أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
أخبار العلومأركيولوجيا

شحن الفايكنغ عاج حيوان الفظ من غرينلاند إلى كييف، كما تظهر جماجم قديمة

حمض نووي قديم يدعم وجود طريق تجاري بطول 4 آلاف كيلومتر

عندما بدأت عالمة الآثار ناتاليا خاميكو Natalia Khamaiko بالحفر لأول مرة في أرض فارغة في 25 شارع سباسكا بكييف في أوكرانيا عام 2007، كانت توقعاتها متواضعة. فالتحريات الأثرية السابقة لم تقدم سوى القليل، على الرغم من مكان الموقع على طول ما كان ذات مرة واجهة بحرية مزدهرة في العصور الوسطى، حيث قايض التجار النورسيون Norse من إسكاندينافيا الفراء مقابل الفضة المسكوكة في العالم الاسلامي.
لكن خاميكو وزملاءها كانوا أوفر حظاً. إذ كشفوا عن طبقة بعد أخرى من المكتشفات الجديدة، والتي حفظت بسبب الفيضانات الدورية من نهر دنيبر Dniepr. وأعطت طبقة منها تعود إلى بدايات القرن العاشر الميلادي سلكاً ذهبياً وأجزاء زجاجية، وقطعاً من العاج المنحوت، وسيفاً حديدياً من ألمانيا، والآلاف من عظام الحيوانات، بما في ذلك تسع قطع ضحمة تبين أنها خراطيم حيوان الفظ Walrus. فهذه الخراطيم والمنحوتات، كما يظهر الحمض النووي DNA القديم، أتت من مجموعة جينية من حيوانات الفظ توجد في غرب المحيط الأطلسي فقط. واقترح الباحثون خطاً تجارياً قديماً مزدهراً بطول 4000 كيلومتر، امتد من غرينلاند وكندا إلى الضفاف الموحلة لنهر الدنيبر.
هذه الاكتشافات «تضيف شيئاً مهماً جداً وغير متوقع» لفهم الباحثين حول التجارة في عصر الفايكنغ والفترة المبكرة من العصور الوسطى، كما يقول سورين سيندباك Soren Sindbaek -آركيولوجي من جامعة أيرهوس Aerhus University، لم يشارك في البحث.
كان عاج الفظ واحداً من أكثر السلع قيمة في العصور الوسطى، وكانت له قيمة كبيرة في أوروبا والعالم الإسلامي، إذ كان يستخدم في مقابض السيوف، وقطع اللعب، والأشياء المقدسة. كانت أنياب الفظ تنقل وهي لا تزال متصلة بخرطوم الحيوان، ثم تفصل عندما تكون جاهزة للنحت. واعتقد العلماء سابقاً أن تجارة العاج في العصور الوسطى كانت محلية، فكان الحرفيون في إسكندينافيا يستخدمون الأنياب من غرينلاند، ونظراؤهم في روسيا الحالية وأوكرانيا يستوردون العاج من القطب المتجمد الروسي. «والاكتشافات من أوروبا الشرقية كانت من حيوانات فظٍ من أوروبا الشرقية»،كما يقول جيمس باريت James Barrett -آركيولوجي من الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوحيا Norwegian University of Science and Technology في تروندهايم.
لكن جماجم الفظ في كييف أظهرت شيئاً آخر. فعندما حلَلت خاميكو وباريت وزملاؤهما الحمض النووي DNA المحفوظ في العظام الكثيفة، وجدوا أن الحيوانات هي من مجموعة عرف أنها تعيش في غرينلاند وشرق كندا فقط. «لقد دهشنا دهشة كبيرة. لم نسمع قطُّ من قبلُ عن اكتشافات كهذه في كييف». خاميكو الآن هي آركيولوجية من الأكاديمية الوطنية للعلوم National Academy of Sciences في أوكرانيا، كما كتبت في رسالة بالبريد الإلكتروني.
طابقت الآثار الكيميائية في عظام الفظ أيضاً عينات الفظ من غرينلاند وآيسلاندا، وليس عينات من بحر بارينتس Barents Sea شمال كييف. وعلامات القطع على أجزاء الجمجمة، والتي ربما صنعت للتزيين أو للمساعدة على نزع الأنياب، شابهت علامات مماثلة وجدت على الاكتشافات الاسكندنافية. أخيراً بالقرب من أنياب الفظ، استعاد فريق خاميكو قبضة من قطع اللعب من لعبة هنفتافل hnefatafl وهي لعبة على تشبه الشطرنج شاعت في شمال أوروربا في ذلك الوقت، أحدها صنع من عاج الفظ. «تبدو مشابة تماماً لقطع مشابهة وجدت في الدول الإسكندنافية»، كما كتبت خاميكو.
تقترح هذه الأدلة مع بعضها البعض أن عظام الفظ في كييف تعود إلى غرينلاند أو حتى إلى جزر كندا القطبية، بدلاً من شمال روسيا، كما نشر الباحثون في أبريل 2022 في دورية الجمعية الملكية Proceedings of the Royal Society. «إنها نتيجة مقنعة ومدهشة أيضاً»، كما يقول سيندبك.
في دراسة أبكر، أظهر بعض من المؤلفين أنفسهم أن جماجم الفظ من غرينلاند في أوروبا صارت أصغر باستمرار ما بين 1000 ميلادية و1400 ميلادية، مما يقترح أن الصيادين النورسيين كانوا يلجأون إلى الإناث والحيوانات الأصغر مع تناقص أعداد الفظ. وقد تساعد النتائج الجديدة على تفسير اصطياد الفظ في غرينلاند صيدا جائرا، كما يقول باريت. «حيوانات الفظ المسكينة في غرينلاند… لم تكن تزود أوروبا الغربية فقط. لقد زودت أوروبا الشرقية والامبراطورية البيزنطية أيضاً عبر كييف وربما الطلب من العالم الإسلامي».
يمكن لتناقص أعداد الفظ أن يساعد على تفسير هجران المستعمرات النورسية في غرينلاند في الفترة 1300 و1400م، مع اضطرار الصيادين إلى القيام برحلات خطرة لمطاردة الأعداد المتناقصة – والأكثر بعداً كذلك- باستمرار من حيوانات الفظ. «إنه مثال غير عادي عن الاستغلال البشري»، كما يقول سيندبيك. ويتابع قائلا: «لقد عرفنا مسبقاً أن عاج الفظ كان سلعة مهمة، لكنه كان من الصعب علينا معرفة المدى الذي نتكلم عنه».
تدعم الاكتشافات أيضاً سجلات تاريخية عن شبكات التجارة من عصر الفايكنغ. فقد شحن صيادو الفظ النورسيون العاج من غرينلاند إلى مدن على الأطراف الغربية من أوروبا، بما في ذلك تروندهايم ودبلن. ومن هناك كان العاج يشحن عبر بحر البلطيق وجنوباً عبر نهري الفولغا والدنيبر إلى البحر الأسود. «وبموقعها الاستراتيجي على نهر دنيبر كانت كييف مركز التجارة بين أوروبا والشرق»، كما يقول باريت وقلب دولة كييف روس التي نشأت في القرن التاسع.
أما فيدر آندروشوك Fedir Androschuk -آركيولوجي ورئيس المتحف الوطني للتاريخ الأوكراني National Museum of the History of Ukraine والذي لم يشارك في البحث- فيقول إن الاكتشافات الجديدة أثرى من السلع التجارية النموذجية. ويحاجج في أن 35 شارع سباسكا كان مملوكاً من عائلة روريك Rurik الملكية التي حكمت دولة كييف روس، والتي كان مسكنها الملكي في أعلى الهضبة. «وهناك دليل مكتوب حول العلاقات بين الحاشية الملكية الدانماركية وأمراء كييف في القرن الثاني عشر». ويقول آندروشوك: «اعتقد أن عاج الفظ … كان هدية تشير إلى العلاقات بين نُخب الدانمارك وكييف الروس».
انتهت التنقيبات في 35 شارع سباسكا منذ عقد. لكن تحليل المكتشافات منها يستمربإخبارنا قصة متينة عن مدينة ذات صلات قوية في العصور الوسطى المبكرة. «كانت كييف مركزاً تجارياً ضخماً. ومالكو تلك المنازل كانت لهم صلات بالعالم الواسع»، كما تقول خاميكو.

 

بقلم أندرو كاري

ترجمة د. سعد الدين خرفان

© 2022, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى