عاصمة إندونيسيا المثالية الجديدة ربما لا تكون خضراء كما تبدو
نقل الحكومة إلى بورنيو قد يسرِّع من إزالة الغابات
ستبدأ إندونيسيا ببناء عاصمتها الجديدة نوسانتارا Nusantara، لكن موقعاً إلكترونياً حاذقا يظهر ما يفكر البلد فيه. ويظهر الفيديو أناساً يتمشَون في ممرات ضمن نباتات خضراء كثيفة، وبيوتاً تقع على ساحل بحيرة رائعة، وأبنية حديثة جداً، وخطوط نقل عام مبنية على منصات عالية، ودراجات تسير في شوارع محاطة بالأشجار. ويهيمن على المدينة تجمع من الأبنية الضخمة، بما في ذلك قصر رئاسي على شكل الطير الأسطوري غارودا Garuda شعار إندونيسيا الوطني.
العاصمة الجديدة التي وافق مجلس النواب الإندونيسي في 18 يناير 2022 على بنائها على الساحل الشرقي لبورنيو ستحل محل العاصمة جاكارتا، المزدحمة بالسكان والمهددة دوماً بالفيضان في جزيرة جاوا Java. ويتخيل المخططون بيئة مثالية لنوسانتارا التي تعني: أرخبيل Archipalego. سيكون السكان جميعهم ضمن مسافة عشر دقائق مشياً من أماكن الترفيه الخضراء. وستسخدم الأبناية الشاهقة كلها أسلوب بناء صديق للبيئة بنسبة 100%، وستكون عالية الكفاءة من حيث استخدام الطاقة. وسيكون الانتقال ضمن المدينة باستخدام النقل العام أو على الأقدام أو بالدراجات بنسبة 80%. وستقدِّم نوسانتارا فرصة << لبناء مدينة نموذجية تحترم البيئة >> كما يقول مخطط المدن سيباراني سفيان Sibarani Sofian الذي يعمل مع ايربارن بلاس Urban + الشركة التي كسبت مناقصة التصميم الأساسي لقلب المدينة الحكومي. ولكن هناك آخرين يلمحون ظلالاً قاتمة ضمن هذه الرؤية المثالية.
<<السؤال الكبير بالطبع هو هل سيحقق المشروع هذه الطموحات وكيف>>، كما تقول كيان غوه Kian Goh التي تدرس تخطيط المدن في جامعة كاليفورنيا University of California بلوس أنجلوس. وتتابع قائلة: << يشكك أغلب المختصين بتخطيط المدن بمخططات بناء مدن ذكية مستدامة من الصفر>>. فمن المحتمل أن تكون تأثيرات التوسع عبر بورنيو بما في ذلك إزالة الغابات << أكبر بكثير من التأثيرات المباشرة ضمن حدود المدينة، ما لم تتم إدارتها بعناية>>، كما يقول الإيكولوجي أليكس ليشنر Alex Lechner من جامعة موناش Monash University في إندونيسيا.
لقد اقترح رئيس إندونيسيا جوكو ويدودو Joko Widodo العاصمة الجديدة في أبريل 2019، وفي نهاية العام اختار الموقع في شرق مقاطعة كاليمانتان Kalimantan. فقد أراد أن ينقل العاصمة أقرب إلى مركز جغرافي للبلاد، وأن يحفِّز النمو الاقتصادي في شرق الأرخبيل بينما يخفف العبء عن جاكارتا. ونظراً لامتدادها على نحو 6300 كم2 ، فإن مساحة محافظة جاكارتا التي تضم أكثر من 31 مليون نسمة هي أكبر تجمع سكاني في جنوب شرق آسيا. فهذا النمو العشوائي أدى إلى ازدحام مروري وتلوث.
العاصمة القديمة تهبط أيضاً. إذ يعتمد كثير من السكان على الآبار ويضخون المياه الجوفية حتى الجفاف، مما يسبب هبوط التربة إلى أكثر من 10 سم سنوياً عند الحافة الشمالية للمدينة على شواطئ خليج جاكارتا – على الرغم من أن مستوى سطح البحر يرتفع بسبب احترار المناخي. وهذه المناطق التي يسكن فيها الفقراء والطبقات العاملة تغمر سنوياً بالفيضانات. فقد قتل فيضان عام 2020 أكثر من 60000 شخص. ومن دون محاولات بطولية للحد من هبوط التربة فستغمر المياه 25% من مساحة العاصمة بحلول عام 2050، كما يقول إدفين آلدريان Edvin Alderian، عالم المناخ Climatologist لدى الوكالة الإندونيسية الوطنية للبحث والابتكار National Research and Innovation Agency. لن يخفَف نقل مقر الحكومة -مع نحو 4.8 مليون من العاملين فيها -كثيراً من مشكلات جاكارتا كما يقول الدريان. كما يقول غوه: << ستبقى جاكارتا المركز الاقتصادي لإندونيسيا….ولابد من معالجة قضاياها الاجتماعية والبيئية.
في هذه الأثناء فالعاصمة الجديدة بتكلفة 32 بليون دولار التي سيبدأ تشييدها قريباً، سيكون لها تأثير بيئي في بورنيو. نوسانتارا التي ستبنى على مراحل حتى عام 2045، ستمتد على مساحة 2560 كم2 -ما يعادل ضعف مساحة مدينة نيويورك. (ستحتل الحكومة مساحة 66 كم2 في قلب العاصمة ). ومثل الولايات المتحدة والبرازيل ودول أخرى بنت عواصم جديدة من الصفر تأمل إندونيسيا بأن تبني مدينة حديثة، مخططة بعقلانية و– في حالة إندونيسيا – خضراء بمحصلة انبعاثات صفرية. ولكن النقَاد يشككون في ذلك لأن قطاع الطاقة المتجددة في إندونيسيا يزوَد حالياً فقط %11.5 من الطاقة الوطنية. ومما يثير قلق جماعات حماية البيئة هو أن نوسانتارا في المرحلة الانتقالية ستعتمد بلا شك على الطاقة من محطات الطاقة العديدة العاملة على الفحم الحجري في كاليمانتان. وعلى الرغم من أن النقل العام المخطَط جيداً قد يبقي السيارات بعيدة عن الطرق، إلا أنه من المحتمل أن تكون هناك رحلات مكثفة بالجو بين العاصمة الجديدة وجاكارتا على بعد نحو 1300 كم.
وسيكون التأثير في إيكولوجية بورنيو ضخماً. وكجزيرة بحجم كاليفورنيا، تحتوي بورنيو على أشجار المنغروف Mangrove الساحلية وغابات ومستنقعات وجبال تقطنها أصناف نادرة ومتوطنة Edemic عديدة. وستقام نوسانتارا نفسها على مواقع أزيلت منها الغابات، وستعتمد على طرق سريعة، وخطوط لنقل الكهرباء، وبنى تحتية أخرى قائمة بالفعل. ولكن المدينة ستقع في الداخل بعيدا عن الشاطئ؛ مما يسمح بإعادة تأهيل المنغروف الساحلي. وستحمى وديان الأنهار مما سينشأ معه ما يدعوه ليشنر <<بالأصابع الخضراء>> Green fingers التي ستتخلل المدينة.
لكن المخاوف هي أن تمتد نوسانتارا إلى أبعد من حدود المدينة وأن تكتسح مساحات أكبر من بورنيو. فتحفيز النمو الاقتصادي هو أحد الأهداف. وبدراسة زيادة الأضواء الليلية لـ 12 عاصمة أعيد تموقعها في السابق -بما في ذلك برازيليا Brasilia ونيبيدو Naypyidaw في ميانمار Myanmar- وجد ليشنر وزملاؤه أنها ازدهرت في البداية بسرعة ثم نمت نمواً أبطاً. ويقول: <<تقترح دراستنا أنه من المحتمل أن تتنامى البصمة البيئية [لنوسانتارا] بسرعة، وأن تتوسع إلى أكثر من 10 كم من مركزها في أقل من عقدين، وإلى أبعد من 30 كم قبل منتصف القرن>>، وذلك وفقا لبحث الفريق المنشور في عام 2020 في مجلة لاند Land.
ومن المحتمل أن تمتد التأثيرات إلى أبعد من ذلك. فالطرق التي تصل برازيليا بمراكز السكان الساحلية في البرازيل <<سهَلت تدمير غابات الأمازون المطيرة>>، كما يقول ليشنر، إذ أتاحت الوصول إلى مقاطعة لم يعكر صفوها النشاط البشري -في السابق- أمام الصيد الجائر للحيوانات البرية، وقطع الأشجار غير القانوني، وإزالة الغابات. بالمقارنة بالأمازون، هناك عدد أقل من المدن التي ستربط ببورنيو التي يسكنها 18 مليون نسمة، لكن <<من الواضح أن المدينة الجديدة ستجتذب أنشطة اقتصادية بما في ذلك إنشاء طرقات جديدة والتي من المعروف أنها ستؤدي إلى إزالة أكبر للغابات>>، كما يقول ديفيد غافو David Gaveau إسيكولوجي المساحات الطبيعية الذي يرأس شركة ذا تري ماب TheTreeMap وهي شركة تدرس إزالة الغابات الأستوائية.
فقدت كاليمنتان Kalimantan وهي الجزء الإندونيسي من بورنيو مسبقاً نحو 30% من غطائها الأصلي من الغابات نتيجة لتطهير الأراضي والحرائق منذ عام 1973، كما يقول غافو؛ مما وضع قردة الأورانغ أوتان (إنسان الغاب) Orangutan والبروبوسيس (المَلمَلة) Proboscis في دائرة خطر الإبادة، كما هدّد ذلك أنواعا Species أخرى. <<يقطع طريق سريع قيد البناء يدعى الرابط الشمالي عبر كاليمانتان Trans-Kalimantan Northern link غابات أصيلة بعيدة في قلب بورنيو>>، كما يقول. ومن المشجع أن القوانين تُطبق بفاعلية أكبر، كما أن إنهاء إنشاء المزارع الجديدة ساعد على خفض عمليات إزالة الغابات في عام 2020 إلى أدنى مستوى لها منذ 17 عاماً، كما يقول غافو، لكن طرقاً جديدة إلى نوسانتارا ومنها قد يعكس هذا الاتجاه.
لم تصرح الحكومة الإندونيسية بالكثير حول العبء البيئي Environmental burden لنوسانتارا. ويأمل غافو وآخرون بأنها ستخفّف من تأثير المدينة بفضل الجهود الطموحة المماثلة لما تقوم به لقلب المد في أماكن أخرى من كاليمانتان. <<الحل يكمن في إعادة الأراضي المتدهورة جميعها إلى طبيعتها الأصلية: غابة>>، كما يقول غافو.
©2022, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved
بقلم: دينيس نورمايل
ترجمة: د. سعد الدين خرفان