين يعانون الوحدة معرضون لخطر الموت المبكر أكثر من أولئك الذين ليسوا كذلك بنسبة 50%. في حلقةٍ مفرغةٍ، تؤدي الوحدة إلى سلوكياتٍ صحيةٍ واجتماعيةٍ سلبيةٍ، وهي أيضاً نتيجةٌ لها. تزيد الوحدة والعزلة خطرَ الإصابة بالالتهاباتِ الجهازية، وارتفاعِ ضغط الدم Blood pressure، وداء السكري Diabetes، والسمنةِ، وأمراضِ القلب Heart disease، والنوباتِ القلبية Heart attack، والسكتةِ الدماغية Stroke، والتي تؤثر جميعها في الدماغ إما تأثيراً مباشراً أو تأثيرا غير مباشر لتضرر الأوعية الدموية أو انخفاض تدفق الدم، على سبيل المثال.
لكن الخبر السار هو أن العكس صحيحٌ أيضاً. أظهرتْ كميةٌ غزيرةٌ من الأبحاث أن الاتصال الاجتماعي يقللُ مخاطر هذه المجموعة الواسعة من الحالات، وأنه يمكن أن يفيد الدماغ إفادةً مباشرةً بتحسين تكوين الذاكرة والاستذكار، وبحمايته من الأمراض التنكسية العصبية Neurodegenerative disease. فقد ثبت أيضاً أن المشاركة الاجتماعية تساعد على الحفاظ على مهارات التفكير طوال الحياة، ربما بتغيير استجابات التوتر التي تؤدي إلى تغييراتٍ في التعبير الجيني Gene expression.
حتى القليل من الاتصال الاجتماعي ذو تأثيرٍ مهمٍ. ويمكن أن تؤدي التفاعلات العابرة مع أصحاب المتاجرِ، أو الجيران، أو زملاء السفر إلى تخفيف الشعور بالوحدة. والانضمام إلى الأنشطة التي تولد شعوراً بالانتماءِ مفيدٌ أيضاً بالتحديد.
- تعلّم مهارةً جديدةً
تعمل ألعاب التفكير، والكلماتُ المتقاطعة، وألعابُ الحاسوب على إشراك المهارات المعرفية، بما في ذلك سرعة المعالجة، والذاكرة العاملة Working memory، والاستنتاج. ولكن لا يبدو أن الفوائد الناتجة تؤثر في القدرات العقلية اليومية، أو تبطئ التدهور المعرفي، أو تقلل خطر الإصابة بالخرف.
لكن هذا لا يعني أنه لا توجد أشياء يمكننا فعلها لتساعدنا على الحفاظ على عقولنا حادةً. فهناك دليلٌ واضحٌ على أن الانخراط في الأنشطةِ التي يسميها علماء النفس “مُحَفِزَةً معرفياً” -أي أنها تتطلبُ التركيزَ والممارسة المتكررة -يحدث فرقاً في صحة دماغنا.
دُرِسَتْ فوائد الرقصِ وتعلمِ لغةٍ جديدةٍ دراسةً جيدةً تحديدا، ولكن أظهرَتْ مجموعةٌ واسعةٌ من الأنشطة مكاسبَ، بما في ذلك تعلم العزف على آلةٍ موسيقيةٍ أو لعبة ورقٍ جديدةٍ، أو إتقان مهاراتٍ عقليةٍ وجسديةٍ جديدةٍ معقدةٍ، مثل تاي تشي Tai Chi أو ألعاب الخفة. وقارنتْ إحدى الدراسات الحديثة التي أُجْريت على 174 شخصاً تتراوح أعمارهم بين 60 و79 عاماً بين من يمارس أنشطةً مثل الرقصِ، والمشي، وتمارين تقوية العضلات الخفيفة على مدى ستة أشهر. وأظهر الراقصون فقط تحسناً بنيوياً في منطقةٍ دماغيةٍ تُشارك في نقل الإشاراتِ من وإلى الحُصين ـ مركز الذاكرة في الدماغ.
مرةً أخرى، هناك دليلٌ على أن الأنشطة التي تتطلب منا تعلم شيءٍ جديدٍ تُحفزُ نمو خلايا دماغيةٍ جديدةٍ، وتمنعُ موت الخلايا العصبية، وتحسّن اللدونة العصبية Neuroplasticity، وهي قدرة الدماغ على التكيّفِ وصناعة روابط جديدةٍ. وكلُّ هذا يساعد على تقليل مخاطر التدهور المعرفي والخرف.
- حافظ على الإيقاع
أجسامنا عبارةٌ عن خليطٍ كثيفٍ من الإيقاعات، والتي رُسِّخَ التحكمُ بها في الدماغ على مدى ملايين السنوات. فدرجة حرارة الجسم، وضغط الدم، والاستقلاب (الأيض)، وغير ذلك، تزداد وتنقص وفقاً لأنماط عتيقةٍ. ولكن حالياً، تُعَطَّلُ تلك الإيقاعات ويمكن أن تكون العواقب على صحتنا عميقةً.
لا توجد مشكلةٌ صحيةٌ مستعصيةٌ في الحياة الحديثة أكثر من الأرق Insomnia. فالأرق، وصعوبة النوم، واضطرابات النوم واسعةُ الانتشار. وفقاً للمراكز الأمريكية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها Centers for Disease Control and Prevention، فإن ما لا يقل عن ثلث الأشخاص في الولايات المتحدة ينالون أقل من الساعات السبع من النوم المُوصي بها في كل ليلةٍ. ولا يضر هذا النقص المزمن في النوم بصحتنا العامة فقط، بل يؤثر أيضاً سلباً في التعلمِ والذاكرةِ والانتباهِ واتخاذ القراراتِ والمزاجِ. بل إنه عامل خطرٍ للإصابة بالخرفِ، والتدهور المعرفي.
بغضّ النظر عما تكون قد سمعتَه، فليس صحيحاً أننا نحتاجُ إلى قدرٍ أقل من النوم مع تقدمنا في العمر. ولِدَ هذا الاعتقادُ الخاطئ من معلومةٍ مفادها أن تغيّر الإيقاع اليومي Circadian rhythm وعوامل أخرى تسبب صعوبةً في النوم كلما تقدمنا في العمر. ونصيرُ أيضاً ذوي نومٍ غير عميقٍ، وننال قسطاً أقلّ من النوم في الفترة الواحدة. هذه مشكلةٌ لأن الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 60 عاماً لا يزالون يحتاجون إلى فترةٍ من سبع إلى تسع ساعاتٍ من النوم في الـ 24 ساعة ـ مع أنّ بعضاً من ذلك يمكن تلبيته بالقيلولة.
هناك العديد من الأشياء التي يمكننا فعلها لتساعدنا على النومِ نوماً أفضل، ولكنها في جوهرها تتلخّصُ في محاولة الحفاظ على وقت نومٍ اعتيادي، وتجنب الكافيين في وقتٍ متأخرٍ من اليوم، وممارسة عاداتِ نومٍ صحيّةٍ جيدةٍ ـ كالنوم في غرفةٍ مظلمةٍ وهادئةٍ. إذا لم نفعل ذلك، فإن الأنماط المُشَوِشَةَ ـ مثل تلكؤ النّفاثة، وأوقات النوم المتغيرة باستمرارٍ، والعمل في وقتٍ متأخرٍ من الليل، والعادات غير المنتظمة من جميع الأنواع ـ سوف تتآمرُ لتَفَلّ الدماغ طوال العمر. فقد أُثبِتَ مراراً وتكراراً أن الأشخاص الذين يكسرون إيقاعاتهم اليومية بصورةٍ روتينيةٍ معرضون لخطرٍ متزايدٍ للإصابة بالاضطرابات التنكسيّة العصبية والنفسيّة. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن سبب ذلك هو أنّ كسر الإيقاع يُفقِدُ العديد من ساعات جسمنا تزامنها، ويقوّض إنتاج الناقلات العصبية الحاسمة، ويمكن أن يؤثر حتى في الطريقة التي تُعالج بها خلايا الدماغ الطاقةَ.
لن يسبب انحرافٌ مفردٌ أي ضررٍ دائمٍ في أداء دماغِك. لكن الإساءة المستمرة ستضرّه.
- افعلْ ما يجعلُكَ سعيداً
لقد قاد السعي وراء السعادة، والذي صُنِّفَ مساوياً للحياة والحرية، المفكرين العظماء لعدة قرونٍ. ولكنّه أكثر من مجرد فلسفةٍ. يوجد الآن دليلٌ فعلي على أن الرفاهة العاطفية أمرٌ حاسمٌ لصحة دماغنا. فالعديدُ من عشرات الآلاف من القرارات التي نتخذها كل يومٍ تدور حول البحث عن تجارب إيجابيةٍ وتجنب تجارب سلبيةٍ ـ بحثٌ مستمرٌ عن هذا الشعور بالرفاهة.
لكن كيف نصلُ إلى هذه الحالة السحرية؟ تشير الأدلة إلى أن الحفاظ على العلاقات الاجتماعية، والبقاء نشيطاً، وامتلاك إحساسٍ بالهدف في الحياة، كلها تسهم في الرفاهة العقلية. فقد وجِدَ أنّها تقلل الالتهابَ، وواسمات Markers التوتر البيولوجية، وكلاهما يُحَسِنُ الوظيفة المعرفية، ويقللُ التدهور المعرفي فيما بعد. وقد يكون العثورُ على الإحساس بالهدف إن كنت تعاني صعوباتٍ تحدياً، ولكن هناك بالتأكيد خطواتٌ يمكنك اتخاذُها. ويوصي المجلس العالمي لصحة الدماغ بتطوير الأهداف الشخصية والمتعلقة بالعملِ لتطويرِ الإحساس بالهدف، كرعاية الأصدقاء أو العائلة، أو ممارسة هوايةٍ أو تسليةٍ جذّابةٍ ومتطلبةٍ للكثير من الجهد، أو السعي إلى تحقيق أهدافٍ مهنيةٍ.
هناك طرقٌ أخرى يمكننا بواسطتها تحسينُ إحساسنا بالرفاهة أيضاً. إذ ثَبُتَ أيضاً أن الأشخاص الذين يتمتعون بقدرةٍ أفضل على التحكم في الأفكار السلبية وتبني التفكير الإيجابي يميلون إلى يكونوا ذوي وظيفةٍ تنفيذيةٍ مُحَسَنَةٍ، وصحةِ دماغٍ عامةٍ، وعمرٍ طويلٍ.
أحد مفاتيح تحقيق هذا التوازن هو السيطرة على التوتر. تفيد العديد من الأنشطة التي تقلل التوتر صحةَ الدماغ، بما في ذلك تمارين إطالة العضلات، والتأمل، والتاي تشي، والفن، والموسيقى. والرسالة هي أنه في السعي إلى تحقيق الرفاهة، لدينا قدرٌ هائلٌ من التحكم في الطريقة التي نرتب بها حياتنا لجعلها أكثر إمتاعاً، وأقل إرهاقاً، وأكثر إنتاجيةً. بفعلنا ذلك، لن نشعر بالتحسن فقط، بل سنفكر تفكيراً أفضل أيضاً.
امضغْ
تشير نحو دزينتين من دراساتٍ من جميع أنحاء العالم إلى وجود ارتباطٍ بين مضغ العلكة بصورةٍ دوريةٍ وتحسّنٍ في التفكير والذاكرة. والآليات الدقيقة ليست مفهومةً تماماً، ولكن أحد التفسيرات المحتملة هو أن المضغ يمكن أن يزيد تدفق الدم، مما يؤدي بدوره إلى تحسين مستويات الأكسجين في الدماغ ـ ويستفيد من يمضغون العلكة لأنهم ببساطةٍ يمضغون كثيراً.
قد يؤدي مضغ العلكة أيضاً إلى تدريب جزءِ الدماغ الذي يتحكم في حركة العضلات الإرادية. وجدت إحدى الدراسات التي نُشِرَتْ عام 2020 أن حجم المادة الرمادية في هذه المنطقة متطورةٌ أكثر في الأشخاص الذين يتمتعون “بأداء مضغ” أفضل.
تأثير الجنس في الدماغ
لا يزال ما نعرفه عن الجنس والدماغ، من الناحية العلمية، في مهده. لكنه مشوقٌ جداً. ففي الدراسات التي أُجْريت على الحيوانات، وجِدَ أن اللقاءات الجنسية المُجْزية تحفز تخلق النسيج العصبي في الحُصين، وهو مركز التعلم والذاكرة. وإضافة إلى ذلك، يجددُ النشاطُ الجنسي في الجرذان الأكبر عمراً الدماغَ، ويرفعُ تخلق النسيج العصبي إلى المستويات التي شوهِدَتْ في الجرذان الأصغر عمراً.
لكن ماذا عن البشر؟ لا يُحَسِنَ النشاط الجنسي المُجزي الدوري المستمرُ مدى الحياة مشاعرَ الرفاهة فقط، ولكنّ النشاط الجنسي الاعتيادي، بصورةٍ خاصةٍ مع شريكٍ مقربٍ عاطفياً، يمنحُ فوائد في مهارات التفكير عالية المستوى، بما في ذلك الذاكرة والاستذكار، والأداء الرياضياتي، والوعي المكاني، والطلاقة اللفظية.
بقلم: جيمس جودوين
ترجمة: محمد الرفاعي
© 2021, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC