باحثو الاندماج النووي يحققون خطوة تاريخية في مجال الطاقة
لأول مرة، أنتج تفاعل الاندماج المتحكم فيه طاقةً أكثر مما ضخ في تشغيل النظام، مما يجعل الطاقة الناتجة من الاندماج أقرب بخطوة أخرى إلى الواقع
أكد الباحثون، لأول مرة على الأرض، أن تفاعل الاندماج المتحكم فيه Controlled fusion reaction قد ولّد طاقة أكثر مما تطلَّبه لتشغيل المفاعل. تعد التجربة خطوة رئيسية نحو إنتاج طاقة اندماج على المستوى التجاري Commercial fusion power لكن الخبراء يقولون إنه لا يزال هناك جهد هندسي كبير مطلوب لزيادة الكفاءة وتقليل التكلفة.
ظهرت شائعات عن التجربة في مختبر لورانس ليفرمور الوطني Lawrence Livermore National Laboratory (اختصاراً: المختبر LLNL) في كاليفورنيا في 11 ديسمبر 2022، ولكنه أعلن عن الخبر رسمياً في مؤتمر صحافي اليوم 14 ديسمبر 2022. في تجربة أجريت في 5 ديسمبر، أنتج مفاعل الاندماج الوطني للاشتعال National Ignition Facility (اختصاراً: المفاعل NIF) -التابع للمختبر LLNL- طاقةً إنتاجية تعادل 3.15 ميغا جول من ليزر ذي طاقة 2.05 ميغا جول – أي بزيادة تعادل نحو
150 %. ومع ذلك، فإن هذا أقل بمراحل من بلوغ ما يقرب من 300 ميغا جول توفرها من الشبكة الكهربائية لتشغيل الليزر في المقام الأول.
هناك نهجان رئيسيان للبحث يهدفان إلى تحقيق اندماج نووي قابل للتطبيق. يستخدم أحدهما المجالات المغناطيسية لاحتواء البلازما Plasma، في حين يستخدم الآخر الليزر. يستخدم المفاعل NIF الطريقة الثانية، والمعروفة بالاندماج بحصر القصور الذاتي Inertial confinement fusion (اختصاراً: الاندماج ICF)، حيث يتم
تفجير كبسولة صغيرة تحتوي على وقود الهيدروجين بالليزر، مما يؤدي إلى تسخينها وتمددها بسرعة.
هذا ينتج تفاعلاً مساوياً ومعاكساً نحو الداخل، مما يؤدي إلى ضغط الوقود. وبعد ذلك تندمج نوى ذرات الهيدروجين معاً لتكوين عناصر أثقل، ويتم إطلاق بعض كتلتها كطاقة – تماماً كما هي الحال في الشمس.
حتى الآن، تطلبت جميع تجارب الاندماج مدخلات طاقة أكثر مما تولده. سجِل المفاعل NIF السابق، وهو ما تم تأكيده في أغسطس من هذا العام، أنتج مخرجات تعادل 72 % من مدخلات الطاقة لأجهزة الليزر المستخدمة. يؤكد الباحثون في هذا الخبر على أنهم لم يصلوا فقط إلى نقطة التعادل الحاسمة Crucial break-even، بل تجاوزوها – حتى وإن كنت تتجاهل الطاقة اللازمة لتشغيل الليزر. خلال المؤتمر الصحافي، قال جان ميشيل دي نيكولا Jean-Michel Di-Nicola من المختبر LLNL إنه في ذروة الطاقة – التي يحققها المفاعل NIF فقط لبضعة أجزاء من البليون من الثانية – تستهلك أشعة الليزر 500 تريليون وات Watt، وهو ما يمثل طاقة أكبر من ناتج الشبكة الوطنية الأمريكية بكاملها.
وقالت أراتي برابهاكار Arati Prabhakar، مديرة السياسات في مكتب العلوم والتكنولوجيا Office of Science and Technology بالبيت الأبيض، إن الوصول إلى هذا الإنجاز كان «مثالاً رائعاً لما يمكن أن تحققه المثابرة» وأن النتائج تقربنا خطوة من إنتاج الطاقة للاندماج.
«لم يستغرق الأمر جيلاً واحداً فحسب، بل استغرق أجيالاً من الناس لتحقيق هذا الهدف. فبمثل هذه الثنائية في تطوير البحث، وبناء الأنظمة الهندسية المعقدة مع بعضها بعضا، يتعلم كلا المجالين من بعضهما البعض – هذه هي الطريقة التي نقوم بها بأشياء صعبة كبيرة، لذلك هذا مجرد مثال جميل»، كما قالت.
يقول جيريمي شيتيندين Jeremy Chittenden من إمبريال كوليدج لندن Imperial College London إن التجربة لحظة تاريخية لأبحاث الاندماج. يقول شيتيندين: «إنها علامة فارقة يسعى كل فرد في مجتمع الاندماج إلى تحقيقها منذ 70 عاماً حتى الآن… وهو إثبات رئيسي للنهج الذي كنا نطوّره -لعملية الاندماج ICF- منذ 50 عاماً تقريباً. إنه أمر مهم جداً».
يتم حالياً صب معظم استثمارات الاندماج في النهج البديل للحبس المغناطيسي Magnetic confinement، ولا سيما تصميم مفاعل يسمى توكاماك Tokamak. بدأ مفاعل توروس الأوروبي المشترك Joint European Torus (اختصاراً: المفاعل JET) بالقرب من أكسفورد في المملكة المتحدة، العمل في عام 1983. عند تشغيله، كانت النقطة الأكثر سخونة في المجموعة الشمسية، حيث تصل إلى 150 مليون درجة سيليزية (270 مليون درجة فهرنهايت). في وقت سابق من هذا العام، استمر المفاعل JET بتفاعل ردة فعل لمدة 5 ثوان، مما أدى إلى إنتاج 59 ميغا جول من الطاقة الحرارية.
أما البديل الأكبر والأكثر حداثة، المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي Thermonuclear Experimental Reactor (اختصارا: المفاعل ITER) في فرنسا، فهو على وشك الانتهاء، ومن المقرر أن تبدأ تجاربه الأولى في عام 2025. وهناك مفاعل آخر يستخدم التصميم نفسه، وهو جهاز توكاماك كوريا فائق التوصيل للأبحاث المتقدمة Korea Superconducting Tokamak Advanced Research (اختصاراً: المفاعل KSTAR)، وقد تمكن مؤخراً من الحفاظ على التفاعل لمدة 30 ثانية عند درجات حرارة تزيد على 100 مليون درجة سيليزية.
قالت مدير المختبر LLNL، كيم بوديل Kim Budil، في المؤتمر الصحافي إن التأخير بين التجربة والإعلان كان بسبب الاستعانة بفريق من خبراء مستقلين لمراجعة البيانات من قبل الأقران. وقالت إنه تم تأكيد ذلك الآن، ومن المحتمل أن نصل إلى إنشاء محطة طاقة قائمة على الليزر في غضون «عقود قليلة»، لكن تكنولوجيا مفاعلات توكاماك أكثر نضجاً.
قالت «هناك عقبات كبيرة جداً، ليس فقط في العلم، ولكن في التكنولوجيا». «هذه كبسولة إشعال واحدة، مرة واحدة، ولتحقيق طاقة الاندماج بمستويات تجارية،
عليك القيام بأشياء كثيرة؛ يجب أن تكون قادراً على إنتاج العديد والعديد من عمليات الإشعال الاندماجي في الدقيقة، ويجب أن يكون لديك نظام قوي من محركات الليزر لتمكين ذلك».
حالياً، يمكن تشغيل مفاعل NIF لفترة قصيرة جداً، ثم يتعين قضاء عدة ساعات في تبريد مكوناتها قبل أن تتمكن من تشغيلها مرة أخرى. ويقول تشيتيندين إن الأساليب التي يتم تجربتها من قبل الشركات التجارية الناشئة الجديدة قد تثبت أنها طريقة أفضل للمضي قدماً.
كما يضيف تشيتيندين قائلا: «إذا تمسكنا بمحاولة القيام بذلك من خلال مشروعات ضخمة الحجم، والتي تتطلب بلايين الدولارات لإنشائها وعشرات السنين للتطوير، فإن إنتاج الطاقة بالاندماج ستكون متأخرة جداً ولن تساعد على تغير حل مشكلة تغير المناخ… ما أعتقد أننا بحاجة إلى فعله حقاً هو التركيز على زيادة تنوع الأساليب حتى نتمكن من محاولة العثور على شيء له تأثير أقل تكلفة، وتحول أسرع، حتى نتمكن من الحصول على نتيجة في 10 أو 15 سنوات من الزمن».
إضافة إلى توفير بيانات لا تقدر بثمن للمهندسين الذين يعملون على تصاميم المفاعلات العملية، يقول تشيتيندين إن نتائج المفاعل NIF يمكن أن تؤدي إلى تطورات أخرى في الفيزياء، حيث تبدو التفاعلات أكثر كثافة وسرعة من تلك الموجودة في شمسنا، وأكثر شبهاً بتلك التي تحدث في سوبرنوفا (مستعر أعظم) Supernova. يقول: «نحن نعمل عند الحدود القصوى من حيث درجات الضغوط والكثافات ودرجات الحرارة التي لم نتمكن من الوصول إليها في المختبر من قبل… هذه عمليات تسمح لنا بدراسة ما يحدث في الحالات القصوى للمادة في الكون».
يقول جيانلوكا ساري Gianluca Sarri، من جامعة كوينز بلفاست Queen’s University Belfast، إن النتائج ستسمح لجميع الباحثين في الاندماج بالمضي قدماً، آمنين بمعرفة أن استخراج الطاقة من الاندماج أمر ممكن.
«الآن صار الأمر مجرد -وأشدِّد على «مجرد» تحديداً- مسألة تحسين وتعديلات فنية. من الواضح أن هذا لن يحدث غداً لأن هناك مشكلات فنية. ما زلنا بعيدين عن المفاعل. لكننا نسير على الطريق الصحيح. «فيما يتعلق بالطاقة النظيفة Clean energy»، يعد بحث الاندماج Fusion research هذا بالتأكيد أكثر الطرق طموحاً، ولكنه في النهاية سيكون أكثر فائدة لأن كمية الطاقة التي يمكنك إطلاقها لا حدود لها».
يقول ساري إن حدسه هو أن المفاعلات الأولى العاملة ستكون أجهزة توكاماك، لكنه لا يزال لأبحاث الاندماج ICF دورٌ حيويٌّ تؤديه. «كلا المسارين يجب أن يمضيا قدما، لأنهما يعلّمان بعضهما البعض. هناك قدر كبير من تبادل المعلومات بين النظامين … فالطريقة التي يعملون بها، من حيث المفهوم، متشابهة»، كما يقول.
© 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.
بقلم ماثيو سباركس