كم من الزمن يستغرق التطور؟ يحدث ذلك على مقياسين زمنيين مختلفين
لفهم حقيقة أن التكيف يمكن أن يحدث بسرعة وأن التغيير التطوري الحقيقي يبدو كأنه يستغرق زمناً إلى الأبد، يقترح البيولوجيون أن التطور يعمل على ساعتين مختلفتين تماماً
بمقاييس عمر الإنسان، فإن الزمن نفسه طويل لدرجة مدهشة. إذا ضغطت 4.5 بليون سنة من بداية وجود الأرض في فترة 24 ساعة، فسوف تمر أكثر من ثلاثة ملايين سنة كل دقيقة. ستنقرض الديناصورات في الساعة 11.39 مساءً و48 ثانية. سيبدأ تاريخ البشرية عُشرَين من الثانية قبل منتصف الليل.
والنطاقات الزمنية Timescales الهائلة التي كان لها دور في ماضي الكون تتناقض مع الأمور التي تبدو بديهية لنا. حتى عندما أثبت الرواد الأوائل للجيولوجيا والبيولوجيا التطورية بما لا يدع مجالاً للشك في أن الأرض كانت قديمة جداً، كان لا يزال هناك الكثير ممن يعتقد أن عمرها لا يزيد على بضع عشرات من القرون.
كان تشارلز داروين Charles Darwin، كالعادة، سابقاً لعصره. فقد أدرك أن بضعة آلاف من السنين لم تكن كافية لتحويل سمكة بدائية، مثلاً، إلى طائر من طيور الجنة Bird of paradise أو عشبة صغيرة إلى شجرة بلوط عظيمة. تطلب الأمور دهوراً. كما كتب في كتابه أصل الأنواع The Origin of Species، «لا نرى شيئاً من هذه التغييرات البطيئة أثناء حدوثه، إلا بعد أن عقرب الزمن عبر عصور طويلة».
وقد كان ذلك هو الرأي السائد لفترة طويلة، كما يقول ماثيو بينيل Matthew Pennell، من جامعة كولومبيا البريطانية University of British Columbia في كندا. في الواقع، كان البيولوجيون قلقين من أن معدل التطور بطيئاً جدا إلى درجة لا نستطيع معها تفسير ثورة التنوع البيولوجي Biodiversity التي رصدوها في العالم. كن الآن، انقلبت المشكلة رأسا على عقب. إذ يقول بينيل: «لقد وجدنا أساساً على مدى الثلاثين عاماً الماضية أن التطور على نطاقات زمنية صغيرة قد يكون سريعاً جداً لتفسير أنماط التنوع في نطاقات زمنية أطول». ويقول لوك هارمون Luke Harmon، من جامعة أيداهو University of Idaho: «العديد من الألغاز العظيمة في التطور ليست سبب حدوث التغيير، ولكن سبب فشل حدوثه».
يُسمى هذا بمفارقة الركود Paradox of stasis. إذا نظرنا إليها من خلال عدسة الزمن السحيق Deep time- فترة مليون سنة أو أكثر – فإن التغيير التطوري Evolutionary change يحدث ببطء جليدي، إذا حدث أصلاً. ولكن عندما يقيس البيولوجيون معدلات التغيير قصيرة المدى – وتسمى أيضاً التطور الصغروي Microevolution، والتي تحدث على مدى سنوات إلى عقود – فهي سريعة وملحوظة.
وفي عام 2011 وجدت دراسة عن حجم جسم الطيور والثدييات والزواحف، مثلاً، أنها يمكن أن تكبر وتتقلص بدرجة كبيرة خلال بضعة أجيال. لكن هذه التغييرات لا تستمر. ووجدت الدراسة أن تطوير تغييرات دائمة يستغرق مليون جيل أو أكثر. وكان داروين على حق: الانتخاب (الانتقاء) الطبيعي Natural selection هو ما كان يقود التطور طوال الوقت، ومع ذلك فإن التطور نفسه يسير بحذر.
تتساءل عن السبب؟ أحد الاحتمالات هو أن التطور قد تعجّل بمرور الوقت وهو الآن يجري أسرع من أي وقت مضى. فهذا يفسر سبب تقدم العمليات التي يمكن ملاحظتها على مدى بضعة أجيال بسرعة، لكن العمليات التي تتطلب منا البحث في الماضي السحيق كانت أبطأ. ويقول هارمون إن هذا ليس غير قابل للتصديق: فالتأثير البشري الكاسح يمكن أن يؤدي إلى تعجيل التطور، وقد اقترح بعض العلماء أن التطور يتسارع أيضاً مع زيادة إجمالي التنوع البيولوجي للأرض. لكن لا يفسر أي منهما سبب سير التطور الصغروي بالمعدل السريع نفسه في كل مكان، وليس فقط في مناطق الخاضعة لتأثير بشري أو تنوع بيولوجي مرتفعين.
التفسير الأكثر ترجيحاً هو أن التطور يستجيب بسرعة للاضطرابات البيئية قصيرة المدى. هذه الاضطرابات لا تدوم طويلا – ولا التغييرات التطورية التي تحدثها. عبر الفترات الزمنية الطويلة، تكون البيئات مستقرة جداً ولا تحتاج الأنواع Species الملائمة Fit بالفعل، بالمعنى الدارويني، إلى التغيير للبقاء كما هي عليه. إنها لا تقفز قفزات مستديمة إلا عندما تتطلب التحولات البيئية الكبرى القيام بذلك.
وهذا يفسح المجال أمام إمكانية أن تكون الحياة على الأرض أكثر قدرة على التكيف مع التغير البيئي السريع مما قد نعتقد أنها قادرة عليه. ويقول بينيل إنه من الصحيح بلا شك أن التكيف يحدث أسرع حيث يكون التأثير البشري أقوى، كما هي الحال في المدن. لكن هذا لا يعفينا من ذنب تأثيرنا في الطبيعة. عملية التطور قادرة على ذلك، لكنها تحتاج إلى مادة خام من التنوع الجيني لكي تعمل، وربما لا يكون ذلك متاحاً، خاصة مع التنوع البيولوجي الذي يعاني التدهور الحاد بالفعل. الانقراض الجماعي Mass extinction يلوح في الأفق – لكنه سينتهي في غمضة عين. فعادة ما يستغرق التعافي من حالات الانقراض الجماعي لعدة ملايين من السنين. ما هذه إلا مجرد دقائق قليلة في العرض اللانهائي للزمن السحيق.
بقلم غرايام لاوتون
ترجمة مي منصور بورسلي
© 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.