جوالة المريخ تكتشف بصمة تشير إلى مصدر لحياة سابقة
يمكن تفسير الكربون "الخفيف" أيضاُ بتفاعلات جوية أو بغبار كوني
منذ عام 2012 تتنقل جوالة ناسا الاستكشافية عبر سطح المريخ، منقبة الصخور، وساحبة التربة عبر مختبر كيميائي متطور محمول، مستهدفة اكتشاف دليل على وجود حياة. واليوم أعلن فريق من علماء المركبة الجوالة عن العثور على إشارة مثيرة للاهتمام، قد تشير إلى وجود حياة سابقة، أو إلى عدم وجودها، ولكنها على الأقل إشارة غريبة جداً. فقد اكتشف الفريق أن الكربون المحبوس في حفنة من الصخور التي تفحصتها الجوالة غنية جداً بنظائر خفيفة من الكربون. وعلى الأرض يمكن النظر إلى هذه الإشارة على أنها دليل على وجود حياة ميكروبية قديمة.
لكن لما كان هذا هو المريخ، فالباحثون مترددون في التصريح بأي ادعاءات كبيرة. فقد عملوا بجد على إيجاد تفسيرات غير ميكروبية بديلة تتعلق بأشعة فوق بنفسجية أو بغبار نجمي. فهذه البدائل غريبة بقدر غرابة إصدار ميكروبات تعيش تحت التربة للكربون الغني على شكل غاز الميثان. ويختتم الفريق الدراسة بالقول: ” ارفع مستوى الاحتمال” بأن الميكروبات وجدت ذات يوم على الكوكب، وأنها لا تزال هناك إلى اليوم، كما يقول البيوكيميائي Biochemist كريستوفر هاوسChristopher House من جامعة ولاية بنسلفانيا Pennsylvania في يونيفرسيتي بارك، والباحث الرئيس بالدراسة التي نشرت في الأسبوع الثاني من يناير 2022 في دورية وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم Proceedings of the National Academy of Science.
أما مارك هاريسون Mark Harrison -عالم فضاء من جامعة كاليفورنيا، University of California بلوس أنجلوس – ولا يعمل مع فريق الجوالة؛ فيوافق على أن الإثراء الكربوني إشارة مهمة على وجود حياة قديمة. ولكن المؤلفين متحفظون كما يقول، مشيراً إلى أن مثل هذه الدلائل مثيرة للنقاش حتى على الأرض، وأنه لا يمكن استبعاد التفسيرات غير البيولوجية.
تستفيد الدراسة الجديدة من بصيرة أثبتها الزمن: الحياة كسولة. ويوجد الكربون على شكل نظيرين مستقرين: الكربون-12 ” الخفيف”Light الذي يشكل الغالبية العظمى من الكربون، والكربون -13 “الأثقل” بنيوترون إضافي. ونتيجة لهذا النيوترون الإضافي، يميل الكربون -13 إلى تشكيل جزيئات ذات روابط أقوى قليلاً. لذلك طوَرت الأحياء آليات تفضل الكربون -12 الأسهل للشطر، لذا فمعظم الجزيئات العضوية الصادرة من الأحياء غنية بالكربون -12. وغاز الميثان من حقول الأرز على سبيل المثال، أغنى بالكربون الخفيف مقارنة بالميثان غير البيولوجي المنبعث من فوهات مائية حرارية Hydrothermal vents في قاع البحر.
فحص الفريق 24 عينة صخرية مختلفة، جُمعت من حفر خلال رحلة المركبة الجوالة كيوريوسيتي Curiosity عبر فوهة البركان غيل Gale التي تحتوي على صخور طينية من بحيرة قديمة. وقد شوي الصخر المسحوق في فرن داخل الجوالة؛ مما حوّل الكميات الضئيلة من الكربون المحصور في الصخر إلى غاز الميثان. وبعد ذلك فُحص الغاز بالليزر الذي أظهر تركيب الميثان من النظائر. وتباينت النتائج كثيراً، لكن في مواقع ستة كانت نسبة الكربون-12 إلى الكربون -13 أعلى بـ 70 جزءًا بالألف مقارنة بالخط القاعدي لأي قياس على الأرض. ويقول هاوس: ” هذه إشارات قوية “. وبما أن الإشارات الأقوى أتت من صخور في أعلى القمة، ومن مرتفعات أخرى في فوهة البركان، يعتقد الفريق أن الكربون الأغنى قد ترسب بطريقة ما من الجو منذ بلايين السنين بدلا من أن يكون من رسوبيات البحيرة.
ربما وصل تركيز الكربون الخفيف إلى هذه المستويات العالية على عدة مراحل. إذ يتصور الباحثون ميكروبات تحت أرضية عميقة تغذت بالكربون الخفيف في صهارة Magma المريخ، وأطلقت غاز الميثان. (جو المريخ فقير بالكربون الخفيف ولذا يعتبره الباحثون مصدراً ميكروبياً غير محتمل) ثم تغذت الميكروبات الأخرى على السطح بالميثان المنبعث؛ مما رفع من مستويات الكربون الخفيف أكثر فأكثر، مثبِّتة إياه في السجل الأحفوري عندما ماتت.
ولكن الجوالة لم تلحظ أدلة مادية على وجود الميكروبات قديمة. لذا يقول الباحثون إنه من المحتمل أيضاً أن الميكروبات العميقة ربما بدأت عملية الإثراء بالكربون، والأشعة فوق البنفسجية رفعت نسبتها على مر الوقت. وربما حطمت الأشعة فوق البنفسجية جزءًا من الميثان الميكروبي، مما أسهم أكثر في عملية إثراء الكربون الخفيف أكثر، وفي الوقت نفسه توليد منتجات مشتقة منها -مثل الفورمالدهايد Formaldehyde- التي تترسب في النهاية على السطح.
أو ربما مرت المجموعة الشمسية الحديثة -بما في ذلك المريخ المبكر- عبر غيمة فضائية من الغاز و الغبار، وهو ما يعتقد حدوثه مرة كل 100 مليون عام أو ما يقارب ذلك. ولذا، فالكربون في مثل هذا الغبار خفيف يماثل المستويات التي حصلت عليها كيوريوسيتي، قياسا على العينات المحصورة في النيازك Meteorites. ربما غطت الغيوم أشعة الشمس، ودفعت المريخ إلى تجمد واسع الانتشار، ومانعة الكربون الخفيف في مطر الغبار الكوني من أن يُخفَّف بفعل المصادر الكربونية الأخرى. ويقر هاوس أن السيناريو يتطلب مصادفة لا تصدق من تطابق الأحداث، كما أنه لا دليل على التجمد في فوهة بركان غيل. لكنه يقول إنه لا يمكن استبعاده.
والأكثر غرابة هو أن بعض الدراسات تقترح أن بإمكان الأشعة فوق البنفسجية توليد الإشارة الكربونية دون مساعدة البيولوجيا على الإطلاق. ويمكن للأشعة فوق البنفسجية أن تتفاعل مع ثاني أكسيد الكربون – والذي يشكل 96% من جو المريخ لإنتاج أول أكسيد الكربون و الغني بالكربون-12. ويقول يوشيرو يونو، عالم فضاء في معهد طوكيو للتكنولوجيا Tokyo Institute of Technology، إنه أثبت مؤخرا إمكانية حدوث هذه العملية في نتائج تجارب مخبرية غير منشورة، ويضيف قائلا: “فقد كانت نسب النظائر الكربونية تماماً كما توقعتها”.
ويقول يونو ربما كان للمريخ الأبكر جوٌّ مختلفٌ غنيٌ بالهيدروجين تفاعل مع أول أكسيد الكربون ليشكل مجموعة من الجزيئات العضوية. وهذه الجزيئات سقطت في النهاية من الهواء تاركة البصمة التي اكتشفتها كيوريوسيتي.
هذه السيناريوهات كلها ربما حدثت في الزمن السحيق. ولكن كيوريوسيتي تبحث عن الكربون في هواء المريخ الحالي. وقد رصدت الميثان لكن بتراكيز أقل بكثير مما هو مطلوب لتتمكن الجوال من قياس مستويات النظائر الكربونية مباشرة (الأمر المحير هو أن الأجهزة الحساسة في المدار لا ترصد أي ميثان). لو اكتشف كربون خفيف في سحابة أكثف من الميثان، فإن ذلك سيطرح إمكانية أكثر إثارة كما يقول هاوس، ويضيف قائلا: “على الرغم من أننا ننظر إلى عملية قديمة محتملة، إلا أن الميثان اليوم يمكن أن يكون من الغلاف الحيوي Biosphere نفسه الموجود حاليا”.
نبذة عن الكاتب:
بول فوسن كاتب يُغطِي مواضيع علم الأرض والكواكب.
©2022, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved
بقلم: بول فوسن Paul Voosen
ترجمة: د. سعد الدين خرفان