هل يستطيع مصادم جديد كشف آخر أسرار بوزون هيغز؟
لم يكشف أشهر الجسيمات تحت الذرية عن شيء غير متوقع -حتى الآن. يريد الفيزيائيون حاليا بناء "مصنع هيغز" لاستقصاء أي إشارة عن فيزياء جديدة
على مدى نصف قرن، اعتلت مهمة العثور على بوزون هيغز Higgs Boson رأس قائمة مهام علماء فيزياء الجسيمات. وفي عام 2012 احتُفل باكتشاف بوزون هيغز باعتباره القطعة الأخيرة من اللغز لإكمال “النموذج القياسي” Standard Model، والذي يمثل تصورنا للواقع عند أعمق مستوياته. وذاع صيت بوزون هيغز، وصار اسما مألوفا على الرغم من ندرته بين الجسيمات الأولية Elementary particles.
لكن حاليا، وبعد عقد من الزمن تقريبا، لاتزال معرفتنا ببوزون هيغز محدودة جدا. ففهمنا لأغلب الجسيمات والقوى التي قادت إلى كوننا الحالي، لايزال غير واضح. وأملنا، إلى جانب بوزون هيغز، هو اكتشاف جسيمات وقوى جديدة تفسّر بعض الظواهر الغريبة وغير المتوقعة وتسلط الضوء على الصورة الأكبر. ولكن وللأسف، يتصرف بوزون هيغز تماما كما هو متوقع، ليقوض بذلك فكرة أن تفاعلاته غير المرئية ستساعدنا على اكتشاف فيزياء جديدة.
هل بوزون هيغز مملٌ حقا؟ ربما لا، فعمليات فحصٍ أكثر دقة قد تكشف طبيعته الحقيقية وظلال أشقائه الغريبين اكتشافًا أعمق. وأقرباؤه هؤلاء هم جسيمات “الفيل الوردي” Pink Elephant الغريبة، والتي قد يُخلخِل أيٌّ منها فهمنا الحالي للكون Universe. ويقول بن ألاناش Ben Allanach، اختصاصي علم فيزياء الجسيمات من جامعة كيمبريدج University of Cambridge، إننا بحاجة إلى “وضع بوزون هيغز على الطاولة وتشريحه، وتحفيزه لنرى أين يبدأ الاختلاف”.
عند وضع ذلك في الاعتبار، فإن العديد من فيزيائيي الجسيمات يدفع الآن في اتجاه صنع مصادم جسيمات جديد لإنتاج بوزونات هيغز بكميات ضخمة. ومن ثمّ، سيكون بوسعنا دراستها كما لم يحدث من قبل. لكن، هل سيفتح مصنع بوزونات هيغز هذا الأبواب على فيزياء جديدة؟ أم أنه عادي كما يبدو لنا، ومن ثمّ سيبين لنا حدود قدرتنا على فهم الكون؟
النموذج القياسي في فيزياء الجسيمات هو أفضل وصف لدينا لجميع الجسيمات المعروفة في الكون وطرق تفاعلها. إنه دقيق لدرجة مثيرة للإعجاب. ومنذ صياغتها في سبعينات القرن العشرين، فقد كان دوما الضوء المرشد لعلماء فيزياء الجسيمات. فقد دفع الإيمان بفكرة وجوب وجود قواعد رياضياتية أنيقة تحكم الجسيمات والقوى إلى بناء معجلات (مسرعات) جسيمات Particle Accelerators أكثر قوة ودقة، فكلُ منها مصمم تصميماً خاصاً لإيجاد جسيمات تنبأ بها النموذج القياسي. وقد عثرنا على تلك الجسيمات دوما.
وفي أبسط أشكاله، يتألف النموذج القياسي من معادلة بأربعة حدود Terms. يصف الحد الأول ثلاث قوى معروفة في الكون: الكهرومغناطيسية Electromagnetism ، والقوى النووية القوية، والضعيفة Strong and Weak Nuclear Forces. أما الحد الثاني؛ فهو يوضح الجسيمات الأولية وكيفية تأثرها بالقوى. أما الحدان الآخران؛ فقد صِيغا مؤخرا. إنهما يرويان وبشكل كبير قصة بوزون هيغز -الجسيم الذي نعتقد أنّ لديه أدلة ستساعدنا على فهم ما ينقص النموذج القياسي.
في عام 1964 اقترح بيتر هيغز Peter Higgs وآخرون وجود بوزون هيغز بهدف المساعدة على تفسير السبب وراء تراوح كتل الجسيمات الأساسية عبر مدى واسع يبدأ من الصفر وينتهي بعدد كبير جدا. تنص الفكرة الأساسية على أن هذه الجسيمات مغمورة في “مجال هيغز” Higgs Field وهو مجال غير مرئي يجرها بدرجات متباينة. اكتسبت هذه الآلية أهمية إضافية عندما أدرك الفيزيائيون أن القوتين الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة تندمجان في قوة واحدة “كهروضعيفة” Electroweak عند مستويات الطاقة العالية. إن جسيمات الضوء؛ الفوتونات Photons التي تحمل القوة الكهرومغناطيسية، هي عديمة الكتلة. أما حاملات القوة النووية الضعيفة؛ بوزونات W وZ، فليست كذلك. فقد شرحت آلية بوزون هيغز عدم التناظرAsymmetry هذا.
ولذا شاع الارتياح في عام 2012، عندما أُثبت وجود بوزون هيغز، آخر الجسيمات المفقودة في النموذج القياسي، في تجربة مصادم الهادرونات الكبير Large Hadron Collider (اختصاراً: المصادم LHC) في المختبر سيرن (اختصارا: المختبر CERN) الموجود بالقرب من جنيف في سويسرا. وحينها أعلنت صحيفة نيويورك تايمز The New York Times: علماء الفيزياء يكتشفون الجسيم المراوغ والأساسي في الكون.
الصورة الأكبر
مع ذلك، أدرك علماء فيزياء الجسيمات في ذلك الوقت أن الصورة لم تكتمل بعد، فالنموذج القياسي يعجز عن تفسير سبب تفوق وجود المادة عن وجود ضديد المادة Antimatter في الكون، كما أنه لا يقدم تفسيرا لماهية المادة المعتمة Dark Matter ؛ المادة الغامضة التي تمنع المجرات من التباعد عن بعضها البعض. كما تعجز علا تفسر ظاهرة الجاذبية.
يمثل توحيد العالم الكمي لفيزياء الجسيمات مع الجاذبية، الخاضعة للنسبية العامة General Relativity القفزة التالية لتكوين صورة كاملة عن الواقع. مع ذلك، فمن المحيّر أن تأثير الجاذبية أضعف بكثير من جميع القوى الأخرى، وهي لا تندمج بسهولة مع النموذج القياسي. خصوصاً أن الجسيمات الافتراضية لنظرية الجاذبية الكمّيّة Quantum gravity المقترحة تؤدي إلى تفاقم مشكلة موجودة التي تنص على أن تفاعل مجال هيغز مع الجسيمات “الافتراضية”؛ التي تواصل الظهور والاختفاء من الوجود في المجال المحيط بها، يجب أن يكون مقدار كتلتها أكبر بكثير من المقادير المتنبأ بها. إن تفسير سبب كون مقدار كتلة بوزون هيغز منخفض، دون اللجوء إلى التلاعب بالمعادلات، قد أربك العلماء النظريين.
ومن منظور أعمّ، يرتبط بوزون هيغز بالعديد من الجوانب الأكثر إزعاجًا في النموذج القياسي.، فهو العمود الفقري لما يبدو ترتيبا متداعيا من كتل الجسيمات، التي تتغير تبعا لقوة اقترانها ببوزون هيغز. فعلى سبيل المثال، الإلكترونات أخف بكثير من أقربائها المعروفة بالميونات Muons والتي بدورها أخف بكثير من أشقائها جسيمات تاو Tau Particles ولا يُعرف السبب الكامن وراء ذلك. يقول بيت هاينمان Beate Heinemann من جامعة فرايبورغ University of Freiburg في ألمانيا: “إنها فوضوية جداً”، ومن ثم يتابع قائلاً: “يحتوي النموذج القياسي على كل هذه الأعداد التي لا نفهمها بعد. ولا توجد قوانين تحكمها”.
وعلى النقيض من تلك الأعداد التي تنتج من النظرية، يكره الفيزيائيون إدخال الأعداد في النظريات يدوياً، فكلمات كـ “مضبوطة” و “مخصصة” هي إهانات في مجال يسعى إلى كشف الستار عن أعمق أسس الواقع. يقول هاينمان: “يبدو الأمر وكأن الجاذبية ستعمل عملاً مختلفاً بالنسبة إلى التفاح عما هي الحال مع البشر، أو الكواكب”، ويضيف قائلاً: “إن ذلك غير مُرضٍ أبدا. ما هو أصل هذه الأعداد؟”
يكمن الاختلاف الوحيد بين الإلكترونات والميونات وجسيمات تاو في النموذج القياسي في طريقة تفاعلها مع بوزون هيغز. ويشير الأصل الغامض لكتل تلك الجسيمات إلى وجود بنية أكثر عمقا، بنية قد تتكشف لنا عند دراسة بوزون هيغز دراسة متمحصة. وسيساعدنا قياس هذه التفاعلات بدقة على رؤية تناقضات لا يستطيع النموذج القياسي تفسيرها، ومن ثمّ سيوفر أدلة قد تقودنا نحو نظرية جديدة وشاملة.
في الواقع، لقد ألقينا نظرة على بعض هذه التفاعلات. ففي عام 2018، كشف المصادم LHC عن عمليات جسيمية يُنتج منها البوزون هيغز مع الكوارك القمي Top Quark ومكافئه الضديد : ضديد الكوارك القمي Top Antiquark. ويُعتبر الكوارك القمي الجسيم الأساسي الأضخم، فهو أثقل من الجسيم هيغز. ويعني ذلك أن الانحرافات عن النموذج القياسي، إن وجدت، ستكون جليّة هنا. وتقول فريا بليكمان Freya Blekman، من الجامعة الحرة في بروكسل Free University of Brussels في بلجيكا: “إنها طريقة رائعة لمصادمة الجسيم هيغز بقوة، ورؤية فيما إذا كان يتصرف كما نتوقع”. للأسف، لم تكشف قياسات الكوارك القمي عن شيء غير متوقع. وقد حصل ذلك أيضا في 2020 عندما شاهدنا ولأول مرة أدلة أولية على اضمحلال جسيم هيغز إلى ميونات ذات كتل ضئيلة.
حتى الآن، يبدو أن بوزون هيغز عادي، وهذا محبط جدا. مع ذلك، تترك قياسات المصادم LHC مجالًا كبيرًا للمناورة والاعتقاد أن الجسيم هيغز يخفي شيئًا وراء واجهته المملة. في الواقع، لا يوجد نقص في الأفكار حول ماهية الجسيم هيغز، أو ما يفعله. يقول جون بتروورث Jon Butterworth، من جامعة يونيفرسيتي كوليدج لندن University College London: “توجد العديد من التعديلات التي يُمكنك إضافتها له”.
لقد قُسمت الجسيمات، التي اعتبرناها سابقًا أساسية وغير قابلة للتقسيم، ومن ثمّ جرى تقشيرها مثل طبقات البصل. وانقسمت الذرات إلى بروتونات Protons ونيوترونات Neutrons وإلكترونات Electrons وبعد ذلك تبين أن البروتونات والنيوترونات مؤلفة من كواركات Quarks. ذلك صحيح أيضا بالنسبة إلى الجسيم هيغز، فربما توجد مكونات أصغر مخبأة داخله. فعلى سبيل المثال، تضيف نمذجات “توأم هيغز” Twin Higgs أو “بوزونات هيغز الصغيرة” Little Higgs تناظرات جديدة ومعقدة إلى النموذج القياسي كحلول مبتكرة لفهم سبب المقدار القليل المُستغرب لكتلة بوزون هيغز. فعند النظر إلى أي انحراف قد ينتج من الطريقة النموذجية لاضمحلال بوزون هيغز إلى جسيمات أخرى، قد نكتشف بوزونات هيغز أكثر تعقيدا قابعة في صميم الواقع.
ربما تُخفي تفاعلات جسيمات هيغز احتمال ظهور جسيمات جديدة أيضا، فجسيم هيغز هو الجسيم الأولي الوحيد الذي ينعدم لديه العزم “المغزلي” الذاتي الميكانيكي-الكمي Quantum-Mechanical Spin، وهذا يعطيه طبيعة متقلبة وفريدة من نوعها. فعلى سبيل المثال، إذا قلبنا معظم الجسيمات الأولية رأساً على عقِب فإنها ستتصرف تصرفاً مختلفاً بسبب عزمها المغزلي الذاتي . ومع ذلك، فهذا لا ينطبق على الجسيم الذي يفتقد إلى العزم المغزلي الذاتي (يساوي صفراً). ويقودنا ذلك إلى أن جسيمات هيغز تتصل بسهولة بالجسيمات الأخرى، بما في ذلك تلك التي تنتظر دورها لنكتشفها.
الفِيَلَة الوردية
إذا سبرت الكيفية التي يضمحل بها بوزون هيغز إلى جميع الجسيمات المعروفة ووجدت أن بعض الطاقة مفقود، سيشير ذلك إلى وجود جسيمات مستجدة لا تستطيع الكاشفات الحالية كشفها. وقد يضمحل ربع بوزونات هيغز إلى “فيلة وردية” Pink Elephants، كما أسماها هاينمان، وستكون هذه الفيلة مرشحا رئيسا للمادة المعتمة.
والنظريات تتنبأ أنه عند مستويات الطاقة العالية يمكن لبوزون هيغز أن يضمحل إلى نفسه. وهذا التفاعل ليس فقط غير معروف سابقاً بالنسبة إلينا، لكنّ الكيفية التي يقوم بها الجسيم هيغز بذلك هي ما قد تُحدد قصتنا الكونية. ويدلنا هذا “الاقتران الذاتي” Self-Coupling على الكيفية التي نشأ بها مجال هيغز بُعيد الانفجار الكبير Big Bang. وإلى جانب منح الجسيمات خاصية الكتلة، مما يهيئ لكواكب والنجوم والمجرات التشكل، فإن فهم الكيفية التي يحدث بها ذلك التحول قد يكشف لنا عن سبب وجود كمية من المادة أكبر من كمية ضديد المادة في الكون.
تكمن المشكلة في أن قياسات المصادم LHC لم تتمكن حتى الآن من استبعاد هذه الاحتمالات المختلفة، أو تحديد قدرات بوزون هيغز بدقة. ويقول ألاناش إن المصادم LHC يجري عمليات “فيزياء تجريبية”، فهو يحطم البروتونات معا في تصادمات فوضوية وعالية الطاقة ليستكشف ماهيتها. ويصعب وسط هذه الفوضى التعامل مع تفاصيل هيغز الدقيقة. فقد قيست معظم اقترانات هيغز مع الجسيمات الأخرى بدقة تبلغ نحو 10-20%، حسب الجسيم الخاضع للدراسة. ويعلّق بليكمان قائلا: “من السهل جدًا الادعاء بتوافق شيء ما مع البيانات عندما يكون مدى الشكوك واسعا جدا”.
يفسر كل ما سبق سبب ضغط بليكمان وآخرون لإنشاء مصادم جسيمات جديد يُمكنه إنتاج بوزونات هيغز بأعداد كبيرة. وسيولد مثل هذا المصادم ملايين الجسيمات دون وجود “ضجيج” Noise يعيق رؤيتنا لما يحصل، ومن ثمّ سيسمح لنا ذلك بقياس اقترانها مع الجسيمات الأخرى بدقة أكبر. وإضافة إلى ذلك، سيتيح مصنع جسيمات هيغز المُحسّن الذي يجمع بين البروتونات الأثقل والأكثر نشاطًا بدلاً من الإلكترونات، المجال أمام قياس الاقتران الذاتي لجسيم هيغز.
في شهر يونيو 2021 اتفقت الدول الثلاث والعشرون الأعضاء في المختبر CERN على أن أولويتها القصوى هي متابعة بناء مصنع جسيمات هيغز الذي يصادم الإلكترونات والبوزيترونات Positrons ، الجسيم ضديد الإلكترون، مع بعضها البعض. ويقول بليكمان: “يتفق الجميع على ضرورة صناعة آلة ما تولد الكثير من بوزونات هيغز”.
على الرغم من الثقة بأن بناء مصنع لتوليد جسيمات هيغز هو الطريقة الصحيحة لكشف أسرار الجسيمات، إلا أنّ بعض الفيزيائيين يعترفون بأن بوزون هيغز ربما لا يقدم أي جديد – ولذلك ربما لا يكتشف المصنع شيئًا. ويضيف بتروورث: “سيكون ذلك مدهشًا أيضا على الرغم من صعوبة تقبله”.
النموذج القياسي قد مثّل حتى وقت قريب المخطط الأساسي الذي يعطينا الإشارة نحو ما يمكن اكتشافه. أما الآن ومع اكتمال أجزاء اللغز وقليل من الأدلة الإضافية المرتبطة بما سيأتي، فإننا نتدافع في العتمة.
أطلق الباحثون النظريون من المختبر CERN على عملية العثور على بوزون هيغز دون غيره في المصادم LHC وصف “السيناريو الكابوس” Nightmare scenario، فقد ظنّ العديد من الفيزيائيين أنهم سيشاهدون أيضًا جسيمات “الشريك الفائق” Superpartner، والتي تنبأت بها نظرية التناظر الفائق Supersymmetry Theory – وهي النظرية التي تهدف إلى سد الفجوات في النموذج القياسي. فعند إضافة جسيمات جديدة إلى المزيج، سيكون بوسع الباحثين النظريين تفسير الكتلة الخفيفة المحيرة لبوزون هيغز. ففي الوقت الذي تزيد تفاعلات هيغز مع الجسيمات المعروفة من كتلته، فإن جسيمات الشريك الفائق تُخفض كتلته إلى تلك القيمة التي قاسها المصادم LHC.
لم تقدم نظرية التناظر الفائق طريقة أنيقة لتوحيد قوى الطبيعة الأربع فقط، بل أسبغت جسيمات الشريك الفائق هويةً على المادة المعتمة.
مع غياب أي أدلة على وجود جسيمات أخرى في المصادم LHC ، انهارت أكثر نظريات التناظر الفائق منطقية. والطريقة الوحيدة لحل مسألة كتلة هيغز الخفيفة هي الإضافة اليدوية لقيمة ابتدائية لكمية تُعرف بالكتلة المجردة لبوزون هيغز Bare Mass أي كتلته قبل أن نأخذ بعين الاعتبار جميع التفاعلات مع الجسيمات الافتراضية حوله، ونحن نفعل ذلك لإلغاء تلك التفاعلات فقط. ويعلق بتروورث على ذلك قائلا: “لقد ضُبطت ضبطاً دقيقاً ومريباً، إلى درجة لا يمكن أن تكون مصادفة”.
ومرجع فكرة التناظر الفائق هي فكرة الطبيعية Naturalness. وتنص هذه الفكرة على أن القوانين الحاكمة للكون أنيقة وقابلة للتفسير، بدلاً من كونها مؤقتة وعشوائية. وعلى مدى التاريخ، اشتبه الفيزيائيون بافتقاد نظريتهم لشيء ما عندما تظهر أعداد تبدو مضبوطة بدقة -وفي العادة، هم محقون في ذلك. ولهذا السبب فإن غياب اكتشاف جسيمات جديدة في المصادم LHC هو “تَذكِرة واقعية” Sobering moment، كما قال ناثانيال كريغ Nathaniel Craig، من جامعة كاليفورنيا University of California في سانتا باربرا، والذي أضاف قائلاً: “حالياً يوجد تحفّض كبير من استخدام المعايير الجمالية”.
عند التساؤل عن الطبيعية، يصعب معرفة ما إذا كانت جسيمات جديدة، ولا تنتمي إلى النموذج القياسي، موجودة عند مستويات طاقة يمكن لمصادمات الجسيمات بلوغها. ويقول كيث إليس Keith Ellis، الباحث النظري من جامعة دورهام Durham University بالمملكة المتحدة: ” أحد الأمور التي تعلمناها هي أن النموذج القياسي يبقى صالحا حتى عند بلوغ مستويات طاقة عالية جدا”، وتابع قائلًا: “إنه احتمال محبط”. في نهاية المطاف، ربما لا تكون الطبيعة أنيقة كما يأمل الفيزيائيون، وبعض أجزائها ربما لا يكون معروفا أيضا، بغض النظر عن مدى قوة أو دقة مصادم جسيماتك.
لايزال ألاناش متفائلاً. وقد غيّر طريقة دراسته من النظريات التنازلية؛ والتي تنطلق من المبادئ الجمالية الكبرى، إلى ما يدعوه التفكير “من أسفل إلى أعلى” Bottom-up. يبدأ ذلك انطلاقا من الشقوق الصغيرة في النموذج القياسي -مثل الجسيمات التي تضمحل بسرعة كبيرة، أو تلك التي تزيد مغناطيسيتها عما نتوقع- ومن ثمّ تُبني هذه النظريات قطعة-قطعة. فإذا كانت إضافة جسيم جديد ستساعد على تفسير البيانات تفسيراً أفضل، فإن ذلك يستحق التفكير بصرف النظر عن مدى جاذبية الفكرة من الناحية الجمالية.
ويعتقد ألاناش أن مصنع جسيمات هيغز سيسمح لنا بسبر هذه الشقوق الصغيرة. ومع أن ذلك ليس مثيرًا، كما هو الحال مع اكتشاف جسيمات جديدة، إلا أن قياس جسيمات هيغز بدقة يجب أن يوضع بعين الاعتبار وفقا لألاناش ، فهو يوفر قاعدة صلبة من البيانات المهمة لاستشكاف الأفكار الجديدة.
ويقول ألاناش: “في صميم قلبي أعتقد أنه سيكون هناك نموذج مثل النموذج القياسي سيحتوي كل شيء، وسنتمكن من فهمه”، ويتابع: “لكننا بحاجة إلى تغيير الطريقة. أنا قلق لأننا صرنا مقيدين جدا بما يخبرنا الباحثون النظريون به، ونسينا حقيقة أننا نستكشف أرضًا مجهولة”.
بقلم: توماس لوتون
ترجمة: همام بيطار
© 2021, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC