المُشكلة الصعبة لتفسير ماهية الوعي بدأت تتلاشى فعلياً
يُتَوَقَّعُ للعلم أن يحل اللُغزُ الكبير المُتمثل بتفسير الوعي، الكيفية التي تُفضي بها الأجسام المادية إلى تجربة واعية، علينا فقط أن نستخدم النهج الصحيح للتعامل معها، هذا ما يقولهُ الاختصاصي علم الأعصاب أنيل سيث:
إنّ طبيعة الوعي Consciousness هي حقاً أحد أعظم الألغاز الكونية، لأن الوعي بالنسبة إلى كلٍ منا يُمثل كل ما هو موجود. من دونها لن يوجد عالم ولا ذات ولا حياةٌ داخلية أو خارجية، لن يوجد أي شيء على الإطلاق.
ويصعب إخضاع الوعي لتعريف مُعين بسبب طبيعتها الذاتية. والتعريف الأقرب إلى الإجماع هو أن هناك “حالة تشبهُ أن يكون المرءُ واعيا”. فهناك حالة تُشبهُ أن أكون أنا أو أنت، وربما حالة تُشبه أن تكون دولفيناً أو حتى فأراً. ولكن ليس هناك – كما يُفترض – حالة تُشبهُ أن تكون بكتيريا أو لُعبة روبوتية. ويكمن التحدي في فهم كيف ولماذا يُحْتَمَلُ أن يكون هذا صحيحاً. وكيف ترتبط الخبرات الواعية بالخلايا والجزيئات والذرات الموجودة داخل الأدمغة والأجسام؟ لماذا يجب أن تُفضي الأجسام المادية إلى حياةٍ داخلية Inner life أصلا؟
بعض الناس يخشون من أن العلم رُبما لم ينضج ليكون على مستوى هذه المهمة. من خلال إشارتهم إلى عدم إمكانية التحكم ، بدقة، في تجارب الشعور أو حتى مراقبتها. حتى أن البعض أخذ يُشكك في فكرة: أن الآليات المادية Physical mechanisms ستتمكن في يوما ما من تفسير الوعي.
أنا لا أتفق مع ذلك (كما يقول عالم الأعصاب أنيل سيث). أعتقد أن العلم بمقدوره تفسيرُ الوعي، ولكن فقط في حال توقفنا عن معاملته على أنهُ لُغز كبير واحد يتطلب حل استثنائي. وعِوضاً عن ذلك، يجب أن نُقسمُه إلى خواصه المختلفة ذات الصلة وأن نعالج كل منها بدوره. وتدريجيا مع تقدمنا في تفسيرنا لسبب ارتباط أنماط مُعينة من النشاط الدماغي بأنواع مُعينة من الخبرة الواعية؛ سنجد أن اللُغز الأعمق للوعي يبدأ بالتلاشي.
لقد تأمل البشر بالعلاقة بين الأجسام المادية والخبرة الواعية لفترة طويلة. في القرن السادس عشر، قسّم رينيه ديكارت René Descartes الكون إلى “أشياء مفكرة”(Res cogitans)؛ أي العقل والوعي، و “أشياء مُمتدة” (Res extensa)؛ والذي كان يقصد به العالم المادي، الأمر الذي أدى إلى نشوء مُعضلة حول الكيفية التي قد يتفاعل بها الاثنان. ويرافق منظورهُ الثنائي الآن مجموعة من البدائل المُحيرة التي تتراوح بين الوهم Illusionism ــ كالاقتراح بأن الوعي غير موجود على الأقل ليس بمعنى أننا نفكر عادة في الوعي ــ إلى النفسانية الشاملة Panpsychism، والتي تفترض أن الوعي أساسي وكُليُ الوجود. تتلخص وجهة النظر العلمية التقليدية القائلة بالمادية -وهي وجهة النظر الأكثر جاذبية في اعتقادي- في أن الوعي مرتبط بالمادة الفعلية أو ينشأ منها. والسؤال هو كيف؟
في تسعينات القرن العشرين قدم الفيلسوف ديفيد تشالمرز David Chalmers تمييزا مؤثرا يفصل بين مشكلات الوعي “السهلة” Easy و “الصعبة”Hard . والمشكلة السهلة هي في الواقع سلسلة من المشكلات. وهي تنطوي على فهم كيف أن الدماغ – بالتنسيق مع سائر الجسم- يؤدي وظائف مثل الإدراك Perception، والإدراك المعرفيCognition ، والتعلم Learning، والسلوكBehaviour . في الواقع أن هذه المشكلات ليست سهلة على الإطلاق؛ والمقصود هنا أنهُ لا يوجد غموض مفاهيمي Conceptual mystery، وأن هذه المشكلات يتسنى حلها من حيثُ بالآليات المادية، مهما كانت هذه الآليات معقدة وصعبة تمييزُها. أما مُشكلة تشالمرز الصعبة؛ فهي لغز لماذا وكيف ينبغي لأي من هذا أن يكون مصحوباً بتجربة واعية على الإطلاق: لماذا لا نكون مجرد روبوتات بشرية، من دون عالمٍ داخلي؟ وقد يكون من المغري أن نعتقد أن حل المشكلات البسيطة لن يوصلنا إلى أي نتيجة على الإطلاق نحو حل المشكلة الصعبة، تاركاً أساس الإدراك الدماغي لغزاً تاماً.
لحسن الحظ هناك بديل أسميه بــ “المشكلة الحقيقية” Real problem للوعي والذي يتضمن: كيفية التفسير Explain التنبؤ Predict والتحكم Control في الخصائص Properties المختلفة للوعي من حيث العمليات المادية في الدماغ والجسم. والمشكلة الحقيقية مستقلة عن المشكلة الصعبة لأنها لا تتعلق – على الأقل ليس في المقام الأول – بتفسير لماذا وكيف يكون الوعي جزءًا من عالَمنا. كما أنها تختلف عن المشكلات السهلة لأنها لا تتجاهل الخصائصَ الذاتية والتجريبية. إن المشكلة الحقيقية لا تتمثل بكونها نهجٌ جديد للتفكير كُلياً، لكن في اعتقادي أن شرحنا الأشياء من حيث التفسير والتنبؤ والتحكم قد أسهم في بلورة ما ينبغي أن يكون عليه علم الوعي الناجح، فهذه هي المعايير التي تُطبق في معظم مجالات العلم الأخرى.
خذ، على سبيل المثال، التجربة البصرية باللون الأحمر. تطرح المشكلة الصعبة سؤالاً حول سبب وجود مثل هذه التجربة أساسا، في حين أن المشكلات السهلة تنطوي على جميع العمليات والنتائج المرتبطة بضوء من طول موجي مُعين يدخل العين. من وجهة نظر المشكلة الحقيقية، نريد أن نعرف ماهية الأنماط المعينة من النشاط الدماغي التي تُفسر (وتُنبئ وتحكم) السبب الذي يجعل تجربة اللون الأحمر كما هي عليه. لماذا لا تُشبهُ اللون الأزرق أو ألم الأسنان أو حتى الغيرة؟
هذه المقاربة لها تاريخ عريق نوع ما. منذ وقت ليس ببعيد، شكك علماء الأحياء والكيميائيون في أن خاصية “كون المرء عُنصراً على قيد الحياة” يُحْتَمَلُ تفسيرها آلياً. وفي الوقت الحاضر، على الرُغم من أن جوانب كثيرة من الحياة لا تزال مجهولة، إلا أن فكرة “أن تكون على قيد الحياة هو أمر يتطلب خلطة سرية” هي فكرة قد عفا عليها الزمن. كما أن مشكلة الحياة الصعبة شُتت أكثر من كونها حُلت.
الآن صار من الواضح أن الحياة ليست كالوعي. والأكثر وضوحا هو أنه يمكن وصف خصائص الحياة على نحوٍ موضوعي Objectively، في حين أن خصائص الوعي موجودة فقط في منظور الشخص نفسه First person. ولكن هذا ليس بالحاجز الذي لا يمكن اجتيازه؛ فهو يعني أنه يصعب جمع المعلومات ذات الصلة لأنها في الأغلب ذاتية Subjective.
جُزءٌ من استراتيجية تشتيت المسألة الصعبة للحياة قام على التوقف عن التعامل معها على أنها لغز من الألغاز المُخيفة التي تحتاج إلى حل عبقري، وبدلا من ذلك اعتبارها على أنها مجموعة من الخصائص المرتبطة ببعضها، كلٌ منها يمكن معالجته بقدر من الاستقلالية. إذ في حالة الوعي هناك العديد من الطرق لقطع الكعكة. في كتابي أن تكون أنت: علم جديد للوعي Being You: A New Science of Consciousness، أميز بين مستوى الوعي Conscious level (مدى وعيك، كما هي الحال في الفرق بين التخدير العام والإدراك اليقظ العادي، والمحتوى الواعي Conscious content (ما تدركه) والذات الواعية Conscious self (تجربة “أن تكون أنت” – أو “أن أكون أنا”). وإذا تمكنا من تطوير وصف لهذه الجوانب المختلفة للوعي التي تفسر وتتنبأ وتتحكم في هذه الجوانب المختلفة من الوعي، فإنني أعتقد أنه ستتضح أمامنا صورةً مقبولة لكل التجارب الواعية.
لنُركز على المضمون والذات Self. إن استراتيجيتي لتفسير خصائص الوعي هذه مبنية على نظرية شاعت كثيراً في علم الأعصاب المعرفي Cognitive neuroscienceتُعرفُ بالمعالجة التنبؤيةPredictive processing .
المضمون الأساسي للفكرة بسيط. تخيل نفسك مكان دماغُك الحبيس داخل القبوٍ العظمي للجمجمة، في محاولة منك لاستكشاف ما هو موجود في العالَم – عالمٌ من وجهة نظر الدماغ يشمل الجسم أيضاً. كل ما تعتمد عليه هو إشارات كثيرة الضوضاء وغامضة، والتي لا ترتبط بما هو موجود إلا اتباطا غير مباشر، والتي بالتأكيد لا تأتي مع بطاقات تعريف مرتبطة بالأشياء مثل: (“أنا من فنجان قهوة! أو أنا من شجرة!). في هذا السياق، لابد وأن يكون منظور الإدراكُ الحسي Perception عمليةً استدلالية Process of inference – مشتقة من تخمين احتمالي يُقام بها عصبياً. عندما أرى فنجان قهوة أحمر اللون على الطاولة أمامي، فإن هذا يكون لأن “فنجان القهوة أحمر اللون” هو أفضل تخمين يتوصل إليه الدماغ للأسباب الخفية والمجهولة للإشارات الحسية Sensory signals المرادفة. عندما أشعر بدفء غروب الشمس أو الطُعم الحاد لجُبنة غنية الطعم، فإن هذا أيضاً هو أفضل تخمين للإدراك الحسي.
كيف يجري التوصل إلى هذه التخمينات للإدراك الحسي؟ طبقاً للمعالجة التنبؤية Predictive processing، فإن الدماغ يُعاير Calibrating باستمرار تنبؤاته الحسية باستخدام البيانات الواردة من الحواس.
تفترض نظرية المعالجة التنبؤية أن الإدراك الحسي ينطوي على تيارين من الإشارات العصبية ينسابان عكس بعضهما البعض. فهنالك تيارٌ “من الداخل نحو الخارج” “Inside-out” stream، يتدفق إلى الأسفل عبر التدرجات الهرمية للمُدركات الحسية للدماغ، والتي تنقل التنبؤات حول أسباب المدخلات الحسيةSensory inputs . ومن ثم هناك أخطاء في التنبؤ “من الخارج نحو الداخل” Outside-in -الإشارات الحسية Sensory signals- التي تُبلِغ عن الاختلافات بين ما يتوقعه الدماغ وما يحصل عليه. بتحديث تنبؤاته باستمرار بهدف تقليل أخطاء التنبؤ الحسي سيستقر الدماغ -ويُعيد التثبيت- على أفضل تخمين مستمر التطور لأسبابه الحسية وهذا ما نُدركه بوعي.
الإدراك الحسي وفق هذا المنظور ليس تسجيلاً سلبياً لواقع خارجي، بل هو بناء نشط، وهو نوع من “الهلوسة المُتحكم بها” Controlled hallucination ترتبط فيه أفضل تخمينات الدماغ بالعالَم ــوالجسم- من خلال عملية مستمرة للتقليل من الخطأ في التنبؤ.
إن المعالجة التنبؤية لا تُمثل نظرية للوعي Theory of consciousness، بمعنى أن حل مشكلة تشالمرز الصعبة سيتطلب (نظريات الوعي). بدلا من ذلك، على الأقل في البداية، يُفضل اعتبارها نظرية لعلم الوعي، بالمعنى الحقيقي للمشكلة. وهو يوفر طريقة لبناء جسور تفسيرية بين الآليات العصبية والجوانب المتعلقة بالتجارب الواعية من منظور الشخص الذي يختبرها.
هذا ما كنا نقوم به أنا وزملائي في مختبري في جامعة ساسكس University of Sussex بالمملكة المتحدة. وبعضٌ تجاربنا بسيط جدا -على سبيل المثال، أن نجد أن الناس يدركون بوعي الصور المتوقعة بسرعة ودقة أكبر مقارنة بالصور غير المتوقعة. ولكن الدراسة المثيرة حقاً هي تلك التي تقودنا إلى أعمال علم الفينومينولوجيا (علم الظواهر) Phenomenology -أي “ما هو يشبه” – التجارب الواعية. في أحد الأمثلة ندرس أنواعاً مختلفة من ظواهر الهلوسات البصرية Visual hallucination من حيث اعتمادها على أنواع مختلفة من تنبؤ الإدراك الحسي.
بنية الإدراك الحسي
بعض الهلوسات كتلك المتولدة عن الذهان Psychosis أو أمراض التنكس العصبي Neurodegenerative disease قد تكون معقدة؛ فتظهر مُشاهدات إدراكية حسية ثرية محسوسة كأنها أحداث واقعية. والبعض الآخر، مثل تلك التي تنشأ عن فقدان بصري تدريجي، يُتَوَقَّعُ أن تكون بسيطة نسبياً وليست لها خبرة على أنها مستمرة مع العالم الحقيقي. وأخرى، مثل تلك الناشئة عن فقدان البصر التدريجي، فقد تكون بسيطة نسبياً ولا يشعر بها على أنها متصلة بالعالم الحقيقي. يتسنى محاكاةSimulate هذه الاختلافات باستخدام بُنى الشبكة العصبية الجديدة Novel neural network architectures التي تدرس تنبؤات الإدراك الحسي بعدة طرقٍ متباينة. فهذه الشبكات العصبية تعمل كنمذجات حوسبيةcomputational models تنمذج الأساس الدماغي للتجارب البصرية، وبمقدورنا التحقق من مُخرجاتها بالطلب إلى الأفراد الذين يمرون بحالة هلوسة أن يقيّموا ما توصلوا إليه. ونحن الآن نوسع هذا النهج – الذي نُسميه “الفينومينولوجيا الحوسبية” Computational phenomenology – ليشمل جوانب أخرى أكثر جوهرية من تجربة الإدراك الحسي، مثل الإحساس بمرور الزمن والبنية الثلاثية الأبعاد للحيز البصري Visual space.
ومن خلال المعالجة التدريجية للبُنية العميقة لتجارب الإدراك الحسي -ليس فقط المضامين المحددة التي تُقدمها، مثل القطة أو فنجان القهوة، بل وأيضاً كيفية تكشّفها عبر الزمن والمكان- أعتقد أن اللُغز الواضح في لب المشكلة الصعبة بدأ بالتلاشي بالفعل. وهذه العملية تكتسب زخماً عندما نسأل “من” أو “ماذا” يقوم بكل هذا الإدراك – وننظر إلى كون التجربة تجربة ذاتيةً واعية من منظور “المشكلة الحقيقية” نفسها.
خلافاً لما قد تبدو عليه الأمور، الذات ليست جوهرك Essences-of-you الذي من مكان ما داخل الجمجمة يختلس النظر عبر نوافذ الحواس. وبدلا عن ذلك، فإن الذات هي أيضاً إدراكٌ حسي. إن مجموعة تجارب الإحساس بأن “تكون أنت” هي عبارة عن مجموعات من أفضل التخمينات المستندة إلى الدماغ، وفهم هذا يزيد من تقويض ثنائية الحدس Dualistic intuitions الذي تستند إليه المشكلة الصعبة.
وكما أن للوعي جوانب كثيرة، هناك أيضاً عدة طرق نخبرها كبشر. بمقدورنا تنظيم هذه الأمور ضمن تسلسل هرمي فضفاض، بدءاً من تجارب المستوى المنخفض بالشعور بكوننا جسداً مادياً، مروراً بتجارب رؤية العالم من منظور شخص واحد بعينه، والنوايا الواعية Conscious intentions لتنفيذ أشياء (ما قد نطلق عليه تجارب الإرادة الحرة Free will)، وصولاً إلى الخبرات أن تكون شخصاً متكاملا على مر الزمن ضمن بيئة اجتماعية وثقافية ثرية – باسم وهوية ومجموعة من الذكريات. كما جادلتُ ذلك في كتابي، فإن كل جانب من هذه الجوانب من الفردية Selfhood يمكن فهمها على أنها شكلٌ مميز من الهلوسة المُتحكَّم بها.
الآن، لننتقل إلى أهم الجوانب الأساسية للفردية الواعية: تجربة أن تكون جسماً. وانظر إلى هذا على أنه شعور بدائي Rudimentary بأنك كائن حي -يُعبر عنهُ جزئياً بالعواطف والحالات المزاجية، ولكنه موجود في أعمق الطبقات ومن دون أي محتوي يمكن وصفه.
وهنا يبرز تصور الجسم من الداخل، المعروف بـ “الحس الداخلي” Introception. والأحاسيس الداخلية تخبر الدماغ عن الحالة الداخلية لضغط الدم في الجسم، على سبيل المثال، أو كيف يعمل القلب ــ ومن ثم تُمكّن الدماغ من أداء مهمته الأكثر أهمية: إبقاء الجسم على قيد الحياة.
ماكينات متوحشة
مثل جميع الإشارات الحسية، فإن إشارات الحس الداخلي لا ترتبط إلا ارتباطاً غير مباشر بأسبابها، ولذا يتعين أن ينطوي الحس الداخلي على عملية تقوم على أفضل تخمين. وكما أن الدلالات حول أسباب الإشارات البصرية تدعم التجربة البصرية، فإن اقتراحي هو أن الحسُ الداخلي يدعم أنواعًا أخرى من التجارب: في هذه الحالة الشعور بالجسد والعواطف والمزاج.
قد يبدو هذا الاقتراح ليس أكثر من مُجرد تلميع معاصر لبعض الأفكار القديمة التي تنص: أن الأحاسيس تنطوي على إدراك التغيرات في الحالة الفسيولوجية للجسم. ولكن هناك ماهو أكثر من ذلك. باتباع منطق إستراتيجية المشكلة الحقيقية، فإن الفوارق بين التجارب الحسية والتجارب البصرية يمكن فهمها الآن من حيث الأنواع المختلفة لتنبؤ الإدراك الحسي الفاعل. وتهتم التجارب البصرية للأجسام بصورة عامة بفهم ما هو موجود، فتفهم أن تجارب الإدراكُ الحسي المقابلة لها هي عبارة عن خاصية لأشياء ذات مواضع وحدود مادية محددة. فعلى العكس من ذلك، فإن التجارب العاطفية معنية عموما بالحالة الفسيولوجية للكائن وإحتمالات بقائه حياً. هذه التجارب -وتجارب كونك جسما بشكل عام- ليس لها أشكال وأماكن في الحيز المكاني، بل لها قدرة تكافؤ Valence: مما يعني في علم النفس أن الأشياء إما تكون جيدة أو سيئة في الحاضر، أو من المُحتمل أن تكون جيدة أو سيئة في المستقبل. وهذا هو ما عليه الشعور بالعواطف.
ومحصلة كل هذا هو أن أعمق طبقات الفردية Selfhood ترتبط ارتباطاً وثيقاً بطبيعتنا المادية ككائنات حية. فالتنبؤات الباطنية Interoceptive predictions التي تُشكل أساس كل التجارب المرتبطة بالذات وجدت لتنظيم حالتنا الجسدية الداخلية Internal bodily state ــ لإبقائنا على قيد الحياة. ومن هذا يتبع كل شيء آخر. إن كل إدراكاتنا وتجاربنا -سواءً عن الذات أم عن العالم- هي عبارة عن هلوسات متحكم فيها من الداخل إلى الخارج، وهي متأصلة ضمن آلية اللحم والدم التي تطورت ونمت وعملت من لحظة إلى أخرى في ضوء دوافع بيولوجية أساسية للبقاء على قيد الحياة. نحن ندرك العالم وذواتنا من خلال أجسامنا الحية وبسببها. ولإعادة تحوير مصطلح آخر من مصطلحات ديكارت: نحن “ماكينات متوحشة” واعية تماما.
هذه الطريقة في التفكير حول الوعي والذات تحوِّل Transforms المعالجة التنبؤية من كونها نظرية لعلم الوعي إلى نظرية للوعي -عن سبب كوننا ما نحن عليه وعن طبيعة جميع تجاربنا. وهناك العديد من التضمينات النابعة من ذلك. الأكثر أهمية من ذلك هو أن العلاقة بين العقل والحياة لا تقتصر على أن الألغاز الظاهرة يُتَوَقَّعُ أن تتلاشى عندما يجري نقاربها بالطريقة الصحيحة. هناك استمرارية أعمق بكثير ينبغي العثور عليها هنا، مما يعني بدوره أن الوعي قد يكون أكثر شيوعاً بين أشكال الحياة الأخرى مما نعتقد، وأقل عرضة لأن يتمظهر متجسدا في دوائر الذكاء الاصطناعي Artificial intelligence اللاجسدية، مهما كانت هذه الدوائر متقدمة.
السؤال الذي أطرحه على نفسي باستمرار هو أين سيقود كل هذا. هل ستتلاشى المشكلة الصعبة تماماً لتختفي في نفحة من الدخان الميتافيزيقي؟ أم ستبقى بقايا من الغموض عصية على التفسير؟ وفي كلتا الحالتين، فإن معالجة مشكلة الوعي الحقيقية من المرجح أن تُقدم قدراً أكثر بكثير من التقدم مقارنة بتوقيرها باعتبارها لُغزاً سحرياً أو رفضها باعتبارها مشكلة وهمية لا علاقة لها بها. وهذا هو الوعد الحقيقي للمشكلة الحقيقية. وحيثما تأخذنا الرحلة في نهاية المطاف ستحول فهمنا لتجاربنا الواعية للعالم من حولنا ولذواتنا فيه.
نظريات الوعي
ركز الباحثون في الأيام الأولى من علم الوعي الحديث في تسعينات القرن العشرين على تحديد العلاقات التجريبية Empirical correlations بين جوانب التجربة الواعية وخصائص النشاط الدماغي. وقد ركز هذا البحث عن “الارتباط العصبي للوعي” Neural correlates of consciousness الذي كان مدفوعاً جُزئيا كردة فعل على المخاوف الشائعة خلال معظم القرن العشرين، والتي تلخصت في أن الوعي يتموضع خارج نطاق العلم تماماً. ولكن على الرُغم من تحقيق العديد من النجاحات، إلاّ أن هذا النهج محدود لأن الارتباطات لاتُعتبر تفسيرات، بغض النظر عن عدد الارتباطات التي يتم تحديدها.
ولكن في السنوات الأخيرة ازدهر العديد من النظريات البيولوجية العصبية للوعي. وهذه دلالة على النضوج المتنامي للمجال، لأنه فقط عندما يجري صياغته من حيث النظرية، فإنه يمكن للنتائج تجريبية أن تُقدم فهماً مُرضيا للوعي.
حالياً هناك أربعة نهج نظرية رئيسية تفضي إلى تفسيرعلم الوعي. طبقاً لنظريات الرتبة اللعليا Higher-order theories، تكون هناك حالة عقلية واعية عندما تخبرنا حالة عقلية أخرى – أعلى في التسلسل الهرمي- بأنها موجودة. في هذه النظريات تكمن المشكة في أي شكل من أشكال تفاصيل أنواع التمثيلات “الأعلى رتبة” “Higher-order” representations تفسر الوعي. وتقترح نظريات مساحة العمل العامة Global workspace theories أن الحالات العقلية تكون واعية عندما يتم بثها على نطاق واسع في جميع أنحاء الدماغ ، بحيث يمكن استخدامها لتوجيه السلوك بمرونة. وإحدى الطرق الجيدة للتفكير في نظرية مساحة العمل العامة هي أن الوعي يعتمد على “الشهرة في الدماغ” Fame in the brain- فالحالات العقلية الواعية لديها القدرة على الوصول إلى مجموعة واسعة من العمليات الإدراكية بطرق تعجز بها الحالة العقلية اللاواعية. وتركز هاتان النظريتان على الجوانب الوظيفية للوعي Functional aspects، وتركزان على المناطق الأمامية Frontal (في الأمام) والمناطق الجدارية Parietal (نحو الخلف وإلى الجانبين) من الدماغ.
على العكس من ذلك، تركز نظرية المعلومات المتكاملة Integrated information theory على الجوانب الفينومينولوجية من الوعي -على المستوى التجريبي Experientially – وتقترح أن الوعي يرتبط بـ”منطقة ساخنة”Hot zone في القشرة الجدارية الخلفية Posterior cortical التي تقع في الجزء الخلفي من الدماغ وتتضمن أجزاء من الفصوص الجدارية Parietal والصدغية Temporal والقذالية Occipital. وطبقاً لهذه النظرية، فإن الوعي يعتمد على مدى قدرة النظام على توليد معلومات متكاملة.
أما النهج الرابع والمعروف بالمعالجة التنبؤية Predictive processing ؛ فهو نهج أكثر مباشرة، فيستخدم أساساً لبناء جسور تفسيرية بين جوانب الوعي وآلياته العصبية الأساسية. وهناك عدة أمثلة حول هذا النهج تتراوح بين تلك التي تربط الوعي بالإشارة من أعلى إلى أسفل في الدماغ ونظرية “ماكينات متوحشة” (انظر: المقالة الرئيسية). وتقوم هذه النظريات على فكرة أنهُ من خلال تفسير مختلف جوانب الوعي تدريجياً فمن المحتمل في نهاية المطاف أن تتحول من كونها نظريات لعلم الوعي إلى كونها نظريات للوعي نفسه.
بقلم: أنيل سيث
ترجمة: شوان حميد
© 2021, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC